نفي الحكومة التركيّة الاتهامات الموجّهة اليها بتقديم الدعم اللوجستي لتنظيم «داعش» الإرهابي، يطابق نفي نظام الأسد الأب تقديم الدعم لحزب العمال الكردستاني، وإيواء زعيمه عبدالله أوجلان في الثمانينات والتسعينات. ويطابق أيضاً نفي نظام الأسد الابن، تقديم الدعم والمساندة للتنظيمات التكفيريّة التي كانت تقاتل الأميركيين في العراق!. فحتى لو حاولت تركيا الاغتسال في بحر من ماء زمزم، فإنها لا تنجح في محو ضلوعها وتورّطها الفاقع الذي جعلها الحضن الدافئ والملاذ الآمن لكل التنظيمات التكفيريّة الإرهابيّة كـ «داعش» و «جبهة النصرة» و «حزب الله التركي»!. وهذا مردّه كثرة القرائن والأدلّة.
والحقّ أنه لا يمكن حصر فترة دعم تركيا التنظيمات التكفيريّة في حقبة حكم حزب العدالة والتنمية الإسلامي، بزعامة أردوغان – داوود أوغلو، بل يرقى ذلك إلى مطلع الثمانينات، حين احتضن نظام انقلاب 12 أيلول (سبتمبر) الفاشي – العسكري، بقيادة الجنرال كنعان إيفرين، جماعة الإسلاميين السوريّة، وقدّم لها الدعم العسكري واللوجستي ضد نظام حافظ الأسد، عملاً بمبدأ المعاملة بالمثل، إذ الأخير كان يدعم العمال الكردستاني، وكل فصائل اليسار التركي المتطرّفة. فضلاً عما سلف، رفضت حكومة أوغلو مناشدة المبعوث الأممي ستيفان دي مستورا، بخصوص فتح الحدود التركيّة أمام المتطوّعين الكرد والسلاح والمؤن للدخول إلى كوباني والقتال مع المقاتلين الكرد ضد داعش، ورفضت أنقرة الضغوط الأميركيّة للحؤول دون سقوط المدينة الكرديّة في يد «داعش»، على رغم إعلان أنقرة مشاركتها في التحالف الدولي ضد «داعش»، ومصادقة البرلمان التركي على تفويض يمنح الجيش حريّة القيام بعمليات خارج الحدود التركيّة لحماية أمن تركيا. أفلا يعني كل ذلك و «مطلقاً» أن تركيا ضالعة في دعم «داعش»!؟.
يجادل الإعلام الموالي للحكومة التركيّة، وبعض أبواقه في المعارضة السوريّة، وبعض الكتّاب والمثقفين العرب المقيمين في تركيا على نفقة الاستخبارات التركيّة، في اتجاه معاكس مفنّدين التهم الموجّهة الى تركيا بخصوص دعمها «داعش»، مضيفين حجّة سخيفة وركيكة أخرى مفادها: لو كانت الحكومة التركيّة تدعم «داعش» لما آوت مئات ألوف السوريين، وما يزيد عن مئتي ألف كردي سوري من كوباني!. وربما يتغافل هؤلاء عن أن ما تقوم به تركيا من فتح حدودها أمام اللاجئين السوريين، كرداً وعرباً، هو من صميم واجبها، وليس منّة، وذلك لأسباب عدّة:
1- التزاماً بالاتفاقيّات والمواثيق والعهود الدوليّة التي تجبرها على فتح الحدود لحماية المدنيين أثناء الحروب.
2- إذا أغلقت حدودها في وجه النازحين السوريين، الفارين من وحشيّة «داعش» أو الأسد، فهذا يعني أنها تشارك عمليّاً في حملة «الأنفال» والتطهير العرقي التي يمارسها «داعش» ضدّ السوريين عموماً، والكرد خصوصاً!.
3- تفريغ المناطق الكردية من سكّانها مصلحة تركيّة بامتياز. وفي حال رفض فتح حدودها أمام نازحي كوباني، سيعتبر ذلك فضيحة سياسيّة وأخلاقيّة، إذ تسمح للنازحين العرب السنّة بدخول أرضيها، وترفض دخول الكرد السوريين. وبالتالي يظهر وجهها الطائفي والقومي، ضدّاً على كل المساحيق والأقنعة.
4 – تركيا تزعم أنها مناصرة للثورة السوريّة، وتسعى إلى إسقاط نظام الأسد، وتقول إنها من مجموعة أصدقاء سورية، وبالتالي من واجبها الوفاء بكل هذه الاستحقاقات، فإن لم تفعل أصبح كلامها مجرد فقاقيع صابون ملوّنة!.
الغريب أن غالبية المعارضين السوريين، بخاصّة منهم «الأخونجيّة» والعلمانيون «المتأخونون»، صاروا يرددون الأسطوانة التركيّة حول إيواء اللاجئين السوريين، في شكل ممجوج ومقرف. بحيث أصبح حال هؤلاء أسوأ من حال نظام الأسد، حين كان «سمناً على عسل» مع نظام أردوغان، قبيل اندلاع الثورة، بحيث تنازل الأسد الإبن عن لواء إسكندرون للأتراك، وعن الكثير من السيادة الوطنيّة، إرضاء لأنقرة. وكان الأجدى بهؤلاء المعارضين رفض تمنين أنقرة المواطنين السوريين، ووضع قضيّتهم على بازار مكاسبها السياسيّة.
لقد سقط بعض المعارضين السوريين في درك «تمسيح الخوج الأردوغاني» لدرجة استرخاصهم الاهتمام الدولي بمدينة كوباني السوريّة، وتقليلهم من المقاومة التاريخيّة التي يبديها المقاتلون والمقاتلات الكرد في وجه الهجوم الداعشي البربري!. وكان عليهم الردّ على تصريح أردوغان الذي قال فيه «لقّنت «داعش» أكراد سورية درساً استحقوه»!. لكن يبدو أن المعارضة السوريّة أسيرة القبضة الأردوغانيّة. وحالة الارتهان والذلّ والتبعيّة المطلقة للنظام الأردوغاني هذه إنما تمنح تبريراً قويّاً لعدم فكّ حزب الاتحاد الديموقراطي ارتباطه بالنظام الأسدي، إذ المعارضة أسوأ حالاً وأكثر عنصريّةً من النظام؟.
وعليه، تسعى الحكومة التركيّة، سواء عبر ذراعها العسكرية الخفيّة «داعش»، أو ذراعها السياسية «الائتلاف الوطني لقوى المعارضة السوريّة»، إلى محاصرة الكرد السوريين. كما تسعى إلى نقل معركتها مع العمال الكردستاني من تركيا إلى داخل السوري، وممارسة نفس تقاليد نظام الأسد والنظام الإيراني في ما يخصّ تحريك التنظيمات الإرهابية كي تحارب بالوكالة عن تركيا، فضلاً عن فرض المنطقة العازلة في الشمال السوري، للسيطرة على نفط وغاز منطقة رميلان الكرديّة السوريّة. وبينما لا يخجل المسؤولون الأتراك من مطالبة حزب الاتحاد الديموقراطي بفكّ ارتباطه بالنظام السوري، فيما يعجز أردوغان وحزبه عن ردع حزب الشعب الجمهوري المعارض، وكل أحزاب اليسار المتطرّف التركي، وغالبية العلويين في تركيا، عن دعم ومساندة نظام الأسد. بل إن العشرات من المواطنين الأتراك، كجماعة معراج أورال، يقاتلون مع شبيّحة الأسد، كما أن مئات من المواطنين الأتراك السنّة يقاتلون مع «داعش». فكيف، والحال هذه، تطالب أنقرة الحزب الكردي السوري بذلك!. زد على هذا وصف أردوغان المشاركين في حركة الاحتجاجات التركيّة في حزيران (يونيو) 2013، وحزب الشعب الجمهوري وجماهيره الذين يزيدون عن 10 ملايين تركي، بأنهم خونة وإرهابيون ومشاغبون، وإطلاقه الوصف نفسه على أنصار حليفه السابق فتح الله غولن، وعلى عشرات الألوف من المواطنين الأكراد المحتجّين على دعم أنقرة «داعش». وهذا كله يُشير إلى أن نصف الشعب التركي في نظر أردوغان إرهابيون وخونة. وهكذا فإن احترام الرئيس التركي شعبه إنما يشابه احترام بشار الأسد شعبه، وهو الذي وصفهم باللصوص والجراثيم والإرهابيين والمندسّين في مطلع الثورة السوريّة.