الأب الدكتور سميح رعد: بين لقمان سليم والأب جان عقيقي وبيننا..الأب جان رجل إيمانٍ، وما قام به هو ما يحمله في قلبه. لم يتنصّل من واجبه الإنسانيّ أوَّلًا ليكون بجانب أمٍّ ثكلى وأرملةٍ وأختٍ وأخٍ يفيضون حزنًا ورجاء/خدمة الكاهن تتخطّى المكان والزمان ليصبح كلّ إنسانٍ أبنًا له يمنحه ما تيسّر وما استحقّ وما وجب من خدمة

96

الأب الدكتور سميح رعد/بين لقمان سليم والأب جان عقيقي وبيننا..
الأب جان رجل إيمانٍ، وما قام به هو ما يحمله في قلبه. لم يتنصّل من واجبه الإنسانيّ أوَّلًا ليكون بجانب أمٍّ ثكلى وأرملةٍ وأختٍ وأخٍ يفيضون حزنًا ورجاء/خدمة الكاهن تتخطّى المكان والزمان، ليصبح كلّ إنسانٍ أبنًا له يمنحه ما تيسّر وما استحقّ وما وجب من خدمة.
الأب الدكتور سميح رعد/الكلمة اولاين/13 شباط/2021

آثرت على نفسي عدم الكلام في السياسة اللبنانيّة منذ نيفٍ وأربع سنين، لأنّنا في زمن الوحل والضباب والظلام، فكلّ خبطٍ اليوم هو عشواء.
ما يلزمني اليوم بالكتابة هو الأب جان عقيقي، والمشاركون والمنشدون الذين كانوا في وداع اللبنانيّ لقمان سليم، وما تبعه من تخبّط مواقف.
خطابي ليس في السياسة إنّما من باب كوني شريكًا في كهنوت الأب جان وشريكًا في رسالة الكنيسة المارونيّة الشقيقة ولاسيما جمعيّة المرسلين اللبنانيّين الموارنة.

بدايةً، ولنا في القصص من لُبابٍ (متى 13، 13)، سأبدأ بقصةٍ جرت مع الطيّب الذكر الأب حليم ريشا، خلال الحرب اللبنانيّة. يُحكى عن هذا الكاهن أنّه كان يخدم في ضواحي بيروت خلال بداية الحرب اللبنانيّة، تحديدًا عند سقوط مخيّم تلّ الزعتر، وكانت الأحزاب في تلك الفترة تريد أن تبرز ما عندها من فائض قوّةٍ أمام خصومها وتنفّس عن غضبها. فكانت، للأسف الشديد، تنكّل بجثث الضحايا الذين سقطوا في تلك المعركة. ومن صور ذلك التنكيل كان الشباب يسوقون جثث القتلى في الشوارع. كان الحزن يعصر قلب الأب حليم مشاهدًا تلك المشاهد غير الإنسانيّة في الطرقات والساحات. والأب حليم لعطر سيرته الكهنوتيّة الطيب، كان يُدْعَى يمينًا ويسارًا لإلقاء العظات في الرعايا الكاثوليكيّة بأطيافها في ساحل وجبل لبنان. وفي يومٍ مأساويٍّ من تلك الأيام كان مدعوًا لإلقاء عظة الصوم في رعية من رعايا المتن. صعد إلى تلك البلدة الأبيّة المؤمنة، بعد مشاهدته فظاعة ما يجري. بدأ القدّاس والكنيسة تعجّ إيمانًا ومؤمنين. فخطب كعادته بكلماتٍ نبويّةٍ: “اليوم، شاهدت المسيح من خلال الفلسطينيّ الذي تُجرّ جثته جرًّا… تحوّلت بيروت إلى جثمانيّة…” فهاجت الكنيسة حينها سياسةً. فهجم بعض من الحاضرين على الأب حليم يريدون الاقتصاص منه على قوله هذا. وهُرِّب من رهف الكنيسة تهريبًا، كي لا ينال منه من أراد النيل.

نعم كلّ صوتٍ نبويٍّ يذكّر بحقيقة إنسانيتنا سينال عقابًا في وقت غياب الحكمة والحكماء. وربّما ينال جزاء ذلك الشهادة. ما المشترك في هذا الخبر مع ما جرى مع الأب جان عقيقي الذي صلّى منشدًا “أنا الأم الحزينة”، الذي اعتبره البعض خروجًا منَّا إيمانًا ومسلكًا؟
الكاهن لا يمكن تعريته من إنسانيته ومن واجبه.

الواجب الإنسانيّ فينا قبل أي واجب…
من لا يدري، فليدرِ: الكاهن، لا تقف حدود رعيته ولا شهادة حياته عند حدودٍ جغرافيّةٍ وعند المؤمنين الذين أوكلته الكنيسة بهم راعيًا. خدمة الكاهن تتخطّى المكان والزمان، ليصبح كلّ إنسانٍ أبنًا له يمنحه ما تيسّر وما استحقّ وما وجب من خدمة. ككاهنٍ يأتي إلى الناس، مؤمنين أو غير مؤمنين، بما هو. أي يأتي إليهم أبًا مشاركًا بكهنوت المسيح في الكنيسة التي هي الأرض كلّها والبشريّة جمعاء. وكم تسمع أذن الكاهن كلمة “أبونا” من غير المعمّدين! وأبونا جان لم يأت إلّا بما هو وبما يحمل من قداسة سرّ المعموديّة الذي جُعلنا به ومعه أخوة في الإيمان وبما يحمل من أبوّة روحيّة في سرّ الكهنوت الذي جُعِلنا معه شركاء خدمة.

ونحن، ككهنةٍ، ليس لنا موقف في رأي لقمان سليم الفكريّ أو العقيديّ السياسيّ. نؤيّده أو لا نؤيّده، ليس لنا قول في ذلك. نحن للجميع إخوة، وفي خدمة الجميع. ومن خاصمهم يعرفون جيدّا موقفنا منهم، إنّنا لهم أخوة. ولكننا نرى في دفاع لقمان سليم عن الحرّيّة وعن حقّه في الدفاع والتعبير عنها موقفًا إنسانيًّا كبيرًا.

أمّا بعد، الأب جان رجل إيمانٍ، وما قام به هو ما يحمله في قلبه. لم يتنصّل من واجبه الإنسانيّ أوَّلًا ليكون بجانب أمٍّ ثكلى وأرملةٍ وأختٍ وأخٍ يفيضون حزنًا ورجاء. الموقف موقفٌ إنسانيٌّ، قبل كلّ شيءٍ. وما حمله لهم ولكلّ من شارك في الصلاة، ما كان إلّا عطر المسيح النبيّ والإنسان والإله الذي صلب وقبر وقام عن الإنسانيّة جمعاء.

تموت المسيحيّة بموت قيم الإنسانيّة المتمثّلة في الكلمة الطيبة المعزّيّة.
بشرٌ نحن، أناسٌ، قبل أن نكون كهنة… وإلى جانب البشر نقف. بين لقمان سليم وقتلته وخصومه وبيننا إنسانيّة، يجب ألّا تموت.

مع الأب جان أنشد، من نشيد السبت العظيم المخصّص لعريس الكنيسة المسيح هذا النشيد البديع:
“أعطني هذا الغريب، الذي منذ طفولته اغترب كغريب…
أعطني هذا الغريب، الذي أَدْهَش لمشاهدتي إياه ضيفًا للموت.
أعطني هذا الغريب، الذي يعرف أن يضيف الفقراء والغرباء.
أعطني هذا الغريب، لكي أواريه في لحدٍ.
أعطني هذا الغريب، الذي بما أنّه غريب، ليس له موضع يسند إليه رأسه.”
(كلمةٌ مهداةٌ إلى الأب جان عقيقي)