سجعان قزي/افتتاحيّةُ جريدة النهار: وطنُ الصَفْحِ والمصالحةِ والمصافحة

68

وطنُ الصَفْحِ والمصالحةِ والمصافحة
سجعان قزي/افتتاحيّةُ جريدة النهار/01 نيسان 2021

حين أرى الجماعةَ الحاكمةَ، وهي متعدِّدةُ الأطراف، تَستخِفُّ بمصيرِ لبنان، وتَتفرَّجُ من شرفاتِها ومقارِّها على نتائجِ خِياراتِها وسياساتِها وسلوكيّاتِها غيرَ عابئةٍ بسقوطِ الدولةِ و”موتِ” الشعب، أستعيدُ ظروفَ تأسيسِ دولةِ لبنان من الإمارةِ والقائمقاميّتين إلى المتصرفيّةِ فلبنانَ الكبير. حين كنا جماعةً مبعثَرةً أسَّسنا دولةً، ولـمّا صِرنا دولةً نَعجَزُ عن تأليفِ حكومة!! والُبْنَناه!

خِلافًا لما يَتوهَّمُ البعضُ: “لبنانُ الكبيرُ” ليس “هديّةً فرنسيّةً” للمسيحيّين، إنّما إنجازٌ مسيحيٌّ للّبنانيّين ونَموذَجٌ لبنانيٌّ للعربِ والعالم. مشروعُ فرنسا للمشرقِ، بعدَ الحربِ العالميّةِ الأولى، كان نقيضَ مشروعِ الكنيسةِ المارونيّة. لكنَّ البطريركيّةَ المارونيّةَ نَجحت في تعديلِه، فكان لبنان الــــ 10452 كلم².

سقوطُ السلطنةِ العُثمانيّةِ شرَّع الأبوابَ أمامَ الدولِ المنتَصِرة، لاسيّما فرنسا وبريطانيا، لتَرسُمَ كياناتٍ لشعوبِ الشرقِ الأوسط التي أخَضعَتْها السلطنةُ العُثمانيّةُ مدّةَ 400 سنة. لم تَكن مَهمّةُ الثنائيِّ الفرنسيِّ/البريطانيِّ سهلةً لسبَبين على الأقل: 1) عدمُ وجودِ كياناتٍ تاريخيّةٍ سابقةٍ وثابتةٍ وشرعيّةٍ لشعوبِ الـمِنطقةِ خارجَ دولِ الفتوحاتِ العسكريّةِ الأوروبيّةِ (الإغريقُ والرومان) والإسلاميّةِ (العربُ والعثمانيّون). 2) إشكاليةُ تمريرِ احتلالٍ أوروبيٍّ جديدٍ يَعقُبُ احتلالًا عُثمانيًّا، فيما الشعوبُ العربيّةُ ظَنّت أنّها تَحرّرت من العُثمانيّين لتَعبُرَ إلى الاستقلالِ والمشاريعِ الوِحدويّة.

مع أنَّ بريطانيا وفرنسا رَغِبتا في تقديمِ احتلالٍ مُجمَّلٍ يزاوِجُ بين استعمارِهما المشرقَ المتوسطيَّ وشِبهَ الجزيرةِ العربيّةِ من جِهة، ونَسْجِ علاقاتٍ سلميّةٍ مع شعوبِ هذه المنطقةِ من جِهة أخرى، إلا أنّهما ما كانتا مُستعدّتين لأن تَسمَحا بإقامةِ سلطنةٍ أو خِلافةٍ عربيّةٍ مكانَ السلطنةِ العثمانيّة، خصوصًا أنْ لم تكن جميعُ شعوبِ هذه المنطقةِ وِحدويّةً بالمشاعر، لا بل نَشأت دعواتٌ إلى تقريرِ المصيرِ خارجَ الدولةِ العربيّةِ الكبرى. هكذا، جاء بناءُ الشرقِ الجديدِ مطابِقًا، إلى حدٍّ كبيرٍ، أماني الشعوبِ بجميع فئاتها. والبرهانُ، أنَّ الشعوبَ العربيّةَ في المشرقِ وشبهِ الجزيرةِ العربيّةِ ووادي النيل والمغرب لم تُبادر، بعدَ زوالِ الاستعمارِ، إلى إسقاطِ كِياناتِ دول “سايكس ـــ بيكو”، وتأسيسِ دولةٍ وِحدويّةٍ، فيما جماعاتٌ كثيرةٌ في هذا الشرقِ تُطالب اليومَ بحكمٍ ذاتيّ.

في ظِلِّ هذه الأجواءِ وُلدَ لبنانُ الكبير. وكان جبلُ لبنان الكيانَ الوحيدَ الذي، في هذا الـمَشرِق، يَتمتّعُ باستقلاليّةٍ دستوريّةٍ قائمةٍ (المتصرفيّة) ومعتَرفٍ بها ومضمونةٍ دوليًّا حتى من السلطنةِ العُثمانية. أمّا سائرُ ولاياتِ المشرق فكانت، قبل حرب 1914، تحتَ سلطةِ العُثمانيّين المباشَرة. لكنَّ الموارنةَ لم ينتظروا الحربَ العالميّةَ الأولى لكي يطالبوا بلبنانَ الكبير، فبعد أحداثِ سنة 1860/61، رَفعوا عريضةً إلى الدولِ الأوروبيّةِ وفرنسا يُحدِّدون فيها حدودَ جبلِ لبنان كالتالي: “من جبال النصيريّة إلى نواحي بلادِ بشارة فوق صور، على أن تَتبعَ لها بلادُ بعلبك والبقاعُ وحاصبيا وراشيا، وتُعادَ إلى جبلِ لبنان المدنُ التي انسَلَخت عنه وهي: بيروت وطرابلس وصيدا وصور التي هي من ضروريّات التمدّن”.

لم يكن الفرنسيّون متحمِّسين في البدايةِ لفكرةِ لبنانَ الكبير، وراحوا يُسَوّقون عبر بعض المستَشرِقين، من بينِهم الأب اليسوعي هنري لامّنس (Henri Lammens) مشروعَ سوريا الكبرى. ففي محاضرةٍ ألقاها الأب لامّنس في مدينةِ الإسكندريّة سنةَ 1919، بعنوان: “التطوّرُ التاريخيُّ للقوميّةِ السوريّة”، قال: “حَذارِ من تمزيقِ أو من تجزئةِ غِلالةِ الوطن، فهي قِطعةٌ واحدةٌ لا قِطبةَ فيها ولا دَرْزة، فأنا منذ أنْ جَعلتْني العنايةُ الإلهيّةُ أعكِفُ على دراسةِ هذه المسألةِ، لم أعرِف إلا سوريا واحدة، هي سوريا الجُغرافيا والتاريخ والتقاليد، على نَحوِ ما كوّنها الخالق، وعلى نحوِ ما فَهِمَها كُتّابُ العصورِ القديمةِ من أمثال سترابون وپْلين واليونان والرومان”. واعترفَ لامّنس لاحقًا أنّه سَوَّقَ مشروعَ سوريا الكبرى بناءً على توجيهِ السلطاتِ الفرنسية آنذاك.

لم تيأس الكنيسةُ المارونيّةُ ولم تُحبَط، فقامت بحملةٍ سياسيّةٍ وديبلوماسيّةٍ في فرنسا والڤاتيكان وأوروبا إلى أن اقْتنعَت فرنسا تدريجًا بضرورةِ تأمينِ ملاذٍ دستوريٍّ شرعيٍّ للمسيحيّين في لبنان. وحين انتزعَ البطريركُ الياس الحويك هذا الموقف، ورغم جميع المآسي والمجازرِ التي تعرّضَ لها المسيحيّون بين 1840 و 1861 في لبنان وسوريا، طالبَ البطريركُ الحويك بدولةِ التعايشِ المسيحيِّ/الدُرزيِّ/الإسلاميّ، لا بــ”وطنٍ قوميٍّ مسيحيٍّ” صَرْف. أراد وطنَ الصَفحِ والمصالحةِ والمصافحة.
راهنَ المسيحيّون في لبنانَ الكبير على التعدديّةِ مع المسلمين قاطبةً بعدَ رهانِهم، في إمارة الجبل، على التعدّديةِ الثنائيّة مع الدروز. وإذا كان المسيحيّون يُقدِّرون خصوصيّةَ عَلاقاتِهم بالدروز، فإنهم يَعتبرون أنَّ لبنانَ الكبير يَفرِضُ الانفتاحَ على المسلمين عمومًا وصولًا إلى أفضلِ العلاقاتِ مع المحيطِ العربي. في الحالتين (الإمارةِ ولبنانَ الكبير) بَحَثَ المسيحيّون عن ثلاثِ ثوابت: الحرّيةُ، الأمنُ، والأخوّةُ المسيحيّةُ/الإسلاميّة. واستمرارُ هذه الثلاثيّةِ رهنٌ بوجودِ وطنٍ مستقلٍّ ودولةٍ قويّة ونظامٍ ديمقراطيٍّ. ولقد شَكّلَت هذه الثلاثيّةُ مادّةَ نضالِ كلٍّ لبنانيٍّ لا ولاءَ له إلّا للبنان. وشَكّلَ المسُّ بها مادّةَ نقاشٍ حول مدى صِحّةِ خِيارِ لبنان الكبير.

نزعةُ المسيحيّين الاستقلاليّةُ والوطنيّةُ برزت في محطّاتٍ تاريخيّةٍ عدّة: حين قرّرَ العثمانيّون والأوروبيّون نظامَ القائمقاميّتين التقسيميَّ سنةَ 1841، رفض البطريركُ يوسف التِيّان ذلك وطالَب بوِحدةِ الجبل برئاسةِ حاكمٍ من آل شهاب. ولدى إعلانِ نِظامِ المتصرفيّة عارضوا أن يكونَ “المتصرِّفُ” أجنبيًّا حتى لو كان مسيحيًّا؛ ولدى الاحتفالِ سنةَ 1861 بتنصيبِ داوود باشا، أوّلِ متصرِّفٍ، قاطعَ عددٌ كبيرٌ من أعيانِ الموارنة الاحتفالَ في بيروت، وتَظاهرت نساءٌ مارونيّات واقْتحَمْنَ الاحتفالَ رافضاتٍ “حاكمًا غريبًا”. ويومَ عَلّق الفرنسيّون الدستورَ بين سنتي 1932 و 1943 ثار البطريركُ أنطون عريضه ورَفضَ تعيينَ المفوِّضِ السامي الفرنسيّ، أنطوان بريڤا أوبوار، رئيسًا للبنان، فتَمَّ انتخابُ حبيب باشا السعد.

حين يكونُ لبنانُ ثمرةَ هذه النضالات، لا يجوزُ أنْ تتولّى مصيرَه طبقةٌ سياسيّةٌ تُبدِّد ُالنضالات والأمانةَ وتُعرِّضُ هذا المسارَ التاريخيَّ والاستقلاليَّ للخَطر. هل يَخفَى أنَّ الناسَ تَتحدّثُ في مجالسِها عن بدائل؟ استباقُ هذه البدائل يبدأ برفعِ الصوتِ في وجهِ جميع المسؤولين. والحالُ المأسويّةُ تُحتِّمُ تصريفَ أفعالٍ بصيغةِ الأمر، وقد آليْنا، حتّى الآن، أنْ نُصرِّفَها في صيغةِ التمني.