جيمس جيفري/ ما وراء الإنسحاب الأمريكي من العراق

286

 ما وراء الإنسحاب الأمريكي من العراق 
جيمس جيفري/وول ستريت جورنال
5 تشرين الثاني/نوفمبر 2014

غالباً ما يُلقى اللوم في النجاح الباهر الذي حققه تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» («داعش»)، أو «الدولة الإسلامية» – الذي كان يُدعى سابقاً «تنظيم القاعدة في العراق» – في أوائل 2014 على فشل إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما في تأمين وجود للقوات الأمريكية في العراق بعد عام 2011. وكسفير سابق للولايات المتحدة في العراق في الفترة 2010 – 2012، كنت أعتقد أن بقاء القوات في العراق كان أمراً بالغ الأهمية. ومع ذلك، فإن أسباب فشل الولايات المتحدة تتعدى إدارة الرئيس أوباما.
وتعود القصة إلى عام 2008، عندما أجرت إدارة الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الإبن مفاوضات مع العراق حول “اتفاقية وضع القوات” تُمنح بموجبها القوات الأمريكية في البلاد حصانات قانونية، وهو شرط لا بد منه لتمركز القوات الأمريكية في أي مكان، ولكن مع تحفظ واحد يقوم على سحب تلك القوات بحلول نهاية عام 2011.
وبحلول عام 2010، اعتقد العديد من القياديين الأمريكيين والعراقيين أن الوجود العسكري الأمريكي في العراق بعد عام 2011 كان أمراً محبذاً على المستويين الأمني (تدريب القوات العراقية والسيطرة على المجال الجوي ومكافحة الإرهاب) والسياسي (استمرار مشاركة الولايات المتحدة وتوفير الطمأنينة لدول الجوار). وفي ذلك الوقت، بدأت وزارة الدفاع الأمريكية تخطط لوجود عسكري مستمر، إلا أن الجمود الذي استمر ثمانية أشهر حول تشكيل حكومة جديدة بعد الانتخابات العراقية في آذار/مارس 2010 أدى إلى تأجيل الموافقة النهائية في واشنطن.
في كانون الثاني/يناير 2011، عندما تشكلت حكومة رئيس الوزراء نوري المالكي، قرر الرئيس أوباما، بموافقة من مستشاريه، إبقاء القوات في العراق. لكنه لم يكن مستعداً بعد لإخبار رئيس الوزراء المالكي أو الشعب الأمريكي بذلك. أولاً، كان على واشنطن أن تحدد حجم القوة التي ستبقى في العراق. وقد استمر ذلك الوضع مع بذل الجيش الأمريكي جهوداً للحصول على قوة أكبر، وسعي البيت الأبيض إلى إبقاء وجود محدود يصل إلى 10 آلاف جندي أو أقل من ذلك، نظراً إلى التكاليف وإلى الموقف السابق للرئيس الأمريكي المتمثل بـ “عملية الانسحاب الكامل”. وفي حزيران/يونيو اتّخذ الرئيس القرار بشأن حجم القوات (5000 جندي في النهاية) وحصل على موافقة السيد المالكي على إجراء محادثات جديدة حول “اتفاقية وضع القوات”.
وقد كانت إدارة أوباما على استعداد لـ “نقل” بنود “اتفاقية وضع القوات” التي وُقعت في عام 2008 إلى الاتفاقية الجديدة، طالما صدّق البرلمان العراقي على الإتفاقية الأخيرة، كما فعل مع الإتفاقية الأولية.
وفي هذا السياق، راجَع قادة الأحزاب العراقية مراراً بنود “اتفاقية وضع القوات”، لكن بحلول تشرين الأول/أكتوبر 2011 وصلوا إلى طريق مسدود. فقد وافقوا جميعهم على وجود القوات الأمريكية، باستثناء كتلة “التيار الصدري” برئاسة مقتدى الصدر، رجل الدين الشيعي المناهض للولايات المتحدة، الذي شغلت قائمته نحو 40 من أصل 325 مقعداً في البرلمان العراقي. لكن في ما يتعلق بالحصانات، كانت الأحزاب الكردية، التي شغلت حوالي 60 مقعداً، هي الوحيدة التي قدمت لها الدعم. ولم يقُم المالكي، الذي كانت تشغل قائمته حوالي 120 مقعداً، ولا رئيس الوزراء السابق إياد علاوي، زعيم قائمة “العراقية” العربية – السنية إلى حد كبير – التي كان لها أكثر من 80 مقعداً، باتخاذ قرار نهائي بتقديم دعم مماثل. وحيث بدأ الوقت ينفذ، ونظراً إلى السياسة الأمريكية طويلة الأمد التي تقوم على المبدأ القائل بأن القوات المتمركزة في الخارج يجب أن تحظى بحصانة قانونية، انتهت المفاوضات واكتملت عملية انسحاب القوات.
وبناءً على النجاح الذي تم تحقيقه من خلال عقد “اتفاقية وضع القوات” في عام 2008، فالسؤال هو ما الذي أدى إلى هذا الفشل؟ أولاً، لم تكن الحاجة إلى القوات الأمريكية بديهية في عام 2011. فقد بدا العراق مستقراً، إذ وصلت صادرات النفط إلى مليوني برميل يومياً بسعر حوالي 90 دولار للبرميل الواحد، وتحسّن الوضع الأمني كثيراً. ثانياً، انقلب التوجه السياسي ضد وجود القوات. فأتباع “الحركة الصدرية” المعادية بشدة للولايات المتحدة كانوا نشطين في البرلمان، وكان العرب السنّة أكثر تبايناً تجاه الولايات المتحدة، كما أن استطلاعات الرأي أشارت إلى أن أقل من 20 في المائة من سكان العراق أرادوا بقاء القوات الأمريكية.
فهل كان يتوجب على الإدارة الأمريكية أن تستخدم المزيد من النفوذ، كما أكد الكثيرون؟ ومرة أخرى، تمثلت العقبة الرئيسية في الحصانات. فالواقع هو أن القوات الأجنبية، على أي أرض كانت، لا تحظى عموماً بشعبية وبالتالي فإن منحها الحصانة أمر معقّد. ففي نظام ديمقراطي دستوري تتطلب هذه الحصانة تنازل البرلمان عن قوانينه الخاصة. وبالتالي لن يكون اتفاق يوقعه السيد المالكي من دون موافقة البرلمان، كما اقترَح، كافياً. (إن الوضع القانوني للعدد الصغير من القوات الأمريكية “غير المقاتلة” التي تمت إعادة نشرها في الوقت الحالي في العراق يشكّل استثناءً خاصاً بحالات الطوارئ لسياسة “اتفاقية وضع القوات” المعتادة.)
ويرى البعض أنه كان بإمكان واشنطن جعل المساعدات الاقتصادية أو عمليات تسليم الأسلحة مشروطة بـ “اتفاقية وضع القوات”. ولكن بحلول عام 2011 كانت الولايات المتحدة تقدم مساعدات اقتصادية ضئيلة نسبياً إلى العراق، كما أن عمليات تسليم الأسلحة كانت ضرورية لأمن الولايات المتحدة والعراق. فهل كان عدد القوات الذي بلغ 5000 جندي محدوداً جداً لتحفيز العراقيين؟ لم يقدم لي أي عراقي هذه الحجة، فبشكل عام تلقى القوات الصغيرة قبولاً أكبر. هل كان لشخص غير السيد المالكي أن يكون أكثر دعماً، وهل كان الإيرانيون سيعارضون ذلك؟ بالطبع، ولكن سواء [بدعم] السيد المالكي والإيرانيين أو بدونهما واجهت الولايات المتحدة مقاومة شديدة من قبل البرلمانيين وعامة الناس.
هل كان بإمكان السيد أوباما إظهار المزيد من الحماس؟ هذا صحيح، إذ بدا أن الرئيس الأمريكي يشعر بأنه لا يستطيع إجبار الشعب العراقي على التوقيع على اتفاقية غير مرغوب بها، كما وأنه لم يتعاون مع رئيس الحكومة العراقية نوري المالكي كما فعل الرئيس السابق بوش. إلا أن الرئيس أوباما تحدث مع السيد المالكي أو اجتمع به ثلاث مرات في عام 2011، وكان نائب الرئيس جو بايدن على اتصال مستمر برئيس الحكومة العراقية. لكن بالنسبة إلى السيد المالكي لم يكن الوفاق هو الأمر الأكثر أهمية في هذا الإطار، بل كان ذلك حساب النقاط الإيجابية والنقاط السلبية التي تؤثر على حظوظه السياسية بدم بارد. ومن ناحية أخرى، تعطّلت المفاوضات مراراً وتكراراً من قبل العاملين في البيت الأبيض، إذ أتت التصريحات العلنية لتعلن بشكل غير دقيق عن تخفيض عدد القوات ولتسيء تفسير القرارات العراقية.
يُذكر أن عملية سحب القوات سمحت للرئيس أوباما بأن يعلن بأنه “ينهي الحرب في العراق”، وهو أمر غريب نظراً إلى أن الانتصارات العسكرية لإدارة الرئيس السابق بوش والمفاوضات الناجحة حول “اتفاقية وضع القوات” في عام 2008 هي التي حددت الجدول الزمني لانسحاب القوات الأمريكية. وفي وقت لاحق، في خلال المناظرات الرئاسية في عام 2012، أنكر الرئيس أوباما، ولسبب غير مفهوم أنه قام حتى بمحاولة إبقاء القوات في العراق.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو هل كان بإمكان قوة متبقية أن تحول دون انتصارات «داعش»؟ لو كانت هناك قوات [أمريكية] في العراق، لكانت الولايات المتحدة [قادرة] على الحصول على معلومات استخباراتية أفضل عن «تنظيم القاعدة في العراق» ومن بعده تنظيم «الدولة الإسلامية»، ولكانت واشنطن تولي انتباهاً أكبر للأمر، ولكان الجيش العراقي أفضل تدريباً من دون شك. بيد، إن الحجج الشائعة حول هذا الموضوع التي تقول بأنه كان باستطاعة القوات الأمريكية أن تحدث تأثيراً يؤدي إلى نتائج مختلفة في السياسة العراقية ليس سوى هراء. فالانقسامات الطائفية العراقية، التي استغلتها «داعش»، عميقة ولم تكن قابلة لعلاج دائم من قبل القوات الأمريكية عندما كانت في أوجها، ناهيك عن 5000 مدرِّب يعملون في ظل القيود العراقية.
**جيمس جيفري هو زميل مميز في زمالة فيليب سولوندز في معهد واشنطن، وكان قد شغل منصب سفير الولايات المتحدة السابق في العراق (2010 -2012) وتركيا (2008-2010)، من بين وظائف أخرى