لم يُعانِ لبنان، خلال تاريخه الحديث، حالة إحراج وتحوّل في خياراته وقراراته، مثلما هو الآن.لأنّه أمام مخاض ولادة جديدة.في حروبه الداخليّة، والحروب منه وعليه، بين 1975 و 2014، كان يتحصّن، ولو نظريّاً، بحصانتين:
– النظريّة التاريخيّة التقليديّة القائلة بمعادلة “لا للشرق ولا للغرب”، ولو كانت “اللاءان لا تصنعان أمّة”!
وإلى الأمس القريب، كان شعار “النأي بالنفس” و”إعلان بعبدا” ستاراً لتمويه الانقسام العمودي في القرار الوطني، بما سمح بنظريّة “ربط النزاع” وتشكيل حكومة سدّ الذرائع والفراغ.وكانت هناك فلسفة خفيّة قضت بالرضوخ للأمر الواقع، والتغاضي الاضطراري عن تورّط “حزب الله” في النزاع الدموي السوري، وانغماسه في محور إقليمي.الآن، تسقط تلك الشعارات المتوالدة منذ بيان حكومة الاستقلال قبل 71 عاماً، وتكتشف كلّ القوى اللبنانيّة السياسيّة وشبه السياسيّة(المتعسكرة) أنّها أمام مرحلة مختلفة لا تستطيع معها البقاء في اللون الرمادي واللاموقف، أو ما يُسمّى الإمساك بالعصا من وسطها. حتّى أشدّ القوى التزاماً بمحور أو بمشروع خارجي، “حزب الله”، يجد نفسه في لحظة مصيريّة لا يحميه فيها انحيازه المطلق السابق، بل يرى بأمّ العين وبالملموس اتجاه قيادة محوره نحو الانخراط في الحالة الدوليّة الجديدة التي تقودها واشنطن تحت راية الحرب على الارهاب. كلّ المحادثات والمفاوضات التي جرت وتجري في نيويورك، وفي مكاتب المخابرات والغرف السريّة، تؤكّد أنّ الشرق الأوسط والعالم متّجهان إلى قيام محور واحد، وأنّ لا مجال للأحلام في تركيب محور آخر بقيادة موسكو مثلاً مع “البريكس”. لقد تخطّت الأحداث نظريّة القطبين والمحورين والجبهتين والحرب الباردة أو الحارّة، وتكرّست صحّة المثل المعروف “الضربة لمن سبق”. وليس خافياً أنّ الموقف الأخير للسيّد حسن نصرالله عكس بوضوح إدراكه هذه الحقيقة، ولم يكن رفضه الحلف الغربي العربي وانضمام لبنان إليه سوى ضربة سيف في الماء. فهو، من حيث يدري أو لا يدري، بات عضواً، ولو طَرَفيّاً، في هذا الحلف، على خطى وليّه الفقيه. لم يَعُدْ ممكناً القول بالشيء ونقيضه. في الحرب على الارهاب الموقف محسوم: إمّا معه أو ضدّه، ولا مجال لخيار ثالث، والدليل تزايد عدد الدول المنضوية في التحالف بحيث تجاوز الـ 50، حتّى لو كان قائد هذه الحرب هو “الشيطان الأكبر”. أمّا لجهة الموقف الرسمي اللبناني، فالأمر محسوم كذلك في الانتماء إلى التحالف، ولو عَمَدَ رئيس الحكومة تمّام سلام إلى محاولة تدوير الكلام والالتزام، بقوله إنّ مشاركة لبنان “دفاعيّة”. “دفاعيّة” بالتأكيد، فليس للبنان “ريخ ثالث” ولا “قيادة وسطى” ولا “فيالق” جرّارة.
ولكنّ الأكيد هو أنّ لبنان خرج حكماً من رماديّته، ليس إلى محور ضدّ آخر، بل إلى انتسابه الطبيعي. والأهمّ في هذا الانتساب أنّه يأخذ الجميع إليه، بعضهم برضاه مثل الدولة برموزها السياسيّة والعسكريّة وقوى 14 آذار، وبعضهم الآخر بغير رضاه مثل 8 آذار، على قاعدة “مُكْرَهٌ أخوكَ لا بطل”. هذه النقلة النوعيّة المقصودة أو المفروضة تبشّر بإمكان التقاء اللبنانيّين على فكرة وطن ودولة ومؤسّسات خلافاً لكلّ مراحل التكاذب التاريخي. نحن أمام مشكلة – فرصة تشبه مراحل تأسيس الدول والأوطان. ولا نجافي الحقيقة إذا قلنا إنّ فريق “8 آذار” بقيادة “حزب الله” المحليّة وإيران الإقليميّة، هو الآن في حالة الأقضية الأربعة و”العروبيّين” الممانعين عشيّة انضمامهم إلى دولة لبنان الكبير. لقد انتقل هؤلاء، بعد 7 عقود، من الرغبة في الالتحاق بـ”سوريا الكبرى” ومملكة العرب، إلى “لبنان أوّلاً”!
هل نحلم بإعادة تنسيب معظم طائفة كيانيّة (الشيعة) إلى كيانها اللبناني بعد 3 عقود؟ مؤشّرات كثيرة تدفع نحو التشبيه بلحظة ولادة لبنان الكبير، برغم كلّ مطاحن الحرب وضجيج السلاح. بل، ربّما كان من الضروري تشكيل جبهة الحرب على الارهاب كي يلتقي اللبنانيّون في دولة تتقرّر صيغتها وفقاً للتطوّرات والصياغات الجغرافيّة والديمغرافيّة في المنطقة. ولن نذهب بعيداً فنشكر الارهاب الذي يُجبرنا على الوحدة! ومع سقوط “وسطيّة” لبنان ورماديّته وثنائيّة غرب – شرق بفعل سقوط صراع المَحاور، يبزغ الأمل بعيش مشترك فعلي ووطن سويّ.