الكولونيل شربل بركات/لبنان والاحتلال

611

لبنان والاحتلال
الكولونيل شربل بركات/16 كانون الثاني/2021

يوم تبرّع النائب جنبلاط والرئيس السنيورة بالدفاع عن حزب الله في الدول الصديقة بعد قرار مجلس الأمن الدولي 1559 والذي طالب بتجريد جميع الميليشيات والمخيمات والبؤر والمحميات من اسلحتها بالاضافة إلى خروج الجيش السوري من لبنان وسحب كافة الأجهزة التابعة له، كان السنيورة وجنبلاط يعتقدان بانهما يسلّفان، مجموعة لبنانية تمثل جزء كبيرا من الطائفة الشيعية، موقفا سيجعلها أكثر لبنانية ويعيدها إلى حضن الوطن كما باقي الميليشيات اللبنانية التي كانت سلمت أسلحتها بما فيها جماعة النائب جنبلاط والرئيس بري. وكان هذا التصرف نوعا من المناورة لكسب حليف مستقبلي في التوازنات السياسية الداخلية.

لم تنقضِ القصة بهذا الطرح الذي قد يعتبر ساذجا، بل اندفع قادة الرابع عشر من آذار هؤلاء، يومها، إلى التحالف مع حزب الله فيما اسموه “الحلف الرباعي” في الانتخابات النيابية، والتي جعلته لاعبا “شرعيا” على الساحة الداخلية وأظهرته أمام عيون المجتمع الدولي وكأنه بالفعل جزء من القوى الوطنية على الساحة، وليس ميليشيا تتبع لدولة خارجية وتعمل على فرض سيطرتها على لبنان. وقد تركوا العماد عون خارج هذا التحالف ليشكل المعارضة الطبيعية ويفرض بمعارضته القوية وخطه السياسي الوطني المعروف يومها، استكمال نزع السلاح من خلال المطالبة بتنفيذ القرار الدولي والتخلص من رواسب الميليشيات المسلحة سيما وقد كان له تاريخ في تلك المواقف.

ولكن على ما يبدو كانت تنمو حول العماد عون، الذي جرّب الاقتراب من سوريا بعد خروجها من لبنان (ويقول البعض بأن ذلك حدث في مفاوضات جرت معه في باريس قبل عودته)، كان حوله إذا طبقة جائعة لتقاسم السلطة والاستفادة من مداخيلها قبل الانتهاء من المواضيع الوطنية الكبرى. فصوروا له بأن الاتفاق مع حزب الله سيشكل له رافعة اقليمية تجعله يتحكم بالأمور. وقد يكون هذا نفس ما حدث معه عندما حاول أن يتحالف مع صدام حسين الخارج منتصرا من حربه ضد إيران، يوم أعلن حرب التحرير. ومن هنا فقد أكل الطعم سريعا وقام بردة فعل يعتبرها البعض اعتباطية وتخالف كل شعاراته. فوقّع تفاهما مع الميليشيا الإيرانية التي تسعى لهدم كل ما يحلم به اللبنانيون.

الخطورة في تلك الخطوة أن هذه المجموعة ليست من طينة اللبنانيين، ولا هي تحمل اي شعار يماشي تطلعاتهم، ولم تقم إلا بما يشوّه وجه لبنان طيلة ادعائها المقاومة. وكانت أوامرها وخططها وتدريبها وتسليحها وولائها وأهدافها كلها إيرانية (وقد صرح بذلك زعيمها السيد نصرالله عدة مرات). وهي لم تحارب اسرائيل ولا هي أخرجتها، كما كان يقول العماد عون نفسه، بل أخرت انسحابها مدة خمس عشرة سنة، كانت تسعى خلالها لتدريب عناصرها على القتال بمحاربة اللبنانيين، الذين انغرسوا بأرضهم وكبلّوا ايادي اسرائيل في استغلال العداء الذي قد يستجلب التعدي. وقد شوهت هذه الميليشيا صورة لبنان يوم قامت بالعمليات الانتحارية الغريبة عن مفاهيم اللبنانيين لهدم جسور التعاون مع الغرب ومن ثم قامت باختطاف كل الرعايا الأجانب الذين كانوا يحملون التجربة اللبنانية المنفتحة وينقلونها إلى بلدانهم. وقد فرض هؤلاء المرتزقة على اللبنانيين العودة إلى التحجّر والتقوّقع ضمن جدران الطائفية البغيضة الآتية من مجاهل التاريخ والتي لا تتاجر إلا بالعنف. ولم يعرفوا وأسيادهم عن لبنان وتعايش أبنائه شيئا. فكيف لقائد له بعد النظر، أن يماشي من يتوقون إلى الزعامة ويسارعون إلى التقلب، ويقبل بأن يتحالف مع عدو الوطن تحت مسمى “مكوّن لبناني” وهو من سبق أن صنّفهم في مقالاته ومواقفه الاعلامية بأنهم لا يعكسون من اللبنانية شيئا.
ولكننا وبكل سذاجة قبلنا بما فرضه علينا هؤلاء المتزعمين وماشيناهم خلال السنوات الأولى لتسلمهم مناصب في المرحلة الجديدة بعد انسحاب الجيش السوري. وقد كانت أساطيل الدول الكبرى تجوب بحرنا وجيوشها تحارب الارهاب على طول المنطقة وعرضها. وإذا بمن في سدة الحكم يطلبون أن تحل الأمور بالحوار فيجلسون على الطاولة للكلام أولا حول السلاح ومستقبله. وكانت المقاربة هي منع شن الحرب واستدراج لبنان إلى مشكل هو بالغنى عنه. رفض نصرالله منذ البدء المس بسلاح “المقاومة” ولكنه تعهّد بأنه لن يُقدم على فتح الحرب بدون قرار من شركائه في الوطن. ولكن وقبل أن يصمت صدى صوته كان عماد مغنية بأمر مباشر من سليماني يخطط لتنفيذ مهمة داخل حدود اسرائيل وبقصدهما استدراجها إلى حرب حقيقية وشاملة تفقد الحكم محاولة السيطرة على الميليشيا والمطالبة بنزع سلاحها.

إذا كان نصرالله يعلم بهذا التخطيط فهو كاذب أمام المتحاورين معه، وإذا كان لا يعلم كما قالها في مقابلته الصحافية مع إحدى المحطات التلفزيونية، وهذا ما نعتقده، فهو لا يقود الميليشيا، وهذه ليست لبنانية، ولا تلتزم بأوامره. وهو نفسه وكل من يدّعي حمل الجنسية اللبنانية في هذه الميليشيا ليسوا أكثر من مجرد صور ليس إلا. ومن هنا ضرورة سحب سلاحهم. فهذه المجموعة تأتمر بأوامر الحرس الثوري مباشرة، ولا يهمها لبنان أو الشيعة فيه. وقد عمل سليماني على زج هؤلاء في الحرب لكي ينهي اي أمل عندهم بالتخلص من السلاح. وجاءت هذه الحرب عقابا للطائفة الشيعية بكاملها، وعلى راسها نبيه بري وجماعته، وعصا مسلطة على ابنائها لكي يفهموا أن لا سبيل لمخالفة الأوامر الأمبراطورية. وهي طريقة فارسية مثلى استخدمت سابقا وفي مرات متعددة خلال التاريخ من قبل كل المتغطرسين الذين يريدون أخضاع رعاياهم بالقوة فيستدرجون الخصم أحيانا ليقوم هو بتأديب الرعية فتلتجئ صاغرة لسلطة سيدها المستبد.

في خطابه بمناسبة مرور سنة على مقتل سليماني بق نصرالله البحصة وأفهمنا بأن هذا الأخير هو من خطط وقاد الحرب سنة 2006 ساعة بساعة. وهو الذي لم يقبل باي وقف للنار قبل أن يتأكد بأن شيعة لبنان قد خسروا كل شيء وسوف يعودون إلى بيت الطاعة صاغرين. ولن يقدر نبيه بري وحركة أمل أو غيره من الفئات “المتحررة” أن يقفوا أمام “النصر الالهي” المدمر في البنية والبنين والذي سيكون أكثر تدميرا كلما حاول أحدهم الخروج عن الطاعة. وكان سليماني واسياده في طهران يعرفون بأن العرب لن يتركوا هؤلاء اللبنانيين المساكين يموتون تحت الانقاض، فالأموال ستغدق عليهم من كل حدب وصوب لاعادة الاعمار. وقد أرسل بعض المساعدات الشكلية وتكفلت “جهاد البناء” وغيرها من الشركات الإيرانية بالسيطرة على برامج اعادة الاعمار وتمويل كافة الأجهزة التابعة للحزب من الأموال العربية والدولية التي ارسلت للمساعدة على تخفيف بؤس اللبنانيين.

كان الحس التجاري لدى السنيورة وجنبلاط وبري وأخيرا عون، هو ما قاد ردة الفعل عند من ادعوا الحكم فتلهوا بكيفية توزيع المساعدات بدل القيام بالخطوات الأساسية التي تمنع تكرار ما حدث. وهذا ما سعى إليه العقل الإيراني المدبر لهذه الحرب. فقبل السنيورة القرار الدولي 1701 ولكنه لم يقبل أن يوضع تحت البند السابع الذي كان سيساعد لبنان على الانتهاء من مقولة المقاومة وسحب كافة الأسلحة التي لا تأتمر بأوامر الشرعية اللبنانية، والتي اصبح حزب الله هذا جزءً منها يوم خاض الانتخابات النيابية. وكانت هذه فرصة لبنان الوحيدة للتخلص من كل البؤر المسلحة التي أبقاها السوريون والايرانيون لتكون الشرارة التي تفجر اي تفاهم على الخروج من سيطرتهم الكاملة.

لو قبل السنيورة “المتذاكي” وصديقه “المتقلب في مواقفه” (وهي علامة جبن لا تشبه الدروز ولا تشرفهم في هذه المرحلة المصيرية من تاريخ لبنان) وبالطبع الجنرال الذي استمتع صهره العزيز بالمغانم، لكان لبنان وفر عليه كل المآسي التي تحمّلها منذ 2006 وحتى اليوم. فقد كان ضبط الحدود مهمة أساسية ستقوم بها الأمم المتحدة، ووضع القوى الأمنية بما فيها الجيش تحت قيادة الأمم المتحدة قوة فعلية للبنان المسنود من قبل العالم بأجمعه لاعادة تحريره الكامل. ولكانت البؤر المسلحة كلها سلمت اسلحتها بدون عناء شيئا فشيئا وانتهى مسلسل الخداع واستعمال اللبنانيين كوقود في حروب الآخرين. ولكن توزيع المساعدات كانت ستشرف عليها الأمم المتحدة ولن يقدر جبران ولا بري ولا جنبلاط أو شركاء السنيورة أن يستولوا على بعضها ويجيّروا بعضها الآخر لمن يشاؤوا. ولكان الإيرانيون امتنعوا عن المساعدة أو بانت قيمة مساعداتهم الوضيعة التي ستمر تحت المجهر الدولي فلا تكون مساعدة لاجهزة الحزب ومؤسساته على حساب الشعب المتضرر من عملياتهم.

كان هذا العرض، ولو مكرراً، اساسي للتذكير باسباب ما نحن فيه من فساد وافساد ومن محاربة لمؤسسات الدولة لتهديمها وربط المواطنين بنظام جديد هو فتات نظام الامبراطورية التي ستقود هذه المنطقة نحو مجابهات جديدة وتعيد تراجعها الذي بدأ اخلاقيا ولكنه سينتهي انمائيا وتنظيميا وحقوقيا. فلن يبقى في الشرق الأوسط دولا مستقلة حرة.

وستكون لعنة الرفض المتواصل لحلول ما بعد الحرب العالمية الأولى، في ظهور الدول المتجانسة ومنع استغلال الشعوب قبل أن تتعلم على ادارة ذاتها بقواها الخاصة تحت اشراف دولي، هي النتيجة الطبيعية لعودة الامبراطوريات المتصارعة على تعميم الجهل والتقوقع والخوف من الآخر وسيادة القوة والفوقية. فشعارات الثورة الفرنسية من الأخوة والحرية والمساواة، أو شيوعية الاتحاد السوفياتي المعممة بين الشعوب بدون تمييز, وشرعة حقوق الانسان التي تبنتها الأمم المتحدة والتي تعطي حق تقرير المصير وحرية الشعوب في معتقداتها وملكيتها وطريقة عيشها وحمايتها من اي تهجم أو تهديد، ها هي تسقط تحت أحذية الجيوش الامبراطورية التي يدفعها تعصب أعمى لنظرية أو انتماء يستسهل القضاء على اي خصم يمكن أن يقف بالمواجهة.

الشرق الأوسط، خاصة قبيل سقوط الديمقراطية في الولايات المتحدة والتلهي برواسب الداخل فيها، بينما تستعد أوروبا لتتيه بين هجمات الاسلاميين على أنظمتها واستغلال قوانينها المتسامحة لمحاولة زعزعتها من الداخل ايضا، يقف الشرق الأوسط إذا أمام تعاظم امبراطورية الفرس وأحلامهم، وقد سيطروا على العراق وسوريا ولبنان ويحاولون بعد تهجير الكثيرين أن يستبدلوا الشعوب بقبائل تستقدم كما ايام المماليك من داخل افغانستان وباكستان وغيرها. وقد زرعوا في العديد من المواقع الاستراتيجية شعوبا وقوى تأتمر بهم إن في اليمن للسيطرة على باب المندب، أو في طنجة للسيطرة على مضيق جبل طارق، أو في التمدد صوب فنزويلا لتكون لهم لاحقا القدرة على اللعب في مياه الأطلسي والسيطرة على خطوط المواصلات انطلاقا منها ومن الكثير من البؤر التي يعمل على استيعابها، في مثلث الحدود بين البرازيل والأرجنتين والأوروغواي أو في أفريقيا السوداء حيث تسرح جماعات “باكو حرام” لتنشر الذعر بين الأفارقة المسالمين. بينما يتطاول أردوغان المتأسلم، كما السلاطين الأتراك قديما، والذي ينوي استعادة أحلام الخلافة ويمد أيديه صوب الشرق والغرب من ليبيا إلى سوريا والبحر المتوسط بثرواته وإلى أزربيجان وما بعدها من جمهوريات بقايا المغول التائهة بين الشيوعية البائدة والاسلام المستقوي. فهل إن تحالف عرب الخليج مع مصر بقيادة اسرائيلية سيقيهم شرور هاتين الأمبراطوريتين الطامعتين بالثروات والمواقع؟ أم أن الخطر الصيني واستفاقة الهند سوف يؤمنان تهدئة ما في مستقبل المصالح الآتية؟

لبنان كما كان وبالنظام المثالي لشعوبه وفئاته كان يمكن أن يبقى الحلم لكل المستضعفين وأكثرهم الشيعة اللبنانيين والدروز وغيرهم من الأقليات، التي لم يكن لها يوما تطلعات خارج حدوده، ولا حلم لها بتجاوز القوانين لكي تستمر، كما أجدادهم الفنيقيين بتقديم الخدمات لكل الشعوب من حولهم، مقابل تركهم يعيشون بأمان داخل حدود هذه المنطقة الجبلية. فما بالنا اليوم يستعمل البعض ليس فقط لاقتياد لبنان إلى محور معين بل ايضا لطرد السكان من أرضهم، التي حافظوا عليها مدى سنوات ودهور، لأن أهداف الامبراطورية الاستراتيجية تشمل السيطرة على مواقع في جبال لبنان تؤمن لها تفوقا من ناحية الاتصالات لتغطي النصف الشرقي للبحر المتوسط وكامل الأراضي من جبال طوروس وحدود بحر قزوين إلى الخليج العربي والبحر الأحمر.

اللبنانيون يعيشون فصلا جديدا مهما ومصيريا في تاريخهم قد يؤدي ليس فقط إلى زوال لبنان الوطن المستقل عن الخريطة إنما إلى الترحم على ايام التركيبة السياسية الطائفية التي كانت ولو صوريا تؤمن نوعا من التوازن وتعطي الأمل بحماية الحقوق الأساسية لكافة مركباته فهل نحن نهدم بايدينا ما بناه الجدود؟ وهل نعي قبل فوات الأوان؟ وهل يمكن فيما تبقى لنا من حرية الخيار أن نتمسك بالأساسي ونرفض أن نتخلى عن الوطن الحلم لنضيع في متاهات المستقبل المبهم؟…