رلى موفّق/اغتيال الناشط لقمان سليم أمام فرصة التدويل فهل يُفرمل آلة القتل السياسية في لبنان؟

55

اغتيال الناشط لقمان سليم أمام فرصة «التدويل» فهل «يُفرمل» آلة القتل السياسية في لبنان؟
رلى موفّق/القدس العربي/11 نيسان/2021

تتعاظمُ التحذيرات في بيروت من اغتيالاتٍ ذات طبيعة سياسية بعدما دفع التوازن السلبي بين اللاعبين فوق رقعة الشطرنج اللبنانية بالمأزق الكبير، الذي يستوطن البلاد، حدّ الاستعصاء وارتطامه بالحائط رغم طوفان المساعي الدولية والعربية لإحداث كوّة تُتيح إمرار حكومة، أقلّه لإدارة الأزمة أملاً بفرملة الانهيار المريع.

وتجاوزت المخاوف من الاغتيالات حدود «التهويل» بعدما قيل الكثير، وبـ»مكبّرات الصوت» عن تقارير متعددة المصادر، داخلية وخارجية، أشبه بـ»نشرة حمراء» تُحذّر من «بنك أهداف» سياسي لعمليات استهداف محتملة، وهو الأمر الذي ملأ شاشات بيروت، وعلى ألسنة مسؤولين معنيين كوزير الداخلية وسواه.

ويُرجّح أن يكون «الإفلات من العقاب» أو تسجيل غالبية الجرائم السياسية ضد مجهول، سبباً مباشراً لاستخدام القتل السياسي في لبنان وسيلة رائجة لتعديل موازين القوى، أو تصفية حسابات، أو إزاحة وجوه مؤثرة عن مسرح العمليات السياسي، في بلاد تحكمها النزاعات الدائمة والتسويات الصعبة.
فلبنان يحتلُ الصدارة في الجريمة السياسية، وينافسُ كبريات الدول وصغيراتها على تبوُّء الساحة رقم واحد على الكوكب بعدما اقترنت حياته السياسية بـكواتم الصوت، والسيارات المفخخة، والكمائن الملغومة، في سياق جرائم غالباً ما تبقى ملفات التحقيق بشأنها خاوية، أو تُسجّل ضد مجهول ولو معلوم.

ثمانية عقود والاغتيالات مستمرة
لم يكن مفاجئاً الإحصاء الذي نشرته «الشهرية» الصادرة عن «الدولية للمعلومات» وفيه أن لبنان شهد منذ استقلاله في العام 1943 وحتى السنة الحالية (2021) 220 عملية اغتيال ومحاولة اغتيال تُصنّف سياسية طالت شخصيات سياسية، ودينية، وفكرية، وإعلامية، وعسكرية، ودبلوماسية.

وتَذكُـرُ هذه «الأرشفة» أن اللائحة الدموية شملت 19 صحافياً أو صاحب مؤسسة صحافية، 18 رجل دين، 24 شخصية سياسية، 39 شخصية حزبية، 4 من العسكريين، 4 من قضاة، 17 اغتيالاً لدبلوماسيين وسياسيين وعسكريين عرباً وأجانب، إضافة إلى 95 محاولة اغتيال لم تُوفّر قادة رأي وزعماء وإعلاميين.
رئيسا جمهورية (بشير الجميل ورينيه معوّض) ثلاثة رؤساء حكومة (رياض الصلح، ورشيد كرامي، ورفيق الحريري) وزراء ونواب وقامات صحافية بارزة «شُطبوا» في لعبة حديد ونار تبعاً لأجندات سياسية، محلية وإقليمية، غالباً ما كان هدفها ترويض الوقائع والمعادلات وتطويقها.

الرصاصة الأولى في «السيرة الذاتية» للجرائم السياسية، على مدى نحو ثمانية عقود، كانت لبنانية، أودت بحياة رئيس حكومة الاستقلال رياض الصلح، أما آخر رصاصة – ولن تكون الأخيرة بطبيعة الحال – فاغتالت في 4 شباط/فبراير الماضي الباحث اللامع، والمفكّر والناشط السياسي لقمان سليم.
اغتيال سليم المعارض لـ»حزب الله» شكّل نموذجاً صارخاً للجريمة السياسية المتمادية في لبنان، انطلاقاً من مفارقات عدة، أبرزها:

– إنها الأولى بعد صدور الحكم عن المحكمة الدولية في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري بإدانة عنصر من «حزب الله» الأمر الذي أسقط الرهان الأهم على المحكمة باعتبارها الرادع الذي سيُنهي حالة الإفلات من العقاب، ويطوي تالياً صفحة الاغتيالات السياسية في لبنان.
– وقوع الجريمة في أرض الـ1701 القرار الدولي الذي وضع المنطقة الممتدة من جنوب نهر الليطاني إلى الحدود في عهدة الشرعيتين اللبنانية (الجيش اللبناني) والدولية (قوات اليونيفل) التابعة للأمم المتحدة.

– جريمة مزدوجة كغالبية عمليات التصفية السياسية، حيث يُقتل «الهدف» ويُقتل التحقيق أيضاً، عبر خواء الملفات من أي قصاصات أو نتائج، لا أولية ولا نهائية.
يُشكّل الصمت الرسمي المطبق حول الجريمة فضيحة الفضائح، ويُضيف تأكيداً جديداً على خوف الدولة ومؤسساتها وأجهزتها من فضح الجناة. المسألة لا تتعلق بحكاية فشل أو تقصير، بل بحكاية خوف وخضوع مِن الذي يَقتل، وحكاية تواطؤ في أبشع السيناريوهات.

الكونغرس ورفع العتب
ولكن ما عاد الأمر مرهوناً بما تفعله السلطات اللبنانية أو لا تفعله. فالقضية عملياً تخطَّتْ في بُعدها حدود الوطن الرهينة لـ»ميليشيا» تُطبق عليه بفعل هيمنة السلاح، وتغلغلها في المؤسسات، وإطباقها على الدولة.

صحيح أن مجلس النواب الأمريكي أرسل بُعيد الاغتيال، عبر لجنة الشؤون الخارجية، مذكّرة إلى الرئيس الأمريكي لحضّه على تحديد «ردٍ مناسبٍ» لقتلة سليم باستخدام قانون «ماغنيتسكي» لكنه أردفَ الطلبَ بجملة «إذا كان الأمر مناسباً» نظراً إلى تأثير مُفترض لذلك على العلاقة مع إيران في وقتٍ يُريد سيّد البيت الأبيض إعادة بث الروح في الاتفاق النووي الإيراني، الذي خَـرَجَ منه سلفه دونالد ترامب.

فأصابع الاتهام وُجّهت، منذ اليوم الأول، وحتى ما قبل الاغتيال، إلى «حزب الله» بوصف أن سليم لم يكن معارضاً شرساً لـ»الحزب» فحسب، بل كان ممن عملوا بقوة، في البيئة الشيعية، لأخذ شبابها وشاباتها نحو الاعتدال، والانفتاح على ثقافات لا تُشبه ثقافة الولي الفقيه، وكان ممن جاهروا في تحميل «الحزب» مسؤولية انفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب/أغسطس 2020. وقد وصفت المذكرة سليم بأنه «ناشط معارض لحزب الله، و‏عضو بارز في المجتمع المدني اللبناني، وداعم أساسي للديمقراطية،‎ ‎ومن الداعين إلى محاسبة ‏كل المشاركين في الحكم والحكومات بمن فيهم الحزب». واعتبرت أن هذا الاغتيال السافر، بحق ناشط جاهَـرَ ‏بموقفه، يهدفُ إلى «ترهيب وإسكات أصوات الناشطين الآخرين، خصوصاً في ضوء تاريخ لبنان ‏المأسوي مع الاغتيالات السياسية من دون محاسبة أي من المرتكبين».

دخول أممي وتوعّد لحكومة لبنان
على أن تطوراً آخر حصل مع مرور ذكرى الأربعين على الاغتيال، إذ نُشرَ في 22 آذار/مارس 2021، عبر موقع مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، بيانٌ عن قيام ثلاثة خبراء من الأمم المتحدة بدعوة الحكومة اللبنانية لضمان تحقيق موثوق وفعّال في «القتل الوحشي» لسليم. الخبراء، وهم أغنيس كالامار المقرّرة الأممية الخاصة المعنية بحالات الإعدام خارج نطاق القضاء، والتي تولّت متابعة قضية مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي، ودييغو غارسيا سايان المقرّر الأممي الخاص المعني باستقلال القضاة والمحامين، وأرين خان المقرّرة الأممية المعنية بتعزيز وحماية الحق في حرية الرأي والتعبير، قالوا إنه «ينبغي للحكومة اللبنانية أن تنظرَ في طلب مساعدة تقنية دولية للتحقيق».

وتوقفوا عند ما أثاره الرجل في تساؤلاته عن سبب وطريقة نقل المواد الكيميائية الخطرة التي انفجرت في مرفأ بيروت، مطالبين بـ»وجوب إجراء تحقيق كامل في أي علاقة مزعومة بين الانفجار والاغتيال» ولفتوا إلى تعرّضه لترهيب ومضايقات وتهديدات متكررة، وإلى أنه طلب الحماية علناً، وأنه «كان على الحكومة اللبنانية التزام اتّخاذ كل الخطوات التي يمكن توقّعها بشكل معقول لحماية سلامته» وأن الفشل في القيام بذلك قد يؤدي إلى «تحميل الدولة مسؤولية انتهاك حقه في الحياة».

هؤلاء الخبراء الثلاثة الذين قرّروا متابعة قضية سليم، دعوا الحكومة أيضاً «لضمان الحماية الفعّالة لجميع الأشخاص الذين قد يتعرّضون حاليًا لخطر العنف المستهدف لأسباب تتعلق بعملهم أو بسبب آرائهم». وحثوا السلطات على «إنهاء الإفلات من العقاب السائد، وإعادة الثقة بمؤسسات العدالة من خلال تدابير مثل إنشاء لجنة مستقلة ومحايدة للتحقيق في فشل التحقيقات السابقة في مقتل المدافعين عن حقوق الإنسان والنشطاء والسياسيين في لبنان». وطالبوها بأن «تنظرَ في دمج وحدة من الخبراء الدوليين لتقديم المشورة ودعم التحقيقات في جرائم القتل المزعومة ذات الدوافع السياسية وضمان المساءلة». وختموا بيانهم بأنهم «سبق أن أثاروا مخاوفهم مع الحكومة اللبنانية، وسيواصلون مراقبة الوضع ومتابعة حوارهم».

لعنة خاشقجي
في قضية خاشقجي، وحدها أغنيس كالامار أثارتِ القضية، فقامت الدنيا ولم تقعد. ارتكز الإعلام الأمريكي، والدولي، والعربي المناهض للمملكة العربية السعودية على تقريرها لتوجيه الاتهامات إلى ولي العهد محمد بن سلمان. فشكّل التقرير إدانة معنوية. في الأساس، لا سلطة قضائية للتقرير، لكنه تحوَّل إلى لعنةٍ تطاردُ مَن حامت حوله الشبهات.

أما في قضية سليم، فهناك ثلاثة مقررين تعاهدوا على السير بها ومتابعتها. سيعملون على البحث وتقصّي الحقائق وكتابة تقريرهم. تقول رشا الأمير شقيقة لقمان «إن التقارير تكون مُعلنة ومُفصلة ودقيقة. هي تقارير غير مُلزمة إنما قد يتحمّس أحدهم ويرفع دعوى. نحن لا نعرف الآليات، ونتمنى الوصول إلى آلية شفافة، فمحكمة رفيق الحريري (رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق) توصّلتْ إلى القاتل، ولكنه مختفٍ. وأُنفقت عليها مبالغ طائلة لمدة 16 سنة، ولم تُعطِ إلا نتائج ضحلة، ونحن لا نريد العمل بنفس هذه الطريقة. سنجرّب الاستفادة من تجارب لبنان المؤلمة ونذهب باتجاه آخر».

كتبتْ مقالة بالانكليزية طالبتْ فيها بمحكمة ضخمة على غرار «محكمة نورمبرغ» التي أُنشئت للنظر في جرائم النازية بعد الحرب العالمية الثانية. ترى أن «هناك اليوم مشكلة، وهي أن العالم الحر يُدافع عن الديكتاتور بسبب مصالحه. لقد تحوّل هذا العالم المعولَم إلى «كبكوب» من المصالح، وكل سياسي في هذا العالم لا يُفكر إلا بالانتخابات المقبلة كي يُعاد انتخابه، وهذا يُعيق الأمور. ولكن علّهم يستفيقون ليحاكموا المنظومة ككل التي أوصلت المنطقة كلها إلى هذا الركام وليس فقط لبنان».

تحويل الموت إلى قيامة
سيدات ثلاث، هن الأم الباحثة سلمى مرشاق، والأخت الأديبة رشا، والزوجة المخرجة الألمانية مونيكا بورغمان، حملن شعار «صفر خوف». وتحوّل إلى شعار ترفعه غالبية الناشطين تعبيراً عن تضامنهم وإعلان قرارهم بمواجهة رسالة القتل التي أُريد منها بث الخوف في نفوس مَن يتجرّأ على رفع الصوت. سيدات ثلاث حوّلن الموت إلى قيامة. وجعلن من الحب اللامتناهي أسطورة تغلبّت على «رصاصاتٍ ستٍ حاقدة» وعلى ثقافة القتل، بمشروع ثقافة حياة من خلال إنشاء «مؤسسة لقمان سليم» التي ستكون عبارة عن «مؤسسة أحلام كبيرة».

المؤسَّسة لديها جملة أفكار. أولها، حَثّ الناس على التفكير بالاغتيال السياسي في لبنان والعالم العربي والعالم أجمع، وتأطير ذلك إما في رواية أو دراسة أكاديمية أو فيلم، بتبنٍ من المؤسسة. وثانيها، إعادة تجميع المحصول الفكري للقمان الكاتب، وجمع كتاباته وإعادة نشرها. أما ثالث الأفكار، فهي إنشاء مكتبة باسمه تُعنى بالكتب النادرة التي كان يعشقها ويجمعها، والعمل على إعادة طبعها.
قبل لقمان سليم، قُتل الكثيرون من قادة الرأي، سمير قصير أحد هؤلاء. أنشأَتْ زوجته جيزيل خوري مؤسسة باسمه للدفاع عن الحريات الإعلامية والثقافية، فيما لا يزال التحقيق في اغتياله عالقاً على الرغم من أنه مواطن فرنسي.

مخاوف الحقبة الرمادية
الحجم الكبير لجرائم الاغتيال لا يتماشى مع الحجم الصغير للبلد. كان يُعوّل على أن يُشكّل إنشاء المحكمة الدولية لمحاكمة قتلة الحريري رادعاً للجريمة السياسية في لبنان، خصوصاً بعدما العام 2005 حين تحوّل الاغتيال إلى وسيلة معتمدة لترهيب خصوم المحور السوري – الإيراني. غير أن آلة القتل كانت تأخذ فترات استراحة وفقاً للمناخات والأجواء في المنطقة.

اليوم تحكمُ الإقليم حالة من الانتظار، وتلفّه الضبايية التي عادة ما تكون الأخطر على دروب الاغتيال في إطار لعبة تحسين المواقع أو تغيير الموازين أو تعديلها. يمرُّ لبنان بحقبة رمادية غير واضحة في نهاياتها، ترتفع معها مخاطر الجريمة السياسية لإسكات أي صوت قد يُعارض الهيمنة على البلاد التي تحمل راهناً سمة إيرانية عبر ذراعها العسكرية المتمثلة بـ»حزب الله». ويزدادُ القلق في ظل الانكشاف الأمني المتوقّع مع الانهيار الاقتصادي، والمالي، والاجتماعي، والذي سيجعل من السهل اللعب بالساحة اللبنانية وتحويلها إلى مسرح عمليات وصندوق بريد بالحديد والنار.

قد يكون صعباً الرهان على تقرير لخبراء دوليين في مجال حقوق الإنسان لوقف آلة القتل السياسي، لكنه ربما يفتح ثغرةً للمحاسبة مستقبلاً إذا ما سارت السياسة وفق ما تشتهي النفوس التوّاقة إلى إحقاق الحق والعدالة!