كان على المراقبين والمتابعين للسياسة وحركة التحالفات ألاّ يفاجئهم وصف ميشال عون علاقته بـ”حزب الله” بأنّها “تكامل وجود”. ولا أن يفاجئهم وصف حسين خليل، مساعد حسن نصرالله، للإختلاف حول التمديد لمجلس النوّاب بأنّه “من الصغائر العابرة”.
مَنْ يعرف طبيعة العلاقة وعمقها بين الطرفين، لا يفاجئه قولاهما، ولا يعتبرهما ردّة فعل على انهيار ورقة عون الرئاسيّة، ومجرّد انتقام من سعد الحريري وسائر 14 آذار. ومَنْ يستعيد بالذاكرة ظروف نشأة تحالفهما وتطوّره، يُدرك أنّ الرباط بينهما تعدّى نصّ “ورقة التفاهم” الموقّعة في 6 شباط 2006. في البداية، كان عون يُصرّ على تسمية الورقة “تفاهماً”، ويرفض وصفها بالتحالف، ويوعز إلى نوّابه والمتحدّثين باسمه أن يصفوها بمجرّد تفاهم على بعض الأمور، والإصرار على القول إنّ تيّارهم ليس من “8 آذار”، بينما هو في صميمه، بل على يمينه.
وفي الأساس، كان لي رأي مخالف ذَهَب إلى عمق الإرتباط وكَشَف بالأدلّة والوقائع الأبعاد التي يُخفيها النصّ الملتبس الوارد في البند العاشر حول سلاح “حزب الله”، بما يُكرّسه خارج السلطة الشرعيّة، تحت تعبير “قدسيّة السلاح”، والعبارة الغامضة والغائمة “الظروف الموضوعيّة”، والتغييب المقصود للجيش. وسرعان ما تحوّل “التفاهم” إلى غطاء لخمسة انقلابات، وللسادس الحاصل الآن: انقلاب الدواليب في كانون الثاني 2007، انقلاب الاعتصام في قلب العاصمة وتطويق السرايا، إنقلاب 7 أيّار 2008، انقلاب “القمصان السود” في كانون الثاني 2011، والانقلاب المتمادي بالتورّط في سوريّا منذ 2012. أمّا الانقلاب السادس المتمادي أيضاً فنعيشه اليوم، وهو تفريغ الرئاسة الأُولى وشلّ المؤسّسات، إمّا بالتمديد (مجلس النوّاب)، وإمّا بالتفخيخ الداخلي (مجلس الوزراء)، وتحت شعارَي “التكامل” و”الصغائر”.
وأخطر الأغطية، تغطية سلاح “حزب الله” في جولاته الداخليّة والخارجيّة، من حرب تمّوز إلى 7 أيّار إلى الحرب في سوريّا، وفي أيّ حرب أُخرى يتورّط فيها، ولو في العراق واليمن والبحرين وأقاصي الأرض.
كلّ هذه الأغطية العونيّة يوفّرها النصّ الملتبس في البند العاشر من “التفاهم”، وإلاّ لكان على عون أن يعترض أو يرفض انخراط “حزب الله” في الحرب السوريّة لو كان الهدف من البند العاشر الاحتفاظ بسلاحه لمقاومة إسرائيل، كما يوهم ظاهر النصّ. لكنّ التدقيق فيه يجعل من السلاح طليقاً في كلّ الحروب. في الحقيقة، رهن عون نفسه وقراره وسياسته لقرار “الحزب”، بحيث لا يستطيع الفكاك من أسره، وقد حانت له مناسبات كثيرة لتبرير فكّ الرباط، لكنّه لم يقدر، ولو أراد. وقد جاء وصف التمديد بأنّه من “الصغائر” ليؤكّد أنّ ما جمعه “التكامل الوجودي” لا يفرّقه أيّ خلاف. فكلّ التمايزات غبار مناورات. كلّ ما عدا ذلك لم يكن سوى بالونات تمويه، بما فيها الانفتاح على سعد الحريري والمشاركة في لقاءات بكركي. الثابت هو ارتباطه المحكم بنصرالله، والمتحوّل هو تقديم نفسه وفاقيّاً أو توافقيّاً أو رجل الحلّ والسلام. “الكبير” هو المشروع “الوجودي”، وكلّ الباقي “صغير”. فأمام “الكبائر” تسقط “الصغائر”!
وقد جاءه موقفان يكرّسان ارتباطه العميق: نصرالله حارقاً مركب الصفة الوفاقيّة حين أعلنه مرشّحه الأوحد، ومعاون نصرالله معلناً “الجسد الواحد” وواصفاً الاختلافات معه بـ”الصغائر” بما فيها التمديد للمجلس، فـ”الكبائر” تجمعهم. وهل هناك “أكبر” من استراتيجيا إيران، تجمع وتحكم وتُلزم؟ إنّ تعبير “التكامل الوجودي” ليس سوى عنوان آخر لما يُعرف بـ”حلف الأقليّات” الذي يشكّل جوهر القوس أو الهلال الإيراني، برغم انكسار هذا الهلال في أكثر من موقع بين العراق وسوريّا ولبنان. والسؤال هو: هل هناك “تكامل وجودي” بين عون و”تيّار المستقبل” بأكثريّته السُنيّة مثلاً؟ وبينه وبين الأكثريّة المسيحيّة التي لا يمثّلها؟ وهل يعنيه التكامل مع الامتداد العربي السُنّي الواسع؟
مع سعد الحريري ومسيحيّي 14 آذار ووليد جنبلاط، يريد فقط علاقة تكتيكيّة مصلحيّة للوصول إلى الرئاسة، بينما علاقته بـ”حزب الله” استراتيجيّة ممكن أن تتحوّل في أيّ لحظة ضدّهم. وهي هكذا في الواقع. المهم هو “وجودهما”، ولو على حساب الشقيق المسيحي والقريب السنّي.
إنّ تطوّر علاقة عون ونصرالله تمّ في الشكل الإعلامي فقط. ففي الأساس هما “متكاملان وجوديّاً”، وكانا يتفاديان الإعلان عن ذلك لضرورات التكتيك السياسي، تماماً مثل تطوّر علاقة عون بالنظام السوري على مدى ربع قرن، من الباطن إلى الظاهر ومن المستور إلى المنشور.
العلاقتان انتقلتا من الحذر والخجل في الإعلان عنهما إلى الانكشاف الكامل، في “وحدة المسار والمصير”، زائد “الوجود” كآخر ابتكار في التوصيف. علاقتان “وجوديّتان” من خارج الدولة والجيش، ومن خارج الميثاق الوطني، ومن خارج العيش المشترك وتوازن المكوّنات، ومن خارج المناصفة. لذلك، يبدو الفراغ الرئاسي، والتمديد، والسطو على أراضٍ مسيحيّة، وموقع مدير الأمن العام، وقتل ضابط، وتجنيد مسيحيّين في “سرايا المقاومة”.. تفاصيل و”صغائر”.
علاقتان انتحاريتان في مآلهما. وبات إنقاذ لبنان محكوماً بفكّ هذا “التكامل الوجودي” المدمِّر.