ماذا بقي من مظاهر الحياة السياسية الديمقراطية في لبنان؟ سؤال مشروع يدور في فكر كل من يتابع بألَم وأسَف موجة “الداعشية” السياسية التي تضرب مؤسسات الدولة فتقطع رؤوسها الواحدة تلو الأخرى وتقطع معها أمامنا كل سُبُل الهروب من الجواب الكارثي: لم يبق من الديمقراطية شيء!
الحكومة الحالية تختزل في تركيبتها هرطقة الهرطقات، فلا هي حكومة ما يسمى “وحدة وطنية” (كون القوات اللبنانية خارجها)، ولا هي حكومة أكثرية تحكم وأقلية تعارض، إنما فريقان مختلفان كليًا في المشروع والولاء يتشاركان السلطة التنفيذية تحت ستار “ربط النزاع”. في مفهومنا للديمقراطية لا نستطيع تصنيف الأحزاب المنضوية في الحكومة إلا بأنها “الموالاة”، ومَن هي خارجها “المعارضة”، أما الهرطقة الحالية غير الطبيعية فلا يمكن لها أن تجتمع ولا أن تستمر إلا بإيعاز خارجي للأطراف التي ارتضت أن يكون لها تبعيّة للخارج، ونعني تحديدًا “تيار المستقبل” السعودي و”حزب الإرهاب المنظم” الإيراني، مع اقرارنا بالفارق الكبير بين مشروعَي الفريقَين. فمتى بلغ الخلاف السعودي-الإيراني ذروته انفرط عقد الحكومة وطالما أنهما على تنظيم خلافهما فالحكومة مستمرّة.
بالنظر الى مجلس النواب الذي يُفترض أن يكون المؤسسة الديمقراطية الأم بما أن أعضاءه منتخبون مباشرة من الشعب وتنبثق عنهم الرئاستَين الأولى والثالثة… فالكارثة ماثلة للعيان لا ينكرها إلا متعامٍ؛ مجلس اغتال الديمقراطية مرتَين بتمديدَين غير دستوريَين، الأول جرى فيه تعطيل نصاب المجلس الدستوري لعدم إصدار الحكم بالطعن المقدّم فيه والتاريخ يُعيد نفسه اليوم مع الطعن بالتمديد الثاني. وكما هو الحال بالنسبة لهرطقة الحكومة كذلك بالنسبة لهرطقة بل جريمة التمديد حيث تواطأ التيار السعودي مع الحزب الإيراني لتمرير التمديد بما يعكس ويترجم بلا ريب رغبة أسياد الخارج، وقد تمّ ذلك بلُعبة قذرة وُضِع فيها المسيحيون الإستقلاليون في “بوز المدفع” للبصم على تلك الجريمة بحجة “الميثاقية” (التي يستخدمها “بري” استنسابًا عندما تخدم مخطط الحزب الإرهابي ويتجاوزها إذا كان العكس)، جرى بالتالي تخيير المسيحيين الاستقلاليين حصرًا بين “الفراغ والتمديد” ليختاروا التمديد دفعًا للمؤتمر التأسيسي، وكأن لا بديل عنهما متمثِّل بالمعارضة والاستقالة والذهاب الى انتخابات فرعية! تشكّل حِلف التمديد السُداسي (خامِسه الجنرال المكشوف، وسادسته الكتائب ما لم تصدِّق معارضتها باستقالة نوابها). أما “القوات اللبنانية” فكما فعلت بمعارضتها الحكومة والحوار والـ س-س من قبل، كنا نربأ بها عن الدخول في ذلك الحلف وتلطيخ مسارها السياسي المشرِّف والممتاز بوحول السعودية وإيران فلا فراغ إذ التمديد كان سيتم وافقت القوات أم لا لأن قراره إقليمي-دولي، أما المؤتمر التأسيسي فلا شك أن الحزب الإرهابي يسعى إليه وقد صرّح بذلك علنًا عام 2012 لكن وقته برأينا ليس الآن إنما بعد انجلاء غبار المعركة في سوريا بانتصار الشعب عندها سيكون المؤتمر التأسيسي هدف الحزب تعويضًا عن خسارته الأسد.
بقيت رئاسة الجمهورية التي تمثّل منذ 25/5/2014 رأس الدولة اللبنانية المقطوع، حيث يعطل الحزب الإرهابي والتيار العوني انعقاد جلسات الانتخاب والتي تحضر إليها كتلة “أمل” بأمر من الحزب دفعًا لإعطاء التعطيل بعدًا طائفيًا؛ الديمقراطية هنا أيضًا مفقودة، فانتخاب الرئيس بإرادة لبنانية ممنوع وإذا وصل رئيس 10452كلم2م كـ”بشير الجميل” و”رينيه معوّض” فمصيره الموت، وما يجري منذ حقبة الاحتلال السوري للبنان الى اليوم هو عملية تعيين موصوفة تتمّ بكل وقاحة من الخارج ويبصم عليها نواب الداخل؛ هكذا عُيّن رئيسَا(2) حقبة الاحتلال السوري ومُدِّد لهما، وهكذا عُيّن رئيس حقبة الاحتلال الإيراني المستمرة، وهذا ما سيتكرر مع الرئيس المرتقب. وفي رأينا، لولا الإحراج الذي سبّبه الدكتور “سمير جعجع” لسائر أفرقاء التحالف الوهمي لـ14آذار بإعلانه ترشّحه ثم تمسّكه به بعقلانية ووطنية عالية حتى إيجاد البديل، لولا ذلك الإحراج لكان “تيار المستقبل” خضع وتوافق مع الحزب الإرهابي على تعيين رئيس لا يختلف عن سابقيه وفرَضه على المسيحيين واللبنانيين أجمعين كما فرَض التمديد لمجلس النواب وفرَض الحكومة وسار في تسمية الرئيس السابق.
لم يتحرّر لبنان من سلطة الاحتلال السوري حتى لاقت اليد المسلمة (السنية) اليد المسيحية الممدودة إليها منذ عقود، وفي زمن الاحتلال الإيراني والنفوذ السعودي يبدو أن المجتمع اللبناني السيادي والاستقلالي بحاجة مجدّدًا الى “لقاء قرنة شهوان” ثانٍ لاستعادة استقلاله، لكن ريثما يأتي بطريرك يرعى اللقاء من خامة البطريرك “صفير” يُسمّي الأشياء بأسمائها ولا يهرب من مسؤولياته بإطلاق مواقف عالية النبرة تناصر المحتل وتساوي بين القاتل والمقتول، ستبقى ديمقراطية الآخرين على أرضنا، ديمقراطية مغتالة مغيّبة منتحَلة كديمقراطية السعودية وإيران.