موقعة عرسال»: الأنماط القتالية الجهادية الثلاثة
وسام سعادة/المستقبل
06/08/14
كلّ شيء يحتمل التشبيه بشيء آخر في وجه من وجوهه. عناصر الشبه بين المواجهة في مخيم نهر البارد وبين المواجهة في عرسال غير قليلة. الاعتداء على سلاح الشرعية، والمنطلقات الجهادية للمسلّحين، والتترس وراء أهل مخيم أو في بلدة آهلة بأهلها وباللاجئين، وتداخل المواجهة العسكرية مع المسألة الرئاسية، كلها مشتركات. بعد ذلك يقفل الباب، وتظهر الفروق جلية، وأساسية.
الفارق الأساسي بين المواجهة في «نهر البارد« وبين المواجهة في عرسال دارجٌ حذفه في هذه الآونة. إنه الثورة السورية. طُرح عليها، كثورة، منذ انطلاقتها تحدّ أساسي: كيفية الإقرار بالطابع الفئوي الأقلوي مذهبياً للنظام، وعدم تحوّل هذا الإقرار بحدّ ذاته الى عامل تفتيتيّ سواء للكيان أو للثورة، أي كيفية تحوّل هذا الإقرار بالطابع الفئوي الأقلويّ مذهبياً لهذا النظام، والمصادفات المذهبية لتحالفه الإقليمي مع إيران و»حزب الله»، الى عنصر توحيدي، للنسيج الأكثري من المجتمع السوري ولهذا المجتمع بشكل عام (ناقص لبّ النظام). بديهيّ أنّ هذه المسألة، على تعقيدها الكثير، لم تطرح نفسها في أروقة أكاديمية، إنما في ظل صراع محتدم، سمته الأبرز عملية قمع دموية للمنتفضين ضد النظام، وتنامي القناعة أكثر فأكثر، بأنّ الكفاح المسلّح ضروريّ.
لم تكن المشكلة في حمل السلاح بحد ذاته. ما حدث أن حمل السلاح رفع من التحدي المطروح على الثورة: كيفية إقرارها بفئوية النظام دون أن يكون هذا الإقرار تفتيتياً لها كثورة.
الجواب جاء منحرفاً عن ألفباء حرب العصابات. بدل ترك الحراك الانتفاضي الشعبي يواصل ضغطه في المدن جرت المسارعة الى احتلال المدن وتحمل وزر تموينها. وبدل التركيز على قطع امدادات النظام حدث أن النظام فقد كل شيء إلا خطوط امداداته الى جبهات القتال. وهنا ينبغي الاعتراف: من بين كل الفصائل المقاتلة، وحده تنظيم «الدولة الإسلامية» اعتمد استراتيجية قتالية مختلفة. هي بالأحرى استراتيجية «انزوائية» أكثر منها قتالية للنظام في مرحلة أولى. فكما استدام الأكراد في القامشلو من احتدام الصراع للفوز بإدارة ذاتية لمنطقتهم قام تنظيم «الدولة» باقتطاع إمارته حول الرقة وشبك مع فرعه الأصلي في العراق وتمدّد بضرب أو دمج فصائل أخرى. كل هذا كانت محصلته أن المكابرة على المسألة الطائفية في أول أيام الثورة تحولت الى اعتناق دارويني لها، بثياب إسلامية: جعل الأمور تبدو كما لو أنّ المضطهَدين فئوياً جلّ ما يصبون اليه هو أن يتحولوا الى مضطهِدين للفئات الأخرى. إما البقاء بإفناء الآخر وإما الفناء. هذا أعطى تنظيم «داعش» زخماً أساسياً لأنه ترافق مع مغايرته القتالية لأسلوب الفصائل الأخرى «المكابِدة»، المتحصنة في المدن والذي يهدّ الاسمنت على رأس مقاتليها والآهلين. وهو ما يختلف عن حيوية حرب العصابات الداعشية، من فئة حرب الصحراء بالأساس، وهذه تخاض بالاستناد الى تصور واسع لدائرة العمليات، إذ يشمل العراق وسوريا، وقدرة سريعة على تحريك المقاتلين من منطقة الى أخرى.
نحن إذاً أمام نمطين قتاليين. أحدهما حيوي، متحرّك، يمثّله «داعش»، ويرتبط بتصميمه على بناء دولة هي كناية عن اختزال عماد الدين الى «قانون عقوبات أزلي»، وبمركزية فكرة «الهجرة» من كل الأصقاع ، لإقامة «الدولة المهاجرة» وليس لـ»نصرة» شعب مسلم مظلوم فقط. النمط الثاني تمثّله الفصائل الأخرى. ليست عندها سرعة الحركة كـ»داعش» لأنها تعتمد على عنصر بلديّ، على مقاتلين يحاربون غير بعيد من مسقط رؤوسهم. وبالتالي، بخلاف تنظيم «داعش» الذي لا يضع نفسه في مواجهة مع عنصري قوة النظام السوري العسكرية ضد الثوار، أي المدفعية والطيران، فإن الفصائل الأخرى تتحصن في المدن، وتعيد تذكيرنا كلبنانيين بما امتاز به جيش حافظ الأسد في الحرب اللبنانية على الدوام: المدفعية.
في المقابل، لا المدفعية ولا طائرات السوخوي لها مثل هذه المكنة في حروب الصحراء وحيال التشكيلات المسلّحة المتحركة. هذا امتياز لـ»داعش»، و«داعش« لا يكذّب خبراً: فكل تطرّفه يصير اعتدالاً حيال النظام، فالمرحلة تقتضي ملازمة «حرب المناوشات» معه.
لكن ما يحصل ساعتئذٍ أن النظام و»حزب الله» يطلقون اسم «داعش« على كل أخصامهم، وكل ما ليس له علاقة بدينامية حرب الصحراء الداعشية. ما يسمح لـ»حزب الله» تحديداً بذلك، إنه إذا اعتبرنا أن ثمة نمطاً قتالياً داعشياً من جهة، ونمطاً آخر يجمع «الجيش الحر« و«النصرة« وغيرهما، فإن نمطاً قتالياً ثالثاً قد تطور على جانبي الحدود اللبنانية – السورية، خصوصاً في مواجهة تدخل «حزب الله».
في هذا النمط الثالث، وبخلاف حرب الصحراء الداعشية، وحرب المدن والضواحي من حلب الى الغوطة، نحن أمام خليط هجين. خليط متحرّك ليس لأنه يتقن التحرّك بل لأن يواجه كماشة من كل الجهات ويحاول أن يبقي على نخاعه الشوكي حياً يرزق، بعد القصير، وبعد يبرود، متنقلاً بين الجبال، محاصراً حيناً، ومتمكناً حيناً آخر، لا يصله الإمداد بشكل كافٍ، في العتاد والمقاتلين والمال، لكنه لا ينقطع عنه، يتحكّم النظام السوري والحزب بمسار المعركة معه، لكن ليس في كل وقت. هذا النمط الثالث، يذكّرنا بعض الشيء بالفلول التي خلّفها البيزنطيون وراءهم في اثر الفتح العربي. لكن هؤلاء المقاتلين، من النمط الثالث، لا يدري أحد منهم أنه يعيد تمثيل دور «الجراجمة ومردة» نوعاً ما. الكماشة تتسع عليهم ثم تضيق ثم تتسع وهم عينهم على «الفتح» حتى لو أرسى في الأخير على فتح «عرسال».