شارل الياس شرتوني/نهاية جمهورية الطائف وحتمية التدويل

166

نهاية جمهورية الطائف وحتمية التدويل
شارل الياس شرتوني/17 كانون الثاني/2021

لقد انتهت جمهورية الطائف بكل حيثياتها الجيوپوليتيكية، والاداءات التي نشأت عنها، والاوليغارشيات التي خرجتها، والمفارقات التي طبعت مسارها، ولا مجال بعد اليوم للتعايش مع تركتها واثارها المدمرة على كل المستويات: تقويض مرتكزات السيادة اللبنانية، ومفهوم وواقع دولة القانون، واحترام التعددية اللبنانية على اختلاف تعبيراتها، وامكانية صيانة السلم الاهلي، ومهنية العمل الحكومي والتدبيري، وتدمير مرتكزات الاقتصاد اللبناني والموازين المالية، وصيانة الامن الوطني، والحفاظ على استقلالية السياسة الخارجية لحساب سياسات المحاور واقفالاتها، وحماية الارث المدني والاجتماعي والمهني والثقافي …،. وبالتالي لم يعد بالامكان التعامل مع ترسباتها، والتأقلم مع سياسات المحاور التي كانت بأساس نشأتها، والاقفالات الاوليغارشية التي قوضت المبنى الديموقراطي، واستحثت الازمات البنيوية المديدة التي حكمت مسارها النزاعي دون انقطاع منذ بداية التسعينات حتى اليوم.

أ- ان التسيب الخطير الذي نعاني منه على مستوى ادارة الملف الوبائي بعد انقضاء عام على بداية الجائحة، وعدم قدرة الحكومة على قيادة عمليات التنسيق بين القطاعات الطبية والاستشفائية والمدنية على المستويين المحلي والدولي، تفسر هذا التصاعد الخطير للاصابات، وهشاشة السياسات الوقائية ( التأخر في تأمين اللقاحات وتنويع مصادرها، ووضع معاييرها القانونية والاتيكية الناظمة، وتأمين مستلزماتها اللوجستية، وانفاذ قانون منع التدخين في الاماكن العامة، وتأمين الفحوصات المجانية ودعم اسعار اللقاحات، والتعاون مع المؤسسات الدولية التي تطوعت للمساعدة من البنك الدولي الى البنك الاوروپي للانماء، وتنظيم اشكاليات التباعد الاجتماعي في الاماكن العامة ومساحات العمل والتموين … )، وعدم توافر الاسرة والبنيات العلاجية.

ب- لقد انقضى خمسة اشهر على التفجير الارهابي في مرفأ بيروت وما تأتى عنه من دمار شامل لم نألفه طوال الحرب (١٩٧٥-١٩٩٠)، ولم نشهد حتى الآن خلاصات التحقيق حول حيثيات هذا التفجير وآلياته وهوية فاعليه، ورفض مبدأ التحقيق الدولي او المشاركة في عمل الاستقصاء، ولم تكلف الحكومة الحاضرة نفسها عناء تقصي الاضرار، والمشاركة في اعمال الانقاذ ومساعدة المناطق المنكوبة، وعلى الاقل مساعدة الجمعيات الاهلية المحلية والدولية في عمليات التخطيط واعادة الاعمار، حتى لا نتوسع في مدلولات القطيعة الانسانية النافرة بينها وبين الضحايا والمناطق المعنية، وسياسة الاغتيال الممنهج لكل الاشخاص الذين بوسعهم اعطاء افادات حول مجريات هذا العمل الارهابي، والمدلولات السياسية التي تنحو باتجاه سياسة التدمير الشامل، والتمدد العقاري التي تعتمدها سياسات النفوذ الشيعية اساسا في مجال تبدل الديناميكيات المدينية، والاقتصادية-الاجتماعية التي تستهدف تدمير القواعد البنيوية للوجود المسيحي في الشق الشرقي للعاصمة وضواحيها الجنوبية (المسشفيات الكبرى والمدارس التاريخية ، والاحياء السكنية التراثية …،.).

ج- اضاعة ١٦ شهرا مفصليا في معالجة الازمات المالية المتكاثفة لجهة استعادة الاموال المهربة والمنهوبة؛ اعادة هيكلة النظام المصرفي على مستوى اعادة تقسيم العمل المصرفي وضبط معاييره الناظمة على اساس معايير بازل الثلاثة، وشفط التضخم السرطاني الذي اسست له السياسات الريعية وعمليات تبييض اموال الارهاب والجريمة المنظمة على تنوع أوجهها، واعادة رسملته وفتح مجالات الاستثمارات المصرفية الدولية، واصلاح مداخلة المصرف المركزي لجهة دوره وطبيعة مداخلاته، وانهاء تورطه الارادي على مستوى هندسة السياسات الريعية العائدة للطبقة السياسية، وضرب دور المصارف في مجال تمويل الاقتصاد الفعلي؛ معالجة واقع الفساد النافذ على كل مستويات الادارة العامة وتردداتها على القطاعات الخاصة؛ الخوض في اعمال التقصي المالي الجنائي كمقدمة لاعمال المقاضاة المحلية والدولية، من اجل استعادة الاموال العامة المنهوبة من قبل اعضاء الاوليغارشيات السياسية الحاكمة على تنوع تشكلاتها؛ اعتماد سياسة الدولرة اساسا لانهاء الحلقة التضخمية ووضعية عدم الاستقرار المالي، ووضع حد لتجفيف الرساميل التي يجب ان تضخ في عمليات تركيز النهضة الاقتصادية على قاعدة التواصل بين السياسات المالية والاقتصاد الفعلي، القائم على التداخل بين الاقتصاد المعرفي وتطبيقاته في مختلف حقول الانتاج الزراعية والصناعية والخدماتية، والقطاعات الاستشفائية والتربوية والتجهيزية؛ اعادة النظر بالنظام الضريبي لجهة وظائفه التحفيزية، والرادعة، والتوزيعية، والبيئية….،.

د-تثبيت واقع العزلة الدولية والعربية التي تعيشها البلاد نتيجة لسياسة العداء المتحركة التي تعتمدها الفاشيات الشيعية سبيلا من اجل تركيز دوائر النفوذ الايرانية اقليميا، وابقاء لبنان رهينة لها ومنطلقا لسياسة التوتر والمداخلة الاستنسابية اقليميا، ومرجعية ناظمة لسياسات الارهاب والجريمة المنظمة التي تديرها محليا واقليميا ودوليا، وما تستحثه من سياسات وسياقات متماثلة لجهة الحركات الارهابية الاسلاموية في الاوساط السنية، ومرجعياتها التركية والقطرية والخليجية الفاعلة في هذه المرحلة .الامر الذي أدى الى ابقاء الدولة اللبنانية في دائرة الارتهانات والوصايات المتداخلة والمتنازعة على ارضنا، والى تركز واقع الاستثناءات السيادية من قبل مراكز قوى الداخل (الفاشيات والمافيات الشيعية في الجنوب والبقاعات ومناطق نفوذ في العاصمة وضواحيها، الاقطاع الجنبلاطي في الشوف وعاليه، مناطق نفوذ الاصوليات السنية في البقاع الشرقي وعكار والضنية وطرابلس ،وصيدا وشرقيها، وسليمان فرنجية في زغرتا وضواحيها …. ) والمخيمات الفلسطينية التي تحولت منذ خمسة عقود الى مناطق نفوذ خارجة عن النطاق الدستوري والسيادي للدولة اللبنانية، اضيفت اليها وقائع النزوح السوري واندارجها ضمن استوائيات جيو-استراتيجية تحركها سياسات النفوذ العربية والاسلامية والجهادية، وتلك العائدة للنظام السوري وأداواته. ان الاسقاط الطوعي للمبادرة الفرنسية، والسعي الحثيث لنسف سياسات التعاون مع الديموقراطيات الغربية والمؤسسات الدولية، خاصة في هذه المرحلة التي تعاني منها البلاد من ازمات حياتية ومالية مميتة، يندرج ضمن سياق انقلابي يتماثل وسياسة العزل التي فرضتها ديكتاتورية الملالي على الشعب الايراني وما أدت اليه من هجرات كثيفة ومتوالية. ان سياسة وضع اليد والعزلة الاكراهية وما تستحثه من ديناميكيات مضادة، سوف تقودنا الى سياقات فوضوية تدخلنا في الدوامات النزاعية الاقليمية المفتوحة، او الى ادخال لبنان في دائرة الوصايات المتقاسمة او المتنازعة.

ان ابقاء التداول السياسي داخل الحيز المألوف وضمن محددات اللعبة الاوليغارشية وانتظاماتها الپوليارشية وطواقمها، قد أدى الى تحول البلاد الى مورد ريعي وحيازي وزبائني ومصدر لفساد معمم تجاوز حدود البلاد، والى رافعة لسياسات انقلابية معطوفة على كل النزاعات الاقليمية وسياسات المحاور المتنازعة، والى تحفيز صراعات النفوذ والمصالح الشخصية والفئوية والحزبية، وهو بأساس واقع الاقفالات المديدة، واستحالة اعطاء الدولة كيانها المعنوي والدستوري الفعلي لحساب سياسات مقاطعات النفوذ واهدافها المتشعبة والمتضاربة. هذا يعني بالتالي لا امكانية للتعايش مع سياسات النفوذ الشيعية وامتداداتها (ميشال عون وحسان دياب) على مستوى السلطة الاجرائية، ونبيه بري والپرلمان الصوري، وسياسات النفوذ الاقليمية الايرانية واصنائها ومضادتها التركية والقطرية والسعودية، ومع الاقفالات الاوليغارشية التي تحول دون حركية النخب التي تفترضها الديموقراطية، ومع سياسة المحاور والنفوذ الاقليمية المتضاربة، ومع الاملاءات الحياتية التي تمليها التوتاليتاريات الاسلامية والتهديدات الوجودية التي تفصح عنها، ومع مفارقات السيادة المعطلة والاستنسابية والمحدودة، وواقع الوهم القانوني الذي احيلت اليه الدولة في لبنان.

لذا لا بد من التدويل حتى يأخذ الحوار السياسي المتكافئ مكانه، فنتمكن من صياغة عقد اجتماعي جديد، ووضع هندسة دستورية جديدة تعطي للبنان حيثية وطنية ودولتية توافقية ومتجددة، والا فباب الخيارات المفتوحة سوف يأخذ مساره في مجال صياغة الديناميكيات السياسية في منطقة متفجرة وتفتقد الحد الادنى من الثقافة السياسية الليبرالية والديموقرطية.