جومانا نصر/المسيرة: رواية عن رهبنة وقداسة وبطولة … الأب يوسف مونس: حامل الرسالة

234

رواية عن رهبنة وقداسة وبطولة …الأب يوسف مونس: حامل الرسالة

جومانا نصر/المسيرة. العدد 1712/13 كانون الثاني/2021

حاملاً مسبحته، مثقلاً بأعوام مجبولة بالمقاومة الرهبانية، تراه يمشي نحو الكنيسة ويجلس وحيداً تحت أنظار ذاك «الدايم الدايم» الذي سكنه وصار محرّك عقارب مسيرته، راهبًا ليس حتماً كسائر الرهبان. ثائر كما معلمه، إعلامي كما بولس الرسول. هو الأب يوسف مونس الذي أراد أن يكون حامل الرسالة والبشارة في آن…من مهد طفولته في الشبانية إلى رهبان الكسليك إلى جلجلة «شربل» واختباره الرائع المدمر بين أسئلة وجودية كبيرة وبحثه عن «الثابت» من حبه ودعمه لشباب المقاومة اللبنانية، إلى كاتم لأسرار رئيس في قصر بعبدا الموحش. إلى بشير الحلم الذي آمن وحلم بخلاص وطن في عهده وصُلِبَ بفقدانه. هو كلٌ في واحد.هو ذاك الراهب الذي لا يسعك إلا الإنحناء أمام وسع ثقافته. هو المفكر والكاتب والممثل والأستاذ الجامعي والمسرحي والرياضي والنجم التلفزيوني، وأيضاً السياسي والمستشار وصانع للرؤساء. هو كلُّ ذلك في جسد واحد مثقل بأعوامه ال63 الرهبانية يصول ويجول في دير مار أنطونيوس الكبير في الأشرفية ـ السوديكو حيث يمضي أيامه، وصوت صارخ لا يستكين. لكنه من ذاك المذبح يبدأ وإليه يعود ساجداً مبتهلا. فمنه وله وبه وإليه كل شيء، ولسيده «الدايم دايم» تراه يعلن بإيمان من ذهب»كلي لك».

حاملاً مسبحته، مثقلاً بأعوام مجبولة بالمقاومة الرهبانية، تراه يمشي نحو الكنيسة ويجلس وحيداً تحت أنظار ذاك «الدايم الدايم» الذي سكنه وصار محرّك عقارب مسيرته، راهبًا ليس حتماً كسائر الرهبان. ثائر كما معلمه، إعلامي كما بولس الرسول. هو الأب يوسف مونس الذي أراد أن يكون حامل الرسالة والبشارة في آن…

من مهد طفولته في الشبانية إلى رهبان الكسليك إلى جلجلة «شربل» واختباره الرائع المدمر بين أسئلة وجودية كبيرة وبحثه عن «الثابت» من حبه ودعمه لشباب المقاومة اللبنانية، إلى كاتم لأسرار رئيس في قصر بعبدا الموحش. إلى بشير الحلم الذي آمن وحلم بخلاص وطن في عهده وصُلِبَ بفقدانه. هو كلٌ في واحد.

هو ذاك الراهب الذي لا يسعك إلا الإنحناء أمام وسع ثقافته. هو المفكر والكاتب والممثل والأستاذ الجامعي والمسرحي والرياضي والنجم التلفزيوني، وأيضاً السياسي والمستشار وصانع للرؤساء.

هو كلُّ ذلك في جسد واحد مثقل بأعوامه ال63 الرهبانية يصول ويجول في دير مار أنطونيوس الكبير في الأشرفية ـ السوديكو حيث يمضي أيامه، وصوت صارخ لا يستكين. لكنه من ذاك المذبح يبدأ وإليه يعود ساجداً مبتهلا. فمنه وله وبه وإليه كل شيء، ولسيده «الدايم دايم» تراه يعلن بإيمان من ذهب»كلي لك».

كان ذلك في 15 أيار 1938 في الشبانية، ضيعة الفلاحين كما الرؤساء والفلاسفة الهادئة. يومها فتح ذاك الراهب الماروني عينيه على الحياة بين أحضان الطبيعة. وفي منزل يطل على الكنيسة ترعرع متلقيًا دروسه الإبتدائية في مدرسة القرية، لينتقل بعدها إلى الكسليك، إلى أحضان الرهبنة المارونية اللبنانية.هناك بدأت الحكاية. حكاية راهب ثائر.حكاية الأب يوسف مونس.

الرابعة من بعد ظهر كل يوم يجلس الأب يوسف مونس على كنبة قبالة النافذة في رواق الطبقة الأرضية في دير مار أنطونيوس الكبير في الأشرفية ويتأمل في الأشجار،فتتراءى أمامه غابات صنوبر المتن الأعلى أو غابات الأرز في جبال الأرز في لبنان. هنا في قلب الأشرفية إزداد وجع الصمت بعد إنفجار مرفأ بيروت في 4 آب وباتت الوحدة والسكينة تسكنان أروقة الدير. «كأنني في هدوء الوادي المقدس أو وادي قاديشا المليء بالصمت والسكون والبخور». يقول الأب مونس الذي يمضي وقته في الدير في الصلاة والقراءة والتأمل.لكن ثمة موعد يومي، موعد ما عاد يفوّته الأب مونس»هناك عصفور صغير يأتي يوميًا ويتنقل على الأغصان ويزغرد ويكلمني. سر الجمال في زغردته وألوانه. وعندما يقترب موعد غياب الشمس وتكبر الظلال على الأبنية المقابلة ويقرع جرس الدير لصلاة المساء والقداس، يطير ذاهبًا مودعًا على أن يعود في الموعد ذاته في اليوم التالي. أما المشهد الذي يطبع في ذاكرتي وصرت أنتظره بعد إنفجار 4 آب بسبب إنحسار عدد الأهالي،فهو مشهد النساء الحاملات سبحاتهن في شوارع الأشرفية وهنّ يسرن نحو الكنيسة للمشاركة في صلاة المساء أو في القداس واحتفالات الأعياد».

لو أُعطيَ للأب يوسف مونس أن يعود إلى الحياة مرة ثانية، لكان أحب الإختبارات والحياة التي عاشها في الشبانية مهد ولادته عام 1938 وطفولته، وفي الرهبانية اللبنانية المارونية والجامعة والعالم، ووهبها الله له بكثير من الفرح والصلاة والرجاء والأمل والسكون والصمت والتأمل. فخيار الدخول إلى حياة الرهبنة كان بقرار ذاتي وشغف بحياة الآباء القديسين. «أعرف أن كل شيء يعبر ويزول،وأعرف أننا لا نستحم في المياه نفسها لأن كل شيء يسيل ويجري ولا يعود… وأعرف أنني كائن وجود في الزوال والفناء وأنني سريع العطب والكسر. وأعرف أنه لا فرح لي في حياتي إلا بلقائي بيسوع نبع الحب والفرح والإلتصاق به لأنه الحياة والنور والحق والطريق والفداء والخلاص».

أحب ثوبه الرهباني والزي الرهباني البسيط والطوق الأبيض «المنشّى» والأكمام المنشاة والبكل الذهبية. «هذا لبس شربل ونعمة الله وإسطفان ورفقا». لكن الدرب نحو الدير سبقها محطات عنها يروي الأب مونس: «منذ طفولتي كانت الأسئلة تتصارع في رأسي… كنت في عمر ال16 وكنت أرى أن كل شيء ينتهي. كل شيء يذهب، الجميع يموتون، كنت أبحث عن الذي لا يموت، ما هو الثابت إلى الأبد، ما ومن الذي يبقى». فجأة وصله الجواب: «هو واحد فقط. هو يسوع المسيح الثابت الوحيد الذي لا يتغيّر ولا يموت، هو «الدايم دايم» الأبدي الذي كنت أبحث عنه وهو الذي جذبني لألاقيه».

سحر ليلة الميلاد
ثمة علاقة إنجذاب وصلت إلى حد الشغف بين الأب يوسف مونس ويسوع بدأت تتظهّر معالمها في ليلة الميلاد. ويروي:»يوم كنّا صغاراً والثلج يغمر البلدة في ليلة عيد الميلاد، كنّا نشق بأجسادنا الصغيرة الطريق ليسوع الآتي ليولد في مغارة كنيسة السيدة. كنا ننام على الثلج لنحفر آثاراً على الدرب التي توصل يسوع إلى الكنيسة، حيث كانت أمهاتنا وأخواتنا ملتحفات بشالاتهن السوداء العريضة الطويلةإتقاء من البرد». ويضيف: «لا تزال صورةجدي المونسنيور يوسف مونس بلحيته البيضاء وعصاه السوداء مطبوعة في قلبي ووجداني. كان شامخًا كالأرز، ويبسط وقاره واحترامه بقامته المديدة على عائلتنا المؤلفة من تسعة أولاد. كانت تجذبني قراءاته في كتاب التوراة والكتاب المقدس. فكنت أجلس على الأرض صامتاً متخشعاً قربه. وكان يلاحظ ذلك، فيبدأ برفع صوته وأنا أصغي وأستمع مسحوراً لقصص الكتاب المقدس: قصّة الخلق، وعظمة الله الذي خلق كل شيء منه بكلمة وهي «كن» فكان كل شيء، واكتشفت من خلال هذه القراءات أن يسوع أراد من خلال ذلك أن يدلنا بالرموز والإشارات والأحداث والناس والأحلام إلى الفرح الحقيقي وطريق الخلاص. فهل أصغينا له؟ الله ليس صامتا في حياتنا، بل هو حي فينا بقوة روحه المحيي والقدوس. وكم تمنيت لو أكون ملاكاً ينادي بالسلام والفرح والحب والخلاص وحوار السماء والأرض والناس، أو أن أكون نجمًا أسير أمام الناس لأهديهم إلى يسوع أو راعياً فقيراً أحمل أجمل الحملان لأقدمه قرباناً ليسوع ومار يوسف والسيدة العذراء».

ما الذي دفع إبن الشبانية الى الرهبنة؟
كل هذا كان يحصل ويطبع في قلب ووجدان إبن الشبانية يوسف مونس من دون أن يدرك أن قصة حب عميقة ستنشأ بينه وبين «الدايم دايم». كان زمن الميلاد طبع في قلب ابن الشبانية الذي بدأت ترتسم ملامح حياته من ساحاتها ودرج الكنيسة وقراءات جدِّه المونسنيور مونس. «أذكر قصة يوسف إبن يعقوب الذي باعه إخوته حسداً وكيف كذبوا على يعقوب أبيهم عندما غمّسوا قميصه بالدم وادّعوا أن ذئباً افترسه وكيف غفر يوسف لإخوته عندما أتوا إليه وهم جياع من مصر… وكم آلمني عدم فهم تلاميذ يسوع لرسالته وكلامه يوم ناموا وتركوه يتعذّب وحيداً في جبل الزيتون، وكيف خانه بطرس وعاد يسوع وأسس الكنيسة على ضعف بطرس وخطيئته و»خيانته»، وكيف التقى يسوع بطرس وهو هارب من روما فسأله بطرس: «إلى أين يا سيدي؟». فقال له يسوع: «إلى المكان الذي تهرب منه». فتأثّر بطرس وقفل راجعاً إلى روما.

كان الفكر الأنتروبولوجي الوجودي الذي سكن الأب مونس يتعاظم مع تفتح الوعي لديه، فتوجه إلى الفلسفة واللاهوت، لكن ظهر إختصاص جديد «هو الأنتروبولوجيا الذي اخترق كل حياتي». ويروي الأب مونس: «بعد دخولي ديرغوسطا درست الفلسفة واللاهوت في جامعة الكسليك وذلك قبل أن أتوجه إلى فرنسا وتحديداً إلى ستراسبورغ لنيل شهادة الدكتوراه في الأنتروبولوجيا».

بعد عودته إلى لبنان حاملاً معه إختصاصه الجديد بدأ في ترويجه وتدريسه في جامعة الروح القدس الكسليك ومن ثم في الجامعة اللبنانية ليصبح لاحقاً من المواد الرئيسية وقد تبنّته الكنيسة والتزمت به الكليات كافة وأصبح لزاماً على طلاب اللاهوت تحصيل هذه المادة التي يشدد مونس على أهميتها ويصفها بـ»العلم الذي يحمل ثقافة متنوعة تجمع بين الفكر الفلسفي والأدبي وبين الفكر الفني والفولكلوري والحكايات والقصص».

جلجلة «شربل»
عاد الراهب الماروني من أوروبا ليكتشف أن المسرح هو إحدى ثروات العالم الثقافية ولم يكن التمثيل غريبًا عنه آنذاك. ففي جعبة ذاك الراهب الناشئ تجربة سينمائية لا تُنتسى، تجربة مكللة بالروحانية بعنوان»شربل». ويروي: «كان ذلك في العام 1957 وكنت لا أزال فتياً أتلقى دروسي الثانوية في معهد الروح القدس الكسليك عندما اختارني المخرج نقولا أبو سمح للعب دور القديس شربل في فيلم سينمائي من كتابة الأب بولس ضاهر. لا أنكر أنني تفاجأت.لماذا أنا دون سواي لتأدية دور القديس شربل؟ وتمنيت عليهم أن يلعب الدورراهب أكبر مني سناً لا سيما في المشاهد التي تصور حياة القديس شربل الأخيرة.

خرج الأب مونس مدمرًا جسديًا من تجربة «شربل».عن تلك التجربة «الصعبة جداً» يروي:»كنت في أول حياتي الرهبانية، كان علي أن أضع يوميًا ذقناً جديدة وهي كناية عن»مسكة» ويزرعون الشعر فوقها وأعود لأنتزعها عند إنتهاء التصوير مع ما يسببه ذلك من ألم شديد. كان هناك إلتزام تام بتصوير كل المشاهد حيث عاش القديس شربل وكانت في غاية الصعوبة، خصوصًا تلك التي صوّرت على الثلج حيث كان الرهبان يخرجون جثة شربل من الدير فسقطت على الثلج وأصبت إصابة بليغة في الرئتين لا زلت أعاني منها حتى اليوم. كذلك المشهد الذي كنا نصوّر فيه لحظات إحتضار شربل في الصومعة حيث كنت أنام على قطعة من الجلد على الأرض وخرجت منه بأوجاع بليغة في الظهر واليدين. وفي أحد المشاهد بقينا حتى الظهر نضرب بالفأس ونقطع السنديان وأخذ الدم ينفر من يدي، فكانت النتيجة أن قرر المخرج أبو سمح إعادة تصوير المشاهد»… وعلى رغم كل الصعوبات التي عاشها مونس خلال التصوير يقول: «التجربة كانت أشبه بـ»المغامرة» الكبيرة التي كان لها تأثير كبير على حياتي. لقد عشت إختبارًا رائعًا وتعرفت إلى صورة  الختيار وطبيب السما شربل».

شربل دفشني أكتر نحو عالم الرهبنة
الشهرة التي عرفها الراهب الشاب بعد «شربل» لم تبعده عن عالم الروحانيات. واستمر مخلصاً لحبه الأول والأخير لـ»المخلص الفادي الحبيب» أميناً لدعوته، ثابتاًفي انتمائه لـ»الدايم دايم». ويقول الأب مونس: «أنا راهب وألتزم روح الرهبانية شكلاً وروحاً، وكما كل رهبان الرهبنة اللبنانية المارونية، إلتزمت أصالة دعوتنا ورفضنا كل حداثة شكلية أو روحية تتعارض مع روحية الرهبنة ونذورها. نحن كما مار شربل نلتزم ثياب الرهبنة والنذور».

 لكن ماذا بعد جلجلة شربل وشهرته؟
«طويت الصفحة، يقول مونس، وانصرفت إلى التعليم في جامعة الروح القدس الكسليك، والجامعة اللبنانية. 46 عاماً وأنا أدرّس مادة الأنتروبولوجيا والفلسفة وجمالياتها متأثراً بأفلاطون وكثير من الفلاسفة المسيحيين، وتحديداً  بول ريكور وكمال الحاج إبن الشبانية، وإيمانويل مونييه وغيرهم… كانت تعصف بي ميول فكرية وفلسفسة أعطيتها كل إهتماماتي. حتى كتاباتي كانت تتفجر من نبع الفلسفة الوجودية، خصوصاً أنه كانت تعصف بالعالم في تلك المرحلة الحركة الماركسية والإلحاد وكانت الحركة الجدلية بين المادية والتروتسكية والماركسية».

في غمرة هذا الجدل الوجودي، إختار الأب مونس الشخصانية المسيحية متأثراً ب إيمانويل مونييه وكبار الفلاسفة المسيحيين الوجوديين. وترافق ذلك مع أنشطة ومؤلفات وكتابة أعمال مسرحية وفنية ومحاضرات ونقاشات رافقت مسيرة الأب مونس ولا تزال حتى اليوم. كما تأثر الأب بالمدرسة الرواقية للفلسفة وبقصة الفيلسوف «إيبيكتيت» الذي بيع عبداً ولم يفارق النبل قسمات وجهه والعنفوان حدقة عينيه. وكان من أشد المدافعين عن اللغة الفرنسية وقيمها الثقافية والروحية والمسيحية، فكرّمته الدولة الفرنسية بمنحه وسام فارس من رتبة ضابط،ولاحقا تم منحه وسام السعفة الأكاديمية الفرنسية، لكن ظروف الحرب في لبنان حالت دون وصوله إلى السفارة الفرنسية يومها وتلقيه الوسام.

حاملاً مسبحته، مثقلاً بأعوام مجبولة بالمقاومة الرهبانية، تراه يمشي نحو الكنيسة ويجلس وحيداً تحت أنظار ذاك «الدايم الدايم» الذي سكنه وصار محرّك عقارب مسيرته، راهبًا ليس حتماً كسائر الرهبان. ثائر كما معلمه، إعلامي كما بولس الرسول. هو الأب يوسف مونس الذي أراد أن يكون حامل الرسالة والبشارة في آن…

من مهد طفولته في الشبانية إلى رهبان الكسليك إلى جلجلة «شربل» واختباره الرائع المدمر بين أسئلة وجودية كبيرة وبحثه عن «الثابت» من حبه ودعمه لشباب المقاومة اللبنانية، إلى كاتم لأسرار رئيس في قصر بعبدا الموحش. إلى بشير الحلم الذي آمن وحلم بخلاص وطن في عهده وصُلِبَ بفقدانه. هو كلٌ في واحد.

هو ذاك الراهب الذي لا يسعك إلا الإنحناء أمام وسع ثقافته. هو المفكر والكاتب والممثل والأستاذ الجامعي والمسرحي والرياضي والنجم التلفزيوني، وأيضاً السياسي والمستشار وصانع للرؤساء.

هو كلُّ ذلك في جسد واحد مثقل بأعوامه ال63 الرهبانية يصول ويجول في دير مار أنطونيوس الكبير في الأشرفية ـ السوديكو حيث يمضي أيامه، وصوت صارخ لا يستكين. لكنه من ذاك المذبح يبدأ وإليه يعود ساجداً مبتهلا. فمنه وله وبه وإليه كل شيء، ولسيده «الدايم دايم» تراه يعلن بإيمان من ذهب»كلي لك».

كان ذلك في 15 أيار 1938 في الشبانية، ضيعة الفلاحين كما الرؤساء والفلاسفة الهادئة. يومها فتح ذاك الراهب الماروني عينيه على الحياة بين أحضان الطبيعة. وفي منزل يطل على الكنيسة ترعرع متلقيًا دروسه الإبتدائية في مدرسة القرية، لينتقل بعدها إلى الكسليك، إلى أحضان الرهبنة المارونية اللبنانية.هناك بدأت الحكاية. حكاية راهب ثائر.حكاية الأب يوسف مونس.

الراهب المقاوم
عندما اندلعت الحرب اللبنانية تجلّى خيار الرهبانية اللبنانية المارونية في مشاركة شعبها تحدياته وآلامه والمخاطر التي يعيشها. ويقول:»لم نتدخل في مجريات الأحداث الوطنية والسياسية إلا من زاوية مشاركة شعبنا وجعه وتحديات الحياة الصعبة والمثقلة بالهموم. لم نسع إلى سلطة أو نفوذ أو إلى فرض وجهة نظر. كنا كرجال الإطفاء نهرع لإطفاء النار وإنقاذ الأبرياء، وليس إلى تحميل المسؤولية وإدانة المتسببين بها. لقد كان الخيار جماعياً وكل منا يقوم بالمهام المنوطة به أو بما يمكنه من تحمّل مسؤوليات إن على الصعيد الفكري أو الإجتماعي أو اللوجستي أو الإغاثة. وكانت أعمالنا مقرونة بالصلوات حتى تنتهي الحرب وتعود الدولة سريعًا إلى لعب دورها كأب حاضن لجميع اللبنانيين».

مشوار الأب يوسف مونس في عالم السياسة بدأ مع إندلاع شرارتها في 13 نيسان 1975. ويروي: «كنت في معية الأباتي بطرس قزي والأباتي بولس نعمان عندما تبلّغنا قبل ظهر يوم الأحد 13 نيسان 1975 خبر إطلاق النار على بوسطة عين الرمانة…. إنها لحظة اللعنة تسقط على الوطن. ساعة الغضب الإلهي على خطيئة الوطن الصغير. ساعة الخطيئة والشر والمعصية… وارتفعت متاريس الموت والنار وتحولت بيروت الحضارة والثقافة، بيروت مدينة الإبداع والحب والريادة والجمال، إلى شرقية وغربية….

كثيرة هي الحكايات والصور التي يختزنها الراهب مونس المقاوم عن مرحلة الحرب. حكايات نسجها في كتاب بعنوان «أناشيد الحياة»، ويروي في أحد أبيات هذا النشيد المفعم بالتاريخ والمحطات المهمة والواقعية أنه «بتاريخ 13 نيسان 1976، أي بعد مرور عام بالتمام على إندلاع شرارة الحرب اللبنانية وإثر اجتماع صباحي للسيد دين براون مع رؤساء الرهبانيات اللبنانية، كُلِّفت بأن أنقل المبعوث الأميركي إلى بلدة الكفور الكسروانية للقاء الرئيس سليمان فرنجية بسبب تعطّل سيارته. فسألته «هل حقاً تريدون ترحيل المسيحيين وهناك بواخر مجهزة لساعة الصفر لترحيلهم؟» إندهش براون من السؤال وقال: «هذه شائعة. أنتم متروكون لوحدكم في هذه الحرب التي تقاومون فيها بشجاعة للبقاء في أرضكم. علينا إنقاذكم من الموت وليس ترحيلكم، لكن لا ندري كيف نساعدكم». هذا الكلام سمعه الأباتي بولس نعمان عند لقائه دين براون وكتب عنه في مذكراته، وردده المبعوث الأميركي فيليب حبيب أمام الرئيس الياس سركيس حيث كنت حاضراً فقال فيليب حبيب: «أنتم شعب لا يموت».

حصار زحلة
يروي الأب مونس فصولاً من حكايات المقاومة والبطولات خلال مرحلة حصار زحلة:»أخذ الحصار يشتد على مدينة زحلة والقذائف تتساقط كالشتاء، وكان أهالي المدينة وشبابها يقاتلون بصمود وشجاعة عن مدينة الأسود. طالت الحرب وقلّت المؤن والذخائر واستشهد عدد من الشباب الذين كانوا قادمين لمساندة الشباب والمقاتلين على الطريق ومنهم من طمرتهم الثلوج…. إنه زمن البطولات في أرقى معانيها»، يقول ويتابع «يومها قررنا أن نتحرك تضامناً مع زحلة وأهاليها واعتراضاً على الصمت الدولي الذي ترك أكبر مدينة مسيحية في الشرق بين فكي الغزاة. نصبتُ خيمة صلاة متواصلة على طريق القصر الجمهوري وكنا نرفع الصلوات مع الأهالي والرهبان والراهبات لينقذ الله هذه المدينة الشهمة ويحفظ أهلها ويحمي الشباب وينصرهم على أعدائهم، وكنا نتضرع لسيدة زحلة الرابضة على إحدى تلال زحلة… وفعلت الصلاة فعلها وأنقذت المدينة وانهزم الغزاة وانتصرت الشجاعة والبطولة والشهادة. وكنت أنقل للرئيس الياس سركيس أجواء الصلاة في الإعتصام وكان يقول لي: «فليكملوا صلواتهم لأن سبحة العذراء ستنتصر على فوهات المدافع. وهكذا كان».

قال لي الرئيس الياس سركيس…
مشوار الراهب المقاوم في عالم السياسة بدأ منذ إندلاع الحرب اللبنانية عام 1975 وكان منسجمًا في مواقفه وقراراته وخياراته مع موقف الرهبانية اللبنانية المارونية التي دعمت المقاومة اللبنانية على نطاق واسع. لكن بابه العريض إلى عالم السياسة بدأ مع انتخاب إبن بلدته الشبانية الياس سركيس رئيساً للجمهورية والذي كان يلقّب بـ»راهب السياسة اللبنانية». ويقول الأب مونس: «كان الرئيس سركيس إنساناً وطنياً بامتياز قبل أن يصبح رئيساً للجمهورية، وكان نظيف الكف وشفافاً في مرحلة كانت فيها الليرة مهددة ـ تماما كما الحال اليوم- ويسجّل له أنه فعل كل شيء لإنقاذ لبنان في أصعب الظروف وأقساها».

ويضيف مونس الذي اعتمده الرئيس سركيس مستشاراً له وكاتماً لأسراره إلى جانب متمرسين في عالم السياسة وفي مقدمهم الوزير الراحل فؤاد بطرس وجوني عبدو…»كان لي حضور قوي إلى جانبه وكنت أزوره في القصر الجمهوري يومياً على رغم الخطورة الأمنية والقذائف التي كانت تتساقط. وعندما يتعذر عليّ الوصول إلى القصر لا سيما خلال مرحلة قطع الطرقات بين الكسليك وبعبدا كنت أذهب عن طريق المونتيفيردي، وغالباً ما أجده وحيداً في القصر… والحقيقة أنه كان وحيداً وازدادت وحدته مع تفاقم الأوضاع والأحداث الأمنية لكنه بقي صامداً يصارع كي لا يقع لبنان في أيدي المحتلين والغرباء. أذكر أنه في إحدى المرات دخلت القصر وكان صدى دعساتي يتردد في الأرجاء. وجدته جالسًا في مكتبه، وحيداً.. وما أن دخلت حتى بادرني بالسؤال:»شو وضع البلد وكيف أحوال الشعب؟ أنا هون بالقصر وحيد. أجبته: «عم بيهاجموك…صورك على الجدران… وعم بيطالبوا برحيلك عن القصر… قوم تا نروح سوا ع الشبانية وتروك رئاسة الجمهورية. فقال: «قعود يا بونا شوي تا إسألك… قديش ربطة البقدونس؟ قديش سعر كيلو الرز، اللحمة؟ السكر؟ شو سعر صرف الدولار؟ قلتللو فورا: «ليرتين ونص». قللي:»بوكرا بدو يجي يوم ما يعود اللبنانيين قادرين ياكلو، وراح يصير سعر صرف الدولار أكتر من ألف ليرة وبيذكروا إنو انا الرئيس اللي ما خلاّ شعبو يجوع. بدو يجي وقت يا بونا مونس يمسحوا اللبنانيي بدموعن الشعارات اللي كتبوَا عني ع الحيطان وبدّن يعطوني حقي، وبدن يبكوا ويترحموا عليي». وإجا اليوم وأنصف التاريخ والناس الرئيس الياس سركيس.

ويختم بفخر: «هذا هو الياس سركيس إبن الشبانية البطل. هذا هو الياس سركيس الصامت الصبور الراقي في تعاطيه مع الآخرين والوطني حتى الموت. لم يكن مجرد رئيس لوطن. إنما كان وطناً في شخصية رجل. الياس سركيس ظلمته السياسة ولو بقّ البحصة لغرق لبنان في مستنقع من الدم، فحكم ذاك الصامت حتى التكتم بتجرد وتحمل الضغوطات حتى يحافظ على هوية لبنان…لقد عرفته حزيناً ورحل حزينا».

أحببت بشير الجميل وشباب المقاومة
كانت طبول الحرب تقرع في لبنان. المدافع لا تتوقف.القذائف تتساقط كالمطرعلى كل مساحة الوطن. الموت والقتل والإستشهاد في كل مكان. وسط هذه المشهدية السوداء كانت صورة الرئيس المنقذ بشير الجميل ترتسم على خشبة خلاص لبنان وكانت تربطهبالأب مونس علاقة ود واحترام. ويروي: «أحببت بشير وشباب المقاومة. كان شابًا متل النار وكنا نطلق عليه لقب الملاك الغضبان.كان مؤمنا بمبادئه وإبن جذور و»قبضاي»، ولو قدِّر له أن يكون رئيساً لكان قادرا على إحداث تغيير جذري في كل لبنان». هذا الإيمان بشخصية الشيخ بشير دفعت ب82 راهبًا من الرهبنة اللبنانية إلى تأسيس ما سُمّي بـ»غامّا». ويقول الأب مونس: «كنا مجموعة من 82 راهبًا وكنا نشكل ما يُعرف حركة الكسليك فأسسنا ما سُمي بـ»غامّا» وكنا الدماغ الذي يحضّر لعهد بشير ونهندس لسياسته ومبادئ جمهوريته وخطوطها.

ذات ليلة كان هناك إجتماع في الكسليك ضم الأباتي بطرس قزي والأباتي بولس نعمان وأنا وعدد من الرهبان وقررنا بعد نقاش طويل دعم وصول الشيخ بشير الجميل إلى سدة الرئاسة مع إنتهاء ولاية الرئيس الراحل الياس سركيس، علماً أن الشيخ بيار الجميل كان يميل إلى ترشيح إبنه أمين الجميل والرئيس كميل شمعون إلى ترشيح نفسه. كنا مدركين لمدى صعوبة إقناع الشيخ بيار والرئيس شمعون بهذا الخيار، كذلك إقناع الآخرين بصوابية خيار الشيخ بشير ووصوله إلى سدة الرئاسة في هذه المرحلة بالذات. وخلال اللقاء تمنينا على الدكتور فيكتور غريب الذي كان من ضمن مجموعة لجنة البحوث في الكسليك أن يؤمن لنا لقاءً مع الشيخ بشير في منزل شقيقه وصديقي المهندس جورج غريب الذي يقع في شارع عبد الوهاب الإنكليزي في بيروت على رغم المخاطر التي كانت تنتظرنا نظرًا إلى وقوعه على خط جبهة نار وقنص.

إستقلينا السيارة وتوليت القيادة وكان لقاء شبه مغلق ضم الأباتي قزي والأباتي نعمان وأنا والشيخ بشير. وأبلغنا الشيخ بشير برغبتنا في ترشيحه لرئاسة الجمهورية اللبنانية، كما تمنينا عليه أن يبقى هذا الإجتماع سرياً وأن يبلغ أعضاء الجبهة اللبنانية الذين كانوا يجتمعون في دير عوكر بالقرار في أقرب وقت ممكن. وهذا ما حصل. ولاحقاً نقلت الخبر إلى الرئيس سركيس الذي شجعنا على المبادرة وأثنى على القرار نظراً إلى ثقته ومحبته بالشيخ بشير.

ويضيف الأب مونس: «كان للأباتي نعمان الدور الكبير والأساسي والمفصلي في هذا القرار وهذا الترشيح لما له من شخصية كاريزماتية ومحبة واحترام وتقدير لشخص الشيخ بشير وصفاته، وكان بشير أصبح أيقونة المقاومة اللبنانية في وجه من يريد الإستيلاء على لبنان وذلك من خلال الشعار المدوي الذي طرحه لبنان ال10452 كيلومتر مربع».

بعد موت بشير طلعنا نهائيًا من السياسة
لكأن السنين الطويلة التي مرت وأحداثها الكبيرة لم تتمكن بعد من محو آثار تلك الذكرى الأليمة وصور جريمة إغتيال الشيخ بشير الجميل ورفاقه ليلة عيد الصليب في 14 أيلول 1982. «بعد موت بشير تغيّرت أمور كثيرة. بشير صلبنا… إستشهاده علقنا على خشبة الصليب. وانهارت كل الآمال المعلقة عليه. أذكر أنه عندما انتخب رئيسًا زارنا في الكسليك وكانت جلسة مطولة لبحث كيفية إدارة شؤون الدولة، لا سيما أننا كنا كفريق «غاما» قد وضعنا برنامجاً رئاسياً موسعاً لكل لبنان. كنا خائفين عليه من جرأته من أخلاقياته السياسية وكنا نطلب منه أن يكون أكثر حرصًا وأن يشدد على أمنه الشخصي و»ينضب». وذات يوم قلت له: «يا شيخ بشير إنت هلق رئيس الجمهورية، بس نحنا ما فينا نعيش بالمغامرة. إذا إنت استشهدت مين راح يكون الرئيس الخلف؟». فأجابني: «اتكلوا على الله».

كثيرة هي ذكريات الراهب المقاوم الجريء في قول كلمة الحق والحقيقة:»كانت الجبهة اللبنانية تجتمع هون بالدير وكانت تأخذ أهم القرارات. كلن راحوا. الآن أصبحنا في عصر مجلس نواب يضم في غالبيته نواباً مهرّجين».

بعد موت بشير إنصرف الراهب اللبناني إلى أبحاثه وكتاباته، وتحديداً إلى الإعلام،وتبوّأ مراكز إعلامية كاثوليكية عالمية بارزة وأطلق عددا وافراً من البرامج التلفزيونية الدينية والثقافية والإجتماعية عبر شاشة «تيلي لوميير» وكانت كلها تصب في اتجاه واحد: نشر الإيمان والحب والتعددية وحب الآخر والإنفتاح عليه وإدراكه الكلي بقدراته، ويقول في هذا المجال: «لا حياة ولا فرح ولا خلاص إلا مع يسوع المخلص. هو»الدايم دايم» وبه ومعه قمة العالم والحياة».

المثقف بنور الإيمان
إلتزامات الأب مونس الرهبانية ونشاطاته الفكرية والفلسفية لم تبعده عن إهتماماته الإعلامية والفنية المكثفة. فالراهب الماروني المثقف دأب على تأسيس برامج دينية عديدة بُثّت على محطات تلفزيونية وإذاعات لا سيما تلفزيون لبنان والمؤسسة اللبنانية للإرسال ليسجل في أرشيفه أكثر من 52 عملاً تلفزيونياً مسرحياً ووثائقياً وأكثر من 34 مسرحية.

الرهبنة رسالة إعلام ونور وإيمان
لا يفصل الراهب المؤمن برسالة الرهبنة بين دعوته الأساسية ورسالته الإعلامية، وقد أخذ عليه البعض «مغالاته» في حقبة معينة في الإطلالات الإعلامية. وبهدوء الواثق بخياراته يجيب: «دخلت الإعلام وكنت لا أزال في بداية حياتي الرهبانية، متأثراً بشعار: «le Media est LeMessage» «حامل الرسالة هو الرسالة» بسلوكنا، بحياتنا، بطريقة كلامنا… نحن نحمل الرسالة، وقد أُعجبت جداً بالمفاتيح التي تعمل هذه الرسالة على فتح أبوابها وسبر أغوارها». يضيف: «يسوع المسيح كان أول إعلامي، ولاحقا مشى مار بولس على خطاه فكان إعلامياً كبيراً وهذا ما أثبته كل من البابا القديس يوحنا بولس الثاني والبابا فرنسيس وأنا أفخر بالإنتماء إلى هاتين المدرستين. لم يجرفني يوماً البغض والحقد ولا عزل الآخر في كل نشاطاتي ومهامي، جرفني نهر المحبة والإنفتاح على الآخر وقبول الفروقات، وصار هذا الخط الإعلامي العريض الذي ينادي به الجميع، خط رسالة لبنان الحقيقية والجوهرية».

ويختم الأب مونس في الكلام عن دور الراهب الإعلامي: «الحياة الرهبانية ليست إنزواء، بل تواصل وإيصال رسالة الحب إلى العالم مغلّفة بالخدمة والعطاء وهذا لا يكون إلا بالإنفتاح على العالم وليس بالإنزواء والتقوقع على الذات. على الراهب الإعلامي أن لا يدفن الإيمان الذي يحمله في قلبه، على العكس يجب أن ننقله إلى الآخرين وذلك من خلال البشارة التي تبدأ بالإعلام والفن والثقافة وصولاً إلى التكنولوجيا وغيرها».

عن هذه الحقبة في مسيرة حياة الراهب المقاوم فكريا وروحيا وثقافيا يروي: «كنت أول من أسس البرامج الدينية المسيحية في تلفزيون لبنان ووضعت شرعة لكوني عضواً في اللجنة الأسقفية للإعلام في مجلس البطاركة الكاثوليك في الشرق الأوسط، تسمح لنا بتقديم 52 ساعة من البث الديني على شاشة تلفزيون لبنان بالتوازي مع 52 ساعة من البث الديني الإسلامي للطوائف الإسلامية. كما أسست فرقة التمثيل المسرحي في الكسليك، وأكتب المسرحيات وأدرّب الممثلين وكنا نقدمها مباشرة من استديو تلفزيون لبنان في تلة الخياط والحازمية لاحقاً. واستمر عرض هذا البرنامج الديني صباح كل يوم أحد وكان يشاركني الأستاذ فارس الحاج مع شرح بسيط لليوم الطقسي والليتورجي لا سيما تساعية الميلاد والآلام».

بعد وفاة الحاج توقف مونس عن تقديم وإعداد البرنامج الديني واستمر في الإهتمام به بتكليف من اللجنة الأسقفية لوسائل الإعلام. وتكريماً لعمله ومساهمته في الإعلام ومؤسسة إتحاد الصحافة الكاثوليكية العالمي إنتخبه مكتب الإتحاد عضو شرف فيه وعمل على تأسيس فرع له في لبنان.

أناشيد حب ومقاومة
حرب لبنان ترجمها الأب مونس في كتابات وأناشيد فكتب نشيدا للحرية بعنوان «سيدي أترك لي بندقيتي» أداه الفنان غسان صليبا. ونشيدا آخر بعنوان «الحذاء الأحمر» تُرجمَ إلى العديد من اللغات كتبه إثر محاولة إغتيال الشيخ بشير الجميل عند طلعة العكاوي في 23 شباط 1980 واستشهاد ابنته مايا. كما كتب قصيدة للأمهات بعنوان»علمتني أمي» غناها الفنان نقولا الأسطا، إضافة إلى العديد من المقالات اللاهوتية والأنتروبولوجية ومجموعة من الترانيم والتراتيل والأناشيد الروحية والطقسية لحنها وأنشدها عدد من كبار الملحنين والفنانين.

إهتمامات الأب مونس طالت عالم الرياضة بدءا من السباحة مرورًا بسباقات الركض وتسلق الجبال والوديان. باختصار، كان راهباً إستثنائيا. لكن هل يسمح قانون الرهبنة لراهب بممارسة كل هذه الأنشطة الخارجة عن إطار واهتمامات الرهبنة التقليدية؟ يجيب: «كنت مميّزاً بالنسبة إليهم وكانوا يفتخرون بي. كل ما قمت به كان يندرج في إطار روحانية الإيمان والبشارة والرسالة التعليمية والإنسانية والإجتماعية التي نؤمن بها».

إنطلاقا من هذه الروحية، روحية الراهب المقاوم والفنان والمثقف  أسس كلية الفنون الجميلة في جامعة الروح القدس – الكسليك وتسلّم عمادتها على دورتين، كما ساهم في تأسيس كلية الزراعة في الجامعة في زحلة مدفوعاً بحبّه للأرض وإيماناً منه بدور الأرض في تشبث الإنسان بوطنه، كما أسس كلية الطب ومعهد البيئة والإيكولوجيا. وبين العامين 1998 و2001 عُيِّن الأب مونس رئيساً لجامعة الروح القدس ـ الكسليك وتولى مسؤولية عمادة العديد من كلياتها. ويعود له الفضل في إنشاء فروع للجامعة في البقاع والشمال والجنوب لتشجيع الطلاب على البقاء في مناطقهم وتفادي حركة النزوح من القرى إلى المدينة بيروت وأطرافها.

إلى ذلك يعود يعود للأب مونس تأسيس فرقة المسرح في الجامعة في الكسليك عدا عن كتابة نصوص ليتورجية شكلت حركة نهضوية حقيقية في الفلسفة الليتورجية.

«حسبي أن أكون خادماً في بيتك جميع أيام حياتي»
يوم ودّع أهله وبيته في الشبانية والميدان وكنائس الضيعة وغابة الصنوبر وركب البوسطة مع شقيقه جرجس، شعر يوسف مونس أن قلبه يتمزق على رغم كل الحماسة التي كان يشعر بها للإنتقال إلى الدير.يومها تأمل كل شجرة كل قرميد على سطوح بيوت القرى، تنشق رائحة البحر الذي كان يلفظ أمواجه المالحة النقية على الشاطئ. وانبسطت أمامه جنائن الليمون والأكيدني واللوز والأزهار… يومها لم تكن هناك ناطحات ولا أبراج ولا نفايات ولا تلوث ولا فساد… «كان لبنان قطعة سما عنجد». وعندما وصل إلى الكسليك إستقبلته الأعمدة الصفراء والدرج العريض الأصفر وبسمة وترحاب وذقن وإسكيم الأباتي أغناطيوس أبو سليمان… وبدأت رحلة الراهب الذي تمتم لحظة وصوله إلى الدير:»حسبي أن أكون كاهناً إلى الأبد».

الأب يوسف مونس عاشق «الدايم دايم» لا يزال على رغم ثقل السنين عنيدًا صلبًا ومؤمنًا. وبإيمانه الكبير ذاك، تراه غير خائف على لبنان ولا على مسيحييه، وعلى رغم كل ما يعصف به ويهدد وجوده يطمئن: «لا تخافوا…وطن الأرز مكرّس لقلب العذراء مريم وهي ستحمينا وتحمي لبنان».

قبل أن نقفل الصفحة ونترك الأب الثائر المقاوم المتعدد النشاطات في جلسة مع ضيفه اليومي العصفور نسأل: «أين حطت رحال الأب مونس اليوم؟» يجيب: «أنا اليوم في استراحة المحارب ولا أجد نفسي إلا في الكتابة». وفي الأدراج كتبٌ ومقالات وأناشيد ليتورجية قيد الخروج إلى ضوء الحرية.
(انتهى)