الكولونيل شربل بركات/كلام السيد البطريرك

241

كلام السيد البطريرك
الكولونيل شربل بركات/28 شباط/2021

خاطب صاحب الغبطة أمس اللبنانيين المجتمعين في ساحة بكركي، بالرغم من اخطار الكورونا، بكل صراحة وجرأة واصرار على تخليص لبنان، بعد أن دخل البلد في دوامة من قلة الاخلاق في ممارسة السياسة، خاصة ممن يدعون الحفاظ على حقوق الطوائف وهم براء منها.

لقد أدعى هؤلاء بأن هناك تهديد للوطن من قبل دولة جارة تستمر باحتلال جزء من الأرض، فإذا بهم يجيّرون البلاد بكاملها لنظام أقل ما يقال فيه بأنه مستفذ يعمل للسيطرة على جيرانه بالقوة ونشر الحقد والتفرقة.

وقالوا بأنهم يخدمون طائفتهم المظلومة والمهدورة الحقوق، فإذا بهم يهدرون كل حقوق اللبنانيين بما فيه الأئمة والأحرار في طائفتهم بالذات، وكل من خالفهم الراي فيها، ويمعنون بفرض طقوس غريبة وعزلة قاسية وعقلية رجعية أين منها انفتاح اللبنانيين على المحيط والعالم. فيعادون كل الجيران ويحاربون كل الأنظمة التي لا تخضع لأسيادهم الجدد.

وقد صادروا حق النضال في سبيل الوطن وادعوا بأنهم يقاتلون لتحريره، ولكنهم قاتلوا أصحاب الأرض ومنعوهم من العودة إلى حضن الدولة، وتمسكوا بمن سموه عدو لتغطية تفردهم بالسلاح وسيطرتهم على ارادة الشعب.

ثم عملوا على فرض شريعة الغاب وتغييب القانون والشهامة والاخلاق في ممارسة السلطة، فإذا بهم يطلقون يد الفاسدين، ويجعلون هذا الفساد قاعدة لتحالفاتهم شوهت وجه لبنان الحضاري وأسقطت ثقة العالم به، وهو راس مال اللبنانيين الوحيد، فتمرّغ البعض بخيرات سرقة المال العام، ووقعت الأغلبية تحت خط الفقر.

السيد البطريرك كان واضحا وكلامه لا يحتمل التأويل، فلبنان لا يمكنه أن يعادي أحدا من دول المحيط، لأن اللبنانيين يعملون في هذه الدول ومنها يسترزقون. ولكنهم ليسوا عملاء لأحد ولا ينفذون سياسات مرسومة في جحور المخابرات، بل إن سعيهم من أجل الرزق هذا واضح على رؤوس الأشهاد، وهم بكل كرامة يسهمون بتطور المحيط، ويشكلون دعامة للاستقرار تخالف بالطبع مهمة هؤلاء بالهدم والتبعية. ولن يكون لبنان بلد الاستعداء ولا منطلقا لسياسات الحقد والبغض التي لا تشبهه، فهو بلد الانفتاح بلد التعاون ومدرسة التسامح والرقي، ولن يكون ابدا بؤرة الشر أو موطن الحقد الأعمى. فالشر والحقد أمراض معدية تتفشى سريعا من حول حاملها فتؤذي بيئته قبل أن تصل إلى الآخرين.

والسيد البطريرك الذي حاول التقرب من الجميع محاولا استيعابهم في صدر لبنان الرحب، لم يعد بقادر على السكوت وقد هدمت أصرحة الوطن ومؤسساته، وجاعت الناس بسبب معاداة هؤلاء للكبير والصغير، واستيلائهم بقوة السلاح على مقدرات البلاد، واستعمالهم نشر الفساد على نطاق واسع تسهيلا للسيطرة على البلاد والعباد. ومن هنا كانت صرخته أمس للمطالبة بتنفيذ القرارات الدولية بشكل كامل، وعلى رأسها قرار مجلس الأمن 1559 الذي يطلب تسليم اسلحة كل البؤر والتنظيمات الخارجة عن سلطة الدولة، إن في المخيمات والمعسكرات أو في الدويلة بكل أجهزتها ومداها، وذلك قبل اي محاولة اصلاح أو تغيير، لأن السبب الأساسي في عدم احترام القوانين وانتشار الفساد قائم في ظل ازدواجية السلطة وتعميم الفوضى المسلحة. وقد عانى اللبنانيون من كم الأفواه بسلسلة الاغتيالات التي وقعت بعد ثورة الأرز واستهدفت قادة الراي، ثم قادة التحقيق والضباط الأبطال الذين أبطلوا أفلامهم في نهر البارد وأعادوا ثقة المواطنين بالمؤسسة العسكرية التي وحدها تحمي الوطن.

السيد البطريرك قالها بالفم الملآن، أننا نواجه حالة انقلابية بكل معنى الكلمة، والاطباق على الدولة ومؤسساتها قد تم بمساعدة من ادعى حماية حقوق الطوائف، لمد اليد على ثروات البلاد واسقاط النظام المصرفي، درة تاج اقتصاد لبنان الحر، والذي بني على مدى مئة عام من الكفاح والمعرفة والتوازن بين الخدمات والارباح لكسب ثقة النظام المصرفي العالمي.

إن صاحب الغبطة البطريرك سئم من الانتظار لكي يصحى ضمير من باع شرفه، وقرر الاستنجاد بدول العالم الحر التي كان لبنان يشكل أحد أركانها، لكي تسهم في عودة الحياة إلى هذا البلد، الذي لا ينقصه شيء ليكون على راس الدول الناجحة عالميا. وهو واضح بمطالبه من أجل خلاص لبنان، فتنفيذ كامل القرارات الدولية هو حجر الأساس في اي بناء للدولة، لأنه أولا يمنع ازدواجية السلطة، ثم يحمي الحدود من التهريب أو التجاوزات، ومن ثم يحترم سيادة الدولة على كامل أراضيها ويمنع اي تجاوز لقرارات حكومتها، فلا يعود هناك من يهدد في اي وقت بفتح حرب من أراضيها والاعتداء على أحد ما يستجلب اعتداءات على لبنان. ولا يتبجح من يدّعي بأنه يحمي اللبنانيين من أخطار هو وأسياده اخترعوها لهدم دول المحيط واعادتها إلى الأزمان الغابرة، بل وحده جيشه القادر يحمي تراب الوطن وحياة المواطنين بدون منة أو ادعاء.

وإن التشديد على حياد لبنان عن صراعات المنطقة وفرض احترام هذا القرار على كل الدول هو بحد ذاته خشبة خلاص من الغوص في أعماق أزمات لا تمت للبنان بصلة.

وإن مطالبته بالمؤتمر الدولي وعرضه لإيجاد حل لمشكلة المخيمات الفلسطينية والنازحين السوريين ضرورة، لأن هذه المشاكل تتعدى الحدود ولا يمكن للبنان مواجهتها وإيجاد الحلول لها وحده، فهي مهمة دولية على الجميع تحمل تبعاتها.

ولكن في كلام السيد البطريرك ايضا هناك أمل بمستقبل لا يعود فيه لبنان منصة للتهجم على الآخرين، ولا ساحة للصراعات الشرق أوسطية كما أرادها له كل حيرانه منذ خمسين سنة، يوم قبل من في الحكم باتفاق القاهرة، الذي ابطل مفاعيل الهدنة وأدخلنا في متاهات الحروب طيلة هذه المدة. فلبنان لن يكون ساحة بعد اليوم ويحق للبنانيين أن يتمتعوا “بمروج السلام الدائم بدل ساحات القتال الدائم”.

فهل إن صاحب الغبطة والذي يتمتع برؤية واضحة قادر على دفع الأمور نحو التخلص من هذا العبئ الذي يثقل كاهل لبنان؟ وهل ينهض الشعب اللبناني يدا واحدة لدعم مثل هذه المبادرة فيتخلص من كل مشاكل الحروب والفوضى وكل نتائجها من الفساد والسرقة وهدم ما تعمر؟ وهل تكون دماء شهيد الكلمة الحرة لقمان محسن سليم آخر العنقود في مآسي الوطن؟ أم أننا على موعد مع تعنت جديد وتفسيرات لخطاب صاحب الغبطة، كما راينا بالأمس، تعيدنا إلى دائرة الحكام الفاسدين، الذين لم يعرفوا من السلطة سوى تقاسم المغانم وتوزيع الأرباح، على حساب أموال المواطنين وموازنة الدولة، التي يهدرون بدون وجل كونهم ينعمون بظل حماية السلاح؟