أن تكون إعلامياً في لبنان، الآن، يعني أنك أمام … خيارات:
-1- أن تكون ناقلاً للكذب من دون معرفتك بأنه كذب، وبذلك تكون مقصراً مهنياً لأنك لم تدقق في ما سرّب أو نقل إليك.
-2- أن تكون ناقلاً للكذب مع معرفتك بأنه كذب، وفي هذه الحالة تكون كذاباً، وليس هناك من صفة أدنى. وفي الدول الراقية تطرد من النقابات المهنية لإدانتك بتهمة التلفيق والكذب.
-3- أن تكون ناقلاً لمعلومات متناقضة عن حدث محدد. وبهذا الحالة تكون مقصراً مهنياً، لأن مهنتك هي أن تنقل الحقيقة، وتكون مقصراً أخلاقياً لأنك إخترت عدم البحث عن الحقيقة.
-4- أن تكون صادقاً، أميناً، مهنياً، جدياً، تدقق معلوماتك وتنقل الحقيقة كما هي. عندها تتهم بأنك إما تضرب الإستقرار أو تروّج للفتنة، مع أن مرتكب الحدث هو المسؤول عن ضرب الإستقرار وممارسة الفتنة، وليس ترويجها فقط.
-5- أن تكون جاهلاً، فتنشر بياناً –على سبيل المثال- لهيئة علماء المسلمين ومعه صورة شعار تجمع العلماء المسلمين، مع أن الهيئة محض سنية ومعارضة لإيران، فيما التجمع شيعي-سني تابع لإيران. أن تنشر خبراً عن زيادة “الأقساط” في الجامعة اللبنانية، مع أنه لا يوجد أقساط في الجامعة اللبنانية، فقط رسوم تسجيل.
أو أن تنشر خبرا عن “توقيفات” نفذها حزب “الله” أو جناحاً عسكريأ لعشيرة، مع أن التوقيف هو عملية قانونية تتم بموجب مذكرة قضائية وتنفذها إدارة رسمية، فيما الحزب ليس سلطة ولا إدارة. صار التوقيف، والإعتقال، والإحتجاز، والخطف فعل واحد موحد لدى جهلة الإعلام اللبناني.
أو أن تنشر خبراً عن “تأجيل” محاكمة حسني مبارك أو غيره إلى تاريخ محدد لإصدار الحكم، علماً بأن الخبر الصحيح هو إنتهاء محاكمة مبارك وتحديد موعد “النطق بالحكم” بتاريخ كذا. المحاكمة إنتهت، فيما التاجيل يعني أنها مستمرة وستتابع في جلسة أخرى.
-6- أن تكون إعلامياً في لبنان الآن يعني أن تطيع قانون القوة، لا أن تطيع قوة القانون. قوة القانون تحميك فقط في محكمة المطبوعات، قانون القوة يضطهدك حيثما تكون. لذلك نرى بعض الإعلاميين ينتقدون محكمة المطبوعات، لأنهم خدم قانون القوة، وأعداء قوة القانون.
مثالان:
-أ-كنت في أحد المطاعم بأسواق صيدا المكتظة أتناول وجبه وصادفت زملاء من محطة تلفزيونية تغطي إعتصام الشيخ أحمد الأسير. وكانت “فعاليات” صيدا تتهم إعتصام الأسير بأنه عطّل السوق. قلت لرئيس الفريق الإعلامي، السوق فاتح، والشغل ماشي، وإنتوا موجودين. ليش ما بتعملوا تحقيق عن السوق، أقله لنقل الحقيقة.
أجابني رئيس الفريق: يعني بدّك يانا نقول الفعاليات كذابين؟
قلت له: ليس هذا القصد. صورولهم شارع المولات ومعارض السيارات مقفل وبقية السوق فاتح. القصد أن ننقل الحقيقة بوجهيها.
قال: الفعاليات مدعومين، وكمان هودي أصحاب مصالح كبيرة وبينشروا إعلانات، بدك ياهون يقاطعوا المحطة. إذا نحنا صورنا تحقيق فالإدارة ما بتطلعه على الهوا. وأضاف: لا حا يطلع على الهوا، ونحنا مناكل هوا.
-ب- أثناء إشتباكات عبرا في حزيران العام الماضي تمترس قرابة 80 إعلامياً لبنانياً حيث أمرهم الجيش بطلعة عبرا، وعرضوا لنا على الشاشات مشاهد الدخان وبعض العسكريين يسيرون بحذر وبنادقهم موجهة إلى الأسطح. لم نشاهد معركة. سيارة إسعاف مسرعة من هنا، سيارة هاربة هناك.
بين الإعلاميين كان يوجد مراسل أميركي واحد، نك بلنفورد، يحمل معه خارطة، كما يجب أن يفعل أي مراسل حربي، فتح الخارطة وإكتشف كما كريستوفر كولومبوس أن هناك طريق أخرى إلى عبرا، حيث موقع الحدث، تمر من الشوف. قاد سيارته، عاد بإتجاه بيروت، ثم شرقاً إلى علمان وطريق جون، فجنوباً ووصل إلى عبرا من الشرق وليس من الغرب حيث أمر الجيش الإعلاميين بأن يتمترسوا … فأطاعوا.
شاهد الصحافي الأميركي عناصر حزب السلاح، وعناصر أفواج التشبيح في مجدليون وعبرا، وكتب لصحيفته ما جرى … وصحيفته الأميركية نشرت الحقيقة الكاملة عن حدث وقع على أرض لبنان ولم ينشرها الإعلام اللبناني، للأسف، وبخجل.
ما يزعجني أن صحافياً واحداً أجنبياً نقل حدثاً في لبنان لم ينقله الإعلام اللبناني … كله.
إتصل بي ليلاً أحد الزملاء الإعلاميين الميدانيين من محطة تلفزيونية لبنانية مرموقة تقول إنها حرة. وقال لي بالحرف وصوته يرتجف حنقاً: وضعت على صفحتي الشخصية على فايسبوك صوراً من عبرا لم تظهر على شاشتنا. بعد نحو نصف ساعة “تلفن لي مديري وقللي بلا أكل هوا، إنقبر إلغي الصور … هلق.” لم يقل “هوا” قال شيء آخر ملموس … ونفذ.
من المفارقات أن إعلاميين لبنايين كانوا من أبرز من غطى للإعلام العربي غزو العراق وما شابه. وقدموا شهداء على درب مهنة الحقيقة. لماذا الإعلامي اللبناني مميز خارج لبنان، وأسير تعليمات غير مهنية في لبنان؟
-7- أن تكون إعلامياً في لبنان اليوم يعني أن لا تتجرأ وتطرح السؤال المحرّم: لماذا؟
أمثلة:
-أ-لماذا إحتجز الجيش قرابة 500 شخص في منطقة صيدا أثناء عملية عبرا، ومن ثم تم توقيف فقط قرابة 70 منهم بموجب إتهام قضائي، وبعض الموقوفين خرج بريئاً من تحت قوس المحكمة العسكرية … وبعضهم ينتظر.
لماذا تم إحتجاز، وإهانة، وسوء معاملة ال 400 الآخرين؟ لماذا مات أحدهم من شدة “الدلال” أثناء إستضافته؟ السؤال ممنوع.
-ب-لماذا إحتجز الجيش 480 نازحاً سورياً وفق إحصائية صحيفة النهار في عرسال قبل يومين، وقيّدهم وكوّمهم على وجوههم مثل المواشي في مسلخ بيروت، وحطم ممتلكاتهم ثم أوقف منهم … فقط 58 شخصا، 22 بتهمة قتاله و 36 بتهمة دخول غير شرعي، أو العكس ؟
بحسبة بسيطة 480 -58= 422 شخصاً أطلقوا لاحقاً لأنهم أبرياء!!! وبما أنهم أبرياء فلماذا إعتقلوا، وأهينوا، وإضطهدوا، وووو!!
إذا سألت “لماذا” أيها الإعلامي فأنت “إرهابي”. لست إرهابياً متهماً، بل إرهابي مدان. وأسوأ ما في الأمر هو أن من يدينك ليس القضاء، بل الإعلام اللبناني، غالبية الإعلام اللبناني، وربما … كل الإعلام اللبناني.