الأمين العام للإتحاد السرياني الماروني الدكتور أمين اسكندر/الحيادية والإتحادية

101

الحيادية والإتحادية
الأمين العام للإتحاد السرياني الماروني الدكتور أمين اسكندر/موقع الشفافية/24 تشرين الثاني/2020

بعد انقضاء مئة عام على إنشاء دولة لبنان الكبير، يبقى لبنان أكثر من أي وقت مضى عاجزاً عن تحقيق الحد الأدنى من السيادة الوطنية، فالطبقة السياسية، لا سيما تلك التي تطلق على نفسها تسمية المعارضة، وكذلك المجتمع المدني، لا تزال مواقعها متأرجحة بين ردود فعل متزامنة تتراوح بين رفض الوضع القائم من جهة، وبين اقتراح حلول عجائبية من جهة أخرى.

ومنذ انتفاضة تشرين الأول، تعتقد المكونات المذكورة بغالبيتها أنها تمكنت من كشف مكامن الخلل في لبنان وعزتها إلى الفساد والهدر وعدم الكفاءة. وذهب البعض إلى حد اعتبار أنّ هذا الخلل يعود إلى المنظومة السياسية في لبنان القائمة على نظام طائفي رجعي، لكن في الواقع، إن المشاكل التي يعاني منها لبنان ناجمة عن وجود جماعات مسلّحة خارجة عن الدولة توالت على أخذه رهينة للخارج، بدءاً من التشكيلات المسلحة الفلسطينية، مروراً بالجيش العربي السوري، وصولاً إلى الميليشيا الحالية التابعة لإيران.

لقد طبق لبنان منذ عام ١٩٢٠ نظام حكم وإدارة تم الأخذ به بعد عقود من الزمن في دول ديموقراطية غربية تحت اسم “التمييز الإيجابي”. ويقوم هذا النظام تحديدا في لبنان على تشريعات تهدف إلى الحفاظ على التنوع كثروة ثقافية، إنسانية ووطنية. وهذا النظام، الذي تم وصف بصورة سلبية وغير منصفة بالطائفي، يؤمّن في الواقع تمثيل الأقليات في كل قطاعات الدولة والإدارة، فلبنان لا يمكن أن يحكم من دون موافقة أضعف مكوّناته، وهذه الهيكلية من شأنها أن تمنع ميليشيا ذات عقلية شمولية من بسط هيمنتها على القطاعات التي لا تزال خارجة عن سيطرتها.

لقد خلطت شريحة من الثورة بين التهميش والتمييز الإيجابي ظناً منها بأنها بهذه الطريقة تحارب غياب العدالة الاجتماعية. كما خلطت بين أسباب المرض وعوارضه. ومن خلال رغبتها في مقاومة انهيار الوطن وادعائها رفض الاستسلام في وجه الظلم، فإن تلك الشريحة تقضي بذلك على الورقة الأخيرة التي لا يزال يملكها الشعب اللبناني بتنوعه في وجه عقيدة حزب ديني شمولي متشدد ومسلح، إذ أنها تعتقد خطأ أن النظام الذي تنعته بالطائفي هو الذي يضع المحسوبية والفساد محلّ الكفاءة والنزاهة والجدارة إلى درجة أنها لا تستغرب كيف أن رموز الفساد والمحاباة تدعمها في ثورتها، وكيف أن “حزب الله” وأتباعه مسرورون بانحرافها عن هدفها الأساسي الذي يمثلونه هم أنفسهم.

والجدير ذكره أنّ العديد من محترفي السياسة في لبنان يشكّل أحلافاً غير مشروطة وغير معلنة مع الجماعات الخارجة عن الدولة التي تؤمن استمراريته بصورة غير مباشرة.

إذا، هذا النظام المهترئ تحميه وتغذّيه جماعة تشكّل دولة ضمن الدولة، وتشجع على تفكك الوطن بهدف تنفيذ أجندة أجنبية خلسة. وتكمن قوّة هذه الجماعة في الدولة المركزية التي تسمح لها بتقاسم الجبنة، بعيداً من الأنظار ومن أي عقوبات سياسية أو قانونية. وبالتالي، م يجب محاربته هو احتكار السلطة بين يديها، وليس النظام الطائفي في حد ذاته، لأن المركزية السيّئة في السلطة وفي ممارستها فسحتا المجال لكل الانتهاكات. وفي المقابل، من غير الممكن الحديث عن اقتصاد عصري ومزدهر، اذا تخلّى لبنان عن تنوّعه الثقافي وإذا تمّ فرض لون واحد عليه، نتيجة هيمنة جماعة معيّنة تحظى بالأكثريّة وتكون مدعومة من قوّة خارجية. وما ينظر إليه على أنه الحل العجائبي سيؤدي إلى تحفيز الهجرة المعممة وتفكك البنية السكانية وضياع الهويّة.

إنّ الجمهورية المثالية القائمة على قيم المواطنة يمكن أن تتحوّل إلى وهم محفوف بالمخاطر، فاعتبار المواطن مجرد نتاج لتطبيق القانون يؤدي إلى اختزال الإنسان فيه، وإلى تجريده من كل خصوصياته التاريخية، الثقافية، الروحية، والفردية، فالجمهورية والقانون يجب أن يظلا أداة لخدمة الإنسان بكل تعقيداته من دون الوقوع في أيديولوجية العولمة العمياء والمختزلة.

بين المواطن والشعب، لا تزال هناك فئة معرضة للمحو من قبل الأنظمة الشمولية في أشكالها المتعددة السوفياتية، التقدمية، النازية، العربية، وحتى في الشكل الخاطئ لمفهوم الجمهورية.

وأمام الأزمة التي يمر بها المشرق ولبنان في بنيته السياسية يقتضي تحليل بعدين اثنين لواقعنا السياسي:
النظام السياسي في حد ذاته من جهة وكيفية تطبيق، فالنظام في حد ذاته ليس مشوباً بعيب، إنما الخلل يكمن في التطبيق، فلا يمكن الحديث عن إلغاء الطائفية السياسية قبل إقرار إطار معين أكثر وضوحاً لحماية التنوع الموجود بين مختلف المكونات في لبنان، على ألا تؤدي هذه الحماية إلى مخالفة المفاهيم الديموقراطية، كما يفعل النظام الطائفي الذي لم يعد في إمكانه الاستمرار إلى ما لا نهاية، مرتكزاً على مساواة أصبحت مصطنعة.

ومن هنا، تظهر الإقليمية من النوع الفدرالي كحلّ من شأنه أن يؤدي إلى الاعتراف بكيانات ذات طابع ثقافي تسمح بإنشاء وحدات جغرافية يسود فيها حكم علماني، على ألاّ يتمّ اعتماد العلمانية وقيم الجمهورية على حساب الأقليات المتروكة تحت رحمة التغييرات المحلية والإقليمية، فوحدها الإقليمية مع لامركزية موسعة تتمتع بنوع من الاستقلالية عن السلطتين التشريعية والتنفيذية يمكن أن تسمح بالتخلي عن النظام الطائفي الحالي، فضلاً عن اعتماد العلمانية في المناطق التي ترغب في ذلك عبر التصويت بصورة ديموقراطية.

هذا الشكل من الإقليمية أو اللامركزية ليس بإمكانه وحده أن يشكّل حلاًّ لمشكلة لبنان ويؤدي إلى إحلال السلام والأمن والازدهار فيه، فالبيئة السياسية الحالية يمكن أن تؤثر سلباً عليه وتعيد النظر به.

ولذا، فإن قيام دولة القانون واحترام الحريات الفردية، لا سيما حرية المعتقد وتأمين استقلالية السلطة القضائية، يبقيان بعيدي المنال، طالما أن لبنان منغمس في المحاور الإقليمية.

أما نداء بكركي فيجعل لبنان بلداً محايداً يشكل ركيزة أساسية لهويته، ويقتضي العمل على تحقيق ذلك في أقرب وقت ممكن، فالحياد الذي نادى به غبطة البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي هو الحياد الإيجابي الذي يسمح للبنان بالتعبير عن مواقفه وقناعات وقيمه لدى المحافل الدولية من دون الانخراط في النزاعات.

وأمام التحديات التي تواجهنا، تبقى المبادئ الأساسية التي يجب إعطاؤها الأولوية متمثلة بالحياد والإقليمية حتى نتمكن من الوصول إلى العلمانية وبناء دولة الحق التي لطالما حلمنا بها.

وفي ما يتعلق بإلغاء الطائفية السياسية، فهذا أمر يصبح انتحاراً إذا لم يترافق مع إنشاء لامركزية موسعة هي أصلاً منصوص عليها في اتفاق الطائف تؤمن الضمانات التي من شأنها أن تقضي على التشنجات الطائفية وتسمح بمحاكمة الفاسدين نتيجة فقدانهم حماية طوائفهم المختلفة. أما الحياد فيعتبر من الأولويات، طالما أنه لا يمكن الحديث عن سلطة قضائية مستقلة، في ظلّ سلطة حزب مسلح بصورة غير شرعية. ولا يمكن للقضاء بأي شكل من الأشكال أن يكون ضامناً للسيادة والحريات وسلطة القانون، في ظلّ وجود حزب يضع نفسه فوق القوانين. وعندما تصبح هذه المعطيات الأساسية قائمة ومطبّقة، يصحّ حينها الحديث عن القيم التي نطمح إليها جميعاً كتلك التي جاءت في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وفي المواثيق الدولية واحترام الحقوق والحريات الفردية وتطبيق العدالة الاجتماعية، وخصوصا حماية الفئات الأكثر ضعفاً، من دون أن ننسى البيئة والتنوّع الطبيعي. ويعتبر أي تغيير جذري في الإطار الحالي في لبنان قبل تطبيق الحياد، قفزة في المجهول.

ومن جهتها، ستؤدي إعادة هيكلة النظام المصرفي، على سبيل المثال، في ظلّ هيمنة حزب مسلّح، إلى سيطرة هذا الحزب على القطاع بأكمله، الأمر الذي ينطبق على سائر القطاعات الأخرى.

إن المقترحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي صدرت عن المجموعات والأحزاب السياسية التي تعلن انتماءها للثورة، تتلاقى في معظمها حول رؤية مشتركة نتبناها نحن. أما الاختلافات فتتجلى أمام كل تحدٍّ في سياقه الزمني وتبعاً لأهميته. وفي حال عدم احترام هذا السياق الزمني، يتحول المشروع الإنقاذي إلى انتحار جماعيّ. إذا، يجب إدراك أهمية الحياد وأيضاً أهمية إيجاد صيغة سياسية تناسب التنوع القائم ضمن خطة النهوض الوطني.

يشار إلى أن هذا المقال كتب قبل انفجار بيروت في الرابع من آب، وكنت في صدد إرساله باللغة الفرنسية إلى صحيفة لوريان لوجور، لكن الكارثة التي حصلت جعلت الاقتراح الوارد في صميمه طارئاً ووجودياً.