الياس بجاني/داود الصايغ سياسي يؤمن بلبنان الرسالة والدور والنموذج

369

داود الصايغ سياسي يؤمن بلبنان الرسالة والدور والنموذج
الياس بجاني
19 آب/14

كلما استمعنا إلى الدكتور داود الصايغ من خلال مقابلاته التلفزيونية التي نتابعها كما كل كتاباته باستمرار وبشغف وهو يشرح قيمة لبنان ودوره وأهمية وقدسية رسالته ويجدد إيمانه بضرورة الحفاظ عليه وإبقائه نموذجاً حضارياً وانسانياً في الشرق، ندرك أن الدنيا لا زالت بألف خير، ولكننا نتحسر على هذا الزمن العاطل والمُصحر والنرسيسي الذي وصلنا إليه في لبنان بنتيجة استلام زمام أمورنا وحكمنا ودولتنا طبقة من السياسيين ورجال الدين أقل ما يقال في أفرادها أنهم لا يمتون للحضارة والعلم والثقافة والوطنية والإنسانية والإيمان بصلة.
كلما استمعنا إلى هذا المثقف والوطني المؤمن بكيان ورسالة ودور لبنان وبضرورة الوجود المسيحي فيه، تعود بنا الذاكرة إلى زمن قادة كبار جمعوا بين السياسة والثقافة والوطنية والأخلاق والإيمان واحترام الذات وحب العطاء من أمثال شارل مالك والرئيس كميل شمعون وادوار حنين والأباتي بولس نعمان والشيخ بشير الجميل ووالده الشيخ بيار الجميل وميشال شيحا وغيرهم كثر.
نتحسر كموارنة نعيش في بلاد الاغتراب على زمن مضى كان فيه لنا كبار في فكرهم ووطنيتهم ورؤيتهم تمكنوا بعناد وتقوى وجلد وتضحيات من صون هوية وطننا ومن الحفاظ عليه وإظهار تميزه ودوره واكتساب احترام وإعجاب العالم بأسره.
في نفس الوقت نلعن تعاسة وجحود وكفر وجهل قادة وسياسيين ورجال دين ابتلينا بهم في زمننا الحاضر، زمن المّحِل، فضربوا ودمروا وسخفوا كل شيء، وكيف لا وهم ترابيون في فكرهم وقليلو إيمان وخائبو رجاء يعيشون الإنسان العتيق بكل غرائزيته ولم يرتقوا لا بإيمانهم ولا بفكرهم إلى مرتبة الإنسان الجديد الذي اعتقه الرب من نير عبودية الخطيئة الأصلية ورفعه من خلال تأنسه وعذابه وصلبه وقيامته وبالعماد والروح القدس إلى مراتب الإنسان الجديد والقداسة.
يقول المثل كيف تكونون يولى عليكم، وهذا قول ينطبق على حالنا التعيس حالياً حيث تصحرت عقول شرائح لا يستهان بها من شعبنا في الوطن الأم كما في بلاد الانتشار وأمست تفاخر بتبعيتها وبجهلها وبعبادتها الوثنية لقادة هم كالأصنام بفكرهم ولا يتمتمون بصفات القيادة.
قادة يعبدون تراب الأرض وتجردوا من إنسانيتهم.
قادة كفرة يسوقون أتباعهم كقطعان المواشي إلى التعصب والجهل والتسطح الفكري والجحود.
شرائح من أهلنا للأسف قتلت حاسة النقد بداخلها وخدرت ضمائرها والوجدان.
شرائع ابتعدت عن الله وشرائعه تصدق المنجمين والسحرة وتتلذذ أكل التبن من معالف الزرائب حيث قبلت العيش وتمشي خائبة وبصمت أين منه صمت القبور، تمشي إلى المسالخ دون أن تعترض أو حتى “تمعي”
باختصار إنه زمن الإسخريوتيين والملجميين والطرواديين. إلا أنه زمن لن يطول بإذن بقاؤه لأن التغيير آت لا محالة كون الشر مهما استفحل تكون نهايته الانكسار والاندحار.
في الخلاصة، نحن نؤمن أن لبناننا المقدس سوف يتحرر طال الزمن أو قصر، ولكن هو بحاجة إلى مواطن حر ومؤمن يرفض العبودية.
إنه ويوم يتحرر المواطن اللبناني سوف يولي عليه من هم على صورته ومثاله.
فلنصلي من أجل تحرر مواطننا ومن أجل أن يعود إلى إيمانه والرجاء.

الكاتب ناشط لبناني اغترابي
19 آب/14

داود الصايغ سياسي يؤمن بلبنان الرسالة والدور والنموذج
فيديو من تلفزيون ال بي سي/مقابلة من الدكتور داود الصايغ يحكي من خلالها لبنان الكيان والدور والنموذج/19 آب/14

في أسفل 3 مقالات لدواد الصايغ يحكي من خلالها إيمانه بلبنان الدور والتموذج والرسالة والكيان

لبنان قيمة فاتيكانية بذاته
الدكتور داود الصايغ
1 أيار 2014
النهار
كان لبنان على موعد خاص مع البابوات الذين طـُوِب اثنان منهم الأحد الماضي، وهما يوحنا الثالث والعشرون ويوحنا بولس الثاني، في احتفال شهده العالم وحضره كبار العالم. لبنان ألهم بإستمرار وعلى طول الزمن، بابوات روما، لكنه حرّك بعمق ضمير يوحنا بولس الثاني، ومن بعده ضمير العالم. فذلك البابا البولوني المناضل، الذي يعتبر أحد عمالقة نهاية القرن الماضي، تمرد على الظلم الطويل الذي أصاب البلد الصغير، لكنه وجد نفسه في سنين الحرب الطويلة يصرخ في وادي المصالح الدولية، التي تركت اللبنانيين يعانون في ستة عشر عاما. تماماً كما هم السوريون اليوم، وسط لامبالاة فاضحة، أعطاها البابا الحالي فرنسيس وصفاً صادقاً بأنها أصبحت معولمة.
فالفاتيكان يحركه الضمير. والدول الكبرى تحركها المصالح. هذا أدركناه في الشرق، من فلسطين الى العراق، الى لبنان، الى سوريا. الكرسي الرسولي يستفظع ما يحصل، ويندد ويرفع الصوت، والعواصم الكبرى لا تتحرك إزاء نزوح تسعة ملايين لاجئ سوري، وسقوط نحو مئة وخمسين ألف قتيل، ودمار المدن السورية بتاريخها وتراثها، لأن أوان إلتقاء المصالح من أجل وقف الحرب لم يحن بعد.
الفاتيكان قوة معنوية، هي الأهم في العالم. فالكنيسة الكاثوليكية تتخذ وجهاً نضالياً عندما يتعلق الأمر بالإضطهاد أو بالظلم أو بالحروب، علماً بأنه ليس لها من سلاح إلا الكلمة. والقول الذي نسب الى ستالين معروف، فهو قال عندما جاؤوا أمامه على ذكر الفاتيكان : “الفاتيكان، كم فرقة عسكرية لديه؟”. ولم يعش ستالين ليشهد سقوط الإتحاد السوفياتي وباقي الأنظمة الشيوعية بإسهام من جاره البولوني بالذات، البابا يوحنا بولس الثاني، واستمرار الكنيسة بصلابة اصولها ورسالتها.
ليس لدى الفاتيكان فرق عسكرية ما عدا أفراد الحرس السويسري المئة، الذين يعود وجودهم الى أسباب تاريخية. أما موقف البابا، موقفه من كل ما يجري في العالم، من كل القضايا التي يراها عادلة من وجوب حل النزاعات بالوسائل السلمية الى قضايا الإنسان والحق والقيم، قضايا الإنسان في مجتمعه، مجتمع اليوم، مسائل التطور والتقدم والعلم والأخلاق والحياة العائلية، مواجهة الجبابرة في سياسة المصالح التي تقودهم، كل ذلك هو شاغل أساسي من مشاغل البابا.
ولقد شاهد العالم، الأحد الماضي، عبر وسائل النقل الحديثة، كيف أن ملوك أوروبا ورؤساء العالم انحنوا أمام البابا فرنسيس، بما يشير الى أن رفقة الفيْ سنة من التاريخ، بدون انقطاع، تجعل البابا شخصاً من الزمان وخارج الزمان في آن واحد.
ولعل البعض يجهل أن أعلى درجة من جدية الدرس وسعة المعلومات وبراعة الديبلوماسية ودقة التنظيم ومستوى الصياغة موجودة في الفاتيكان. والذين تسنى لهم حضور الإجتماعات التي ينظمها الفاتيكان، مثل السينودوس من أجل لبنان خريف 1995، وسينودوس مسيحيي الشرق عام 2010 لاحظوا أول ما لاحظوا، أن لا شيء يترك للمصادفات، وكل شيء يدرس جيداً وبتنفيذ يشبه الكمال في مختلف النواحي حتى التقني منها. فكل ما يحيط بالكرسي الرسولي له هالة الجدية والإحترام النابعان من سمو الرسالة، منذ تأسيس الكنيسة حتى اليوم.
الكرسي الرسولي، بكل تلك الصفات التي تميزه، أبدى تجاه لبنان إهتماماً خاصاً، فاعلاً ومستمراً، الى حد أن الفاتيكان كان ولا يزال، تقليدياً، من الأماكن المراجع بالنسبة الى الديبلوماسية اللبنانية التي وضعت في حقبة الستينات وهي كانت: باريس، واشنطن، الفاتيكان، والقاهرة، مع التبدل الذي حصل في سنين الحرب بالطبع، وتراجع عواصم وتقدم غيرها.
عام 1954 زار لبنان الكاردينال انجيلو رونكالي (الذي انتخب بعد أربع سنوات من ذلك التاريخ بابا بإسم يوحنا الثالث والعشرين) بمناسبة السنة المريمية يومذاك، فوصف لبنان بأنه يعطي صورة أخاذة تظهر كل جمال التوازن الكامل للوفاق الإجتماعي. وكان سلفه بيوس الثاني عشر أعطى لبنان أوصافا ً مماثلة. وكذلك خلفه بولس السادس. وكأن كل تلك الأقوال كانت تمهيداً لما سيعلنه يوحنا بولس الثاني عن لبنان، في وصفه الشهير في تاريخ 7 أيلول 1989 بأنه “أكثر من بلد، أنه رسالة حرية ونموذج في التعددية للشرق كما للغرب”.
فطوال سنين إستقلاله، ومن أيام بيوس الثاني عشر حتى البابا الحالي فرنسيس، كان لبنان ولا يزال قيمة فاتيكانية بحد ذاته. هكذا نظر إليه الكرسي الرسولي منذ البدء وتعامل معه ووقف الى جانبه في سنين محنته الطويلة، يوم قضت المصالح بإبتعاد الكثيرين عنه.
لبنان، في نظر الفاتيكان، ليس بلداً مثل سائر البلدان. وجد في الشرق، في منطقة مهبط الأديان، ليصبح وحده التجربة الحية والمستمرة لعيش الأديان معا ً. فالغرب كله هو غرب مسيحي، ومعظمه غرب كاثوليكي أي متحد مع الكرسي الرسولي. هكذا هو واقع الحال في أوروبا وفي الأميركتين وأوستراليا وبعض آسيا وبعض أفريقيا، إذ أن عدد الكاثوليك في العالم هو في حدود مليار وثلاثمئة مليون نسمة. فلبنان ليس بلداً مسيحياً في الشرق. الفاتيكان لا يحتاج الى هذا النوع من الوجود إذ عنده الغرب كله. ميزة لبنان، كما يرونها من روما، هي في رحابة المسيحية، ورحابة الإسلام في الوجود معاً على أرض الشرق. ما من أحد ضيف عند الآخر. وما من ضرورة للبحث في مَن سبق الآخر في الوجود، فهذا مضر بالوجود. لم يكن ذلك هو الحال دائماً على مر التاريخ، وقد أدت الحروب والنزاعات الى أزمة حضور مسيحي في معظم دول الشرق الأوسط حيث أصبحوا أقليات، بعضها تحميه أنظمة حكم، والبعض نزح الى دول أخرى.
وحده لبنان كان ولا يزال خارج هذه القاعدة. طوائفه كلها أقليات بالنسبة الى المجموع. هكذا قضت الأقدار منذ عملية التكوين، فأصبح التوازن قاعدة الوجود، وبات لبنان ضرورة لتوازن المنطقة كلها.
فالبابوات المتعاقبون منذ ما قبل إستقلال لبنان عام 1943، عرفوا لبنان وما يمثله، لأن التعامل مع الكرسي الرسولي، يرجع الى القرون الوسطى ومن قِبَل الكنائس المختلفة والكنيسة المارونية تحديداً، ولكن أيضاً مع الدروز التي ترجع علاقتهم مع الكرسي الرسولي الى عام 1444. أما الروم الكاثوليك فبدأ إتحادهم مع الكرسي الرسولي عام 1824.
لكن لبنان الحديث نقل العلاقة الى مستويات جديدة، فبقدر ما كان الفاتيكان بابا ً للبنان الى أوروبا والغرب، كان لبنان باباً للفاتيكان الى الشرق والى الإسلام. فإقتراب الفاتيكان من الإسلام قوي عبر اللبنانيين، وتحديداً عبر مفكرين ورجال دين مسيحيين كانوا ولا يزال بعضهم من أهم العارفين بالإسلام. والطقوس المسيحية في لبنان والشرق تجري باللغة العربية، تلك التي حفظت في أديرة الرهبان كما سجل في التاريخ، يوم تهدد التتريك اللغة العربية. فلبنان القديم، لبنان العهد القديم والمزامير، كما عبّر عنه بيوس الثاني عشر يوم استقبل أول وزير لبناني مفوض عام 1947 بشخص الرئيس شارل حلو، تتطور لاحقاً لتصبح له قيمة مختلفة.
كان لبنان في حاجة مستمرة الى تلك المرجعية التي تفهمته بشكل خاص وأيدته وأيدت تجربته. وكان الفاتيكان في حاجة الى تلك التجربة المضيئة في الشرق، على مقربة من الأراضي المقدسة، وقبل أن يتضاءل عدد المسيحيين في تلك الأراضي وفي القدس تحديدا . لبنان على مقربة منها، ليس فقط لمدنه المذكورة في الأناجيل والتي وطئها السيد المسيح، ولا بغاباته الأزلية المذكورة في العهد القديم، بل في حداثة ما يمثله في عالم اليوم. وكلما تطور العالم وتبدل، من الثنائية السابقة وانقسام العالم بين عقيدتين استمرتا حتى سقوط جدار برلين عام 1989، الى ظهور العولمة والإنفتاح، قويت الحاجة الى لبنان، الى العيش معاً، في قبول الآخر وإحترامه وإحترام خصوصياته. عام 1954 كتب ميشال شيحا “على رغم الكثير من الأخطاء والتجاوزات فالطائفية هي التي علمت لبنان الإعتزال. إنه الجوار المباشر للعبادات والطقوس، والإختبار الطويل للعيش الواحد، والإختلاط والإحترام والصداقة المتبادلة والمعرفة العميقة للبعض من الآخر، وهي التي قادتنا الى التوازن الذي نحن فيه”.
واليوم، والشرق شديد الإضطراب في سوريا والعراق وفلسطين بخاصة، وفي مصر الساعية الى استعادة روحها من جديد، والى “العيش المشترك” الذي أخذت تعبيره من التجربة اللبنانية، يستعد البابا فرنسيس لزيارة الأراضي المقدسة هذا الشهر، على خطى سلفيه بولس السادس ويوحنا بولس الثاني. فالبابا، الذي أعطى نماذج واضحة وجديدة عن أسلوبه في الإقتراب من القضايا بعقلية مختلفة عن أسلافه، يعرف أن لا مسيحية بدون الشرق. وهو اتخذ مواقف خاصة إزاء الحرب في سوريا ودعا الى يوم صلاة عشية التهديد بالضربة العسكرية. كما أنه على اطلاع عميق على أوضاع مسيحيي هذه المنطقة، وبكل ما يعصف بها في الوقت الحاضر.
أما السياسة إزاء لبنان، لبنان ذي القيمة الخاصة، فهي من ثوابت الفاتيكان وسعيه الدائم لحماية هذه التجربة النموذج للشرق كما للغرب.

الوطن النهائي من النصوص إلى النفوس
الدكتور داود الصايغ
6 آذار 2014
النهار
وُجد لبنان لكي يكون نقيضاً للحروب لا لكي يصبح ساحة لها. جاؤوا اليه بحروب الآخرين على أرضه ثم بحروب الآخرين من ارضهم. وجد لكي يكون جسر تلاق بين الشرق والغرب، لا لكي يربط بالمحاور القاتلة. وجد لكي يكون حراً فتحكمت به الديكتاتوريات والمرجعيات الشمولية. وجد لكي يكون تجربة اعتدال وانفتاح وتسامح وعطاء، لا لتضربه الصراعات الحاقدة باسم العقائد والمعتقدات. وجد لكي يكون موطن ضيافة واستقبال وفرح في مدنه المفتوحة على الشمس والنور وجباله المنتصبة كقمم الدهر، لا لكي يصبح مقصداً للظلاميين وأهل الظلام.
وكلما ردّدنا وردّد الكثيرون معنا أن لبنان هو النموذج والرسالة والتوازن في منطقته، برزت وقائع لعلها تقول لبعض الاجيال الجديدة ان شعارات كهذه لا تكفي لبناء أوطان صلبة ولا لتمنع الشباب من حزم حقائب السفر الى الخارج.
لم يعرف شباب اليوم لبنان الأمس، ليس لأنه كان لبنان الجنة بل لبنان الواعد. لأن لبنان كان واعداً وهو لا يزال وعدا مشروعاً. كادت تجربته أن تنجح، والمؤمنون بها لا يزالون يراهنون عليها، لأنها لا تزال مرتبطة بمبررات الوجود. شاهد الجميع عملية تأليف الحكومة وكيف تم توزيع الحقائب بعد عشرة أشهر من الانتظار، وكيف تحولت الممارسة الديموقراطية الى مطالبة بالحصص بصورة مكشوفة ومفضوحة، باسم الوزارات السيادية لتخفي غير ذلك. والكثيرون باتوا يتوقعون الفراغ في الرئاسة ضمن هذا الواقع الذي تسيطر عليه الحروب الاقليمية. وهي التي حملت حسابات البعض على انزال المصلحة اللبنانية الى مرتبة أدنى من مصالح الآخرين. واذا كان ذلك هو ما حصل ويحصل، فكيف يطلب من أصحاب قرار أن يبتعدوا بعض الشيء عن اقتسام الجبنة بلغة الرئيس فؤاد شهاب. فمن يفرط بالغالي لا يطالب بالرخيص. والجبنة رخيصة في ميزان السيادة الوطنية مهما ارتفع ثمنها.
ولكن على رغم كل ذلك، واذا كانت الوقائع الميدانية عنيدة، وخصوصاً في حروب سوريا ومحاورها، والتي يربط البعض مصير لبنان بتطوراتها، ومهما بلغت اعمال القتال والدمار والمخططات التي قد تصل الى تهديد وحدة الكيان السوري نفسه، فان وقائع الحقائق اللبنانية هي أكثر عناداً.
فالكيان اللبناني لم ينشأ مصادفة، كي يجرفه محور عابر أو حرب مستوردة كانت أم مصدرة. هذه كلها مخاطر الجوار ومساوئه التي رافقتنا بشكل أو بآخر منذ البدء.
وكما إنّه كيان لم ينشأ مصادفة، فهو لم يكن جزءاً من أي تسوية أو من أي عقيدة. وحدهم الجهلة والمغرضون ينبشون اتفاق سايكس – بيكو لعام 1916 ليوحوا بأن الكيان مصطنع ومعرض للإهتزاز، من غير أن يعرفوا ان ذلك الاتفاق كان لتوزيع النفوذ وليس لإنشاء الكيانات. لبنان الذي وصل الى مرحلة الاستقلال والدولة بعد أربعة اجيال من الحكم العثماني وأكثر من ربع قرن من الانتداب الفرنسي، لا يمكنه الا ان يكون نتيجة تطور تاريخي طبيعي، فليست الوصايات ولا المحاور هي التي تهز الكيان.
ثم هنالك لبنان الرافض، وهو أقوى من الفريق المغامر. انه يمثل ليس فقط أكثرية اللبنانيين بل أكثرية القيم. الدول العربية ترى لبنان من خلال هذه القيم وتدعمه وتؤمن بضرورته العربية تماماً كما نشأ وتطور وكما يجب أن يكون. فنحن شركاء الاتحاد الاوروبي ومن مؤسسي الامم المتحدة وواضعي شرعة حقوق الانسان. ومؤتمر باريس الحالي هو مؤتمر دولي آخر من أجل لبنان. معظم ادباء فرنسا ومفكريها حلموا بلبنان وكتبوا عنه أروع الصفحات. الرئيس الاميركي الراحل جون كينيدي أرسى شعار ولايته على كلام لجبران خليل جبران. وكتاب “النبي” هو الاوسع انتشاراً في العالم بعد الكتاب المقدس. ومن شارل ديغول الى البابوات جميعاً، كان لبنان وطن التميز والضرورة والنموذج والتوازن. وهنالك ملايين لبنانيي الانتشار يعمرون ويبدعون اقتصاداً وانجازاً وسياسة وعلماً ومناصب وأدباً وتفوقاً.
ولكن اذا كان الكيان صلباً والمجتمع قوياً، فأين هي المشكلة اذاً؟ ولماذا يعيش لبنان وسط الأخطار والتساؤلات المقلقة؟ هل يعود ذلك الى نقص في الوحدة والوفاق أم الى اعتبارات المحيط المتفجر في الثورات والحروب المفتوحة العابرة للحدود، وفي التدخلات المباشرة والارتباطات الخارجية؟
طوال سنوات الحروب، ما بين 1975 و1990، طرح كل شيء. من أسباب الوجود الى أصل اللبنانيين الى مقومات الاستمرار. واقفلت أبواب التشكيك كلها بعد ذلك عند التوصل الى اتفاق.
لقد جاء في الكلمات الاولى لمقدمة الدستور أن لبنان هو وطن نهائي لجميع ابنائه. وهذا تأكيد غير مألوف في الدساتير الأخرى. فاما أن الدولة التي نشأت واستقلت ومارست السيادة وأصبح لها دستور واعترف بها المجتمع الدولي واقام معها العلاقات، هي ذات طابع نهائي مفروغ منه لا لزوم لذكره، وإما إن هنالك نزاعات متعلقة بأساس النشوء، وفي هذه الحال ما كان يجب أن تقوم أصلاً.
لقد حسم الموضوع يومذاك: لبنان بلد عربي، لكن خصائص تكوينه ووحدته تحول بينه وبين التفكير في اي مشروع يمكنه أن ينتقص من سيادته واستقلاله. وهكذا فرضت مقتضيات تكوينه وتاريخه ونتائج حروبه، لأنه ليس هنالك بلد عربي آخر عرف نزاعاً داخلياً مصيرياً بطول الحرب اللبنانية وشراستها. واذا كان هنالك حرص على ابقاء لبنان عربي الهوية وموحداً، فلا بدّ من النأي به عن أي مشروع يتجاوز حدوده.
وهكذا قضى الخيار وقت وضع الحل.
فليس في لبنان مكان بارز للطروحات العقائدية وللصراعات المرافقة لها. وأي طرح يتجاوز الكيان القائم والحدود القائمة شديد الإيذاء للبنان ولمقومات وجوده. هذه هي المشكلة اليوم.
لقد أورد المشترع الدستوري تلك المسلمة عام 1989 في ظروف الخروج من الحروب، وضرورة الانعتاق من التدخلات الخارجية والمراجع الخارجية. كأنه استبق بسنوات الحال التي وصل اليها لبنان اليوم عبر اصرار البعض على ربطه بمرجعية خارجية واعلان ذلك وتكراره بوضوح.
ونتيجة هذين الربط والاصرار عليه، قد لا يكون المطروح اليوم خلافاً على العيش المشترك، بل على طريقة “استعمال” البيت المشترك. هنالك من يريده أن يكون علامة مضيئة في سماء الشرق وآخرون يريدونه مستودعا للحديد والنار. حصل هذا التباين في تطور تاريخي فرضه المحيط. كان الجوار الاسرائيلي معادياً ولا يزال، لكن بعض المحيط اثقل على لبنان بقدر الأعداء، وجرّه الى حيث لا يمكنه ان يكون في أي حال من احواله.
لم يقل كل شيء بعد في ثورات الشرق. مصر عائدة الى نفسها والى دورها العربي والى صداقتها مع لبنان. زعماؤها السياسيون والروحيون يبدون من جديد اهتمامهم الصادق بلبنان. وقيمة العيش المشترك اللبنانية الأصل انتقلت الى تعابيرهم السياسية في مصر الحالية. تونس أدرجت في دستورها حرية الضمير، كأول دستور عربي بعد الربيع العربي، واقتداء بما ورد في دستور لبنان عام 1926 “حرية الاعتقاد مطلقة…”.
على ضوء هذه الوقائع، داخلية كانت أم خارجية، وقد بلغت أخطارها الذروة، هل ان مصير لبنان مهدد فعلاً؟ هل بعد ثمة أكثر من ذلك. ألف سنة في عين الله مثل أمس الذي عبر. فلو استرجعنا تاريخ الحروب منذ عام 1975 حتى اليوم، الا نستنتج أن الجسم اللبناني وان اثخنته جروح كثيرة الا انه بقي سالماً. مقاومته كانت هنا، في صمود اللبنانيين، لأن لبنان هو اللبنانيون. وهذا سر الوجود والاستمرار والأمل المشروع.

حتى يصبح الحياد سياج الوطن
الدكتور داود الصايغ
13 شباط 2014
النهار
ترافقنا هواجس الحياد منذ النشوء، منذ لحظات التكوين الأولى ومبررات الوجود. والشعور نحوها صار يتزايد مع الزمن ليصبح توقا قويا الى حل منشود كتمرد مشروع على توالي الأخطار والمحن، وعدم القدرة على تأمين وطن آمن، إسوة بغيره من الأوطان، تبني عليه الأجيال تطلعاتها المحقة، دونما خوف من الوقوع تكرارا في الحروب والصراعات واليأس والهجرات. فقد قضت الحكمة الأولى عند إنشاء الكيان، بوجوب إبعاده عن العنف. هكذا أفتى حكماء التجربة اللبنانية ومؤسسوها، الذين أدركوا باكرا أن تجربة من هذا النوع لا بدّ أن تسيّج بالأمان الدائم.
هذا التوق الى التحرر من الارتهان عبر التحييد هو التطلع الذي توصل إليه كثيرون بعد كل ما عاناه لبنان سابقا، وخصوصا منذ عام 1975 وحتى اليوم. وإزاء هذا الشعور الذي ينمو بشكل متزايد في المجتمع اللبناني، تقابله عند رافضيه الطروحات ذاتها، التي يخشى معها أن تتكرر المخاطر عينها، وخصوصا في زمن ربط لبنان القسري بمرجعيات خارجية ومحاور إقليمية.
فقد كان قدر لبنان أن ينشأ بهذا الشكل كتجربة خاصة فرضها التكوين البشري المتنوع في منطقة شديدة الاضطراب دائما، حتى قبل قيام إسرائيل عام 1948. فلبنان لم يعش سوى خمس سنوات فقط، ما بين 1943 و 1948 من دون هذا الجوار المعادي والنزاع العربي – الإسرائيلي.
ولكن قبل هذا الصراع المركزي، الذي أثقل على لبنان بأوجه عدة وبصورة مباشرة، لجوءا فلسطينيا وثورة فلسطينية كاملة انتقلت إليه دون غيره، واتفاق شرّع العمل الفلسطيني عبر حدوده، ما أذكى عداء إسرائيل وكرر اعتداءاتها المدمرة، فإن الشرق لم يكن ساكنا ، فهو ليس فقط مهبط الأديان، بل مهبط الثروات والثورات. لم يهدأ يوما، من الاستعمار الى التحرر الى الانقلابات الى الأنظمة المتشددة، الى الصراع الدولي بين الشرق والغرب. وكلها انعكست على لبنان، البلد المختلف عن غيره في المنطقة المختلف بتكوينه البشري وبخياراته السياسية إزاء أنظمة متشددة ومتصارعة في ما بينها. لبنان كان ولا يزال وسط كل هذه الصراعات. كان يرفع شعارات لا يفهمها الديكتاتوريون فغضبوا علينا جميعا في أوقات متفاوتة. وسوريا أقفلت الحدود مرارا، وتجربة نظامها معنا لا تزال حاضرة.
مطلع صيف 2012 صدر إعلان بعبدا ببنده الأساسي في وجوب تحييد لبنان عن الصراعات الإقليمية وكان بذلك موقفاً متقدما يمكن أن تبنى عليه حال جديدة للبنان، بعدما وصل توريطه في حروب الآخرين الى حال غير مسبوقة. ثم جاءت مذكرة بكركي في مناسبة عيد مار مارون 2014 لتعطي مسألة الحياد دفعا جديدا يتجاوز تحييده عن الصراعات الى النظر في وضع لبنان في الاساس لكونه “مجتمعا مركبا”، لا يمكن صونه، وفقا لتجارب الآخرين المماثلة، إلا بنوع من الحياد.
ولكن، إذا أردنا الاقتراب بصورة واقعية وموضوعية من مسألة حياد لبنان فماذا يتبين لنا؟
– للحياد جذور غير مباشرة في مسيرة لبنان ومسيرة نظام حكمه. واذا كان البعض رأى في البيان الوزاري الاستقلالي الأول لرياض الصلح في 7 تشرين الأول 1943 انطلاقاً لهذه الفكرة، إلا أن ما قاله رياض الصلح “إن اخواننا في الاقطار العربية لا يريدون للبنان إلا ما يريده أبناؤه الأباة الوطنيون. نحن لا نريده للاستعمار مستقراً وهم لا يريدونه للاستعمار اليهم ممراً. فنحن وهم إذاً نريده وطناً عزيزاً مستقلاً سيداً حراً”. هذا القول لا يمكنه أن يفسّر بأنه على مسافة واحدة بين الشرق والغرب.
لكن الميثاق الوطني لا ينحصر فقط في البيان الاستقلالي الاول، بل انه مسيرة بدأت في ثلاثينات القرن الماضي واستمرت الى ما بعد الاستقلال. والحديث عن الغرب والشرق جاء على لسان الشيخ بشارة الخوري في خطاب له في بشري في تاريخ 7 تشرين الأول 1945 حين قال: “لقد نشدناه استقلالاً تجاه الغرب وجميع دول الغرب، وتجاه الشرق وجميع دول الشرق”. فهل هذا القول يعني حياداً؟
كان لبنان يومذاك قد انتسب الى جامعة الدول العربية وأقر ميثاقها الذي نص، بناء على طلب لبنان، ألا تلتزم الدول الاعضاء سوى القرارات المتخذة بالاجماع، مراعاة لوضع لبنان. فلقد أقر العرب بوضع لبنان الخاص منذ ذلك الحين. خصوصيته أنه لا يخضع، مثل الدول العربية الاخرى لأكثرية دين معين او طائفة معينة، بل إنه مجتمع مختلط بشرياً، ورئيسه مسيحي. واحترم الجميع هذه الخصوصية، على رغم أزمة 1958 التي انتهت بدعم عبد الناصر بعد ذلك للبنان وتجربته. والجميع اقروا ويقرون بأفضال لبنان في الإسهامات العربية وبحاجة العرب الى دوره. الى أن جاء الزمن السوري بأثقال طموحات نظام الحكم فيه وتحديد مشوّه لعروبة لبنان عام 1986 بأنه حتمية التحامه المصيري بسوريا.
تلك النظرية قادت الى تغييب سياسة لبنان الخارجية ودور لبنان في العالم. وعلى رغم ذلك ظهرت خلال العام 1986 فكرة الحياد اللبناني، في ذروة الصراع السوري – الاسرائيلي في لبنان، وإمكان سحب الجيشين منه اقتداء بالتجربة النمسوية لعام 1955 التي قضت يومذاك، بخروج جيوش الحلفاء منها، اثر سنوات من انتهاء الحرب العالمية الثانية، وإعلان حيادها بين المعسكرين. لكن الفكرة لم تعمر طويلاً، الى أن أذنت الظروف بعد ثلاث سنوات من ذلك التاريخ بالتوصل الى اتفاق الطائف في خريف 1989.
ولكن قبل ذلك، قبل الحروب، ظهرت منتصف ستينات القرن الماضي فكرة حياد لبنان عن الصراعات العربية، يوم كانت تلك الصراعات شديدة الاتقاد، منعكسة على لبنان عبر صحافته خصوصاً وبعض أحزابه وقواه السياسية، فظهرت سياسة خارجية تنأى بلبنان عن صراعات الانظمة، الى حد أن لبنان قام ببعض الوساطات في هذا الشأن.
إذاً من بذور الميثاق الوطني، الى مرحلة الستينات، الى محاولات زمن الحروب، هناك هواجس رافقت المراحل اللبنانية، بسبل صون لبنان وإبعاده عن حروب الآخرين وخلافاتهم القاتلة. كانت فكرة الحياد في وسطها، فهل أن الوقت قد جاء الآن؟
حتى تتقدم مسألة الحياد في لبنان يجب أن ترافقها الشروط الآتية:
1 – لا يمكن أن يفرض الحياد من الخارج بصورة قانونية أو دولية. فما لم تتوافر القناعات الداخلية لذلك لا يمكن أي صيغة قانونية خارجية أن تنجح.
2 – الخارج يمكنه أن يساعد، ولكن ليس الغرب وحده، بل العرب أيضاً وأولاً. يجب ان يساعد العرب على تحقيق حياد بلد عربي شقيق، منتسب الى الجامعة وملتزم ميثاقها، عبر إيجاد صيغة خاصة به، لا تشبه الصيغة السويسرية ولا غيرها، بل تنبع من الوضع اللبناني، ومن خلال محيطه الاقليمي.
3 – الحياد يجب ألا يعني صلحاً مع اسرائيل. إذ على رغم أن دولاً عربية عقدت معاهدات سلام مع اسرائيل (مصر، الأردن) وان الفلسطينيين أنفسهم في حال تفاوض معها، فضلاً عن اقامة دول عربية أخرى علاقات طبيعية معها، إلا أن الحياد لا يعني بالضرورة صلحاً مع اسرائيل. علماً أن لبنان يجب ألا يتحمل من أعباء الصراع معها أكثر من أعباء الآخرين.
4 – يجب ألا يصبح الحياد موضوع انقسام جديد، فريق يرفعه وفريق يرفضه. حينئذ يتعرض للفشل. بل التعامل معه بروح الوفاق، وعدم ادخاله في عوامل الخلافات السياسية.
فكيف السبيل الى كل ذلك؟
القناعات تتكون عبر طرق عدة، ليس فقط برفع شعار الحياد والمطالبة به، بل عبر تكوينه تدريجاً في نفوس الجميع. اذا توصل الجميع الى أن مصلحة لبنان هي قبل مصالح الآخرين يمكن التركيز على الحياد، اذذاك يصبح الحياد عنصر وفاق. فالجميع متفقون على تسييج البيت، والوجوه كلها الى داخل البيت، أفلم يحن بعد أوان التسييج بعد نحو قرن على انشاء الكيان؟