كتاب الكولونيل شربل بركات “مداميك”/الفصل الثاني…الوصول إلى عين إبل/الحلقة الأولى

167

كتاب الكولونيل شربل بركات “مداميك”/الفصل الثاني…الوصول إلى عين إبل/الحلقة الأولى

25 تشرين الأول/2020

تفحص شريف بندقيته التي كان أحضرها سامي معه، ووضع فيها الممشط المزدوج، ثم حملها وجلس بجانب سعيد الذي ترك بندقيته بجانبه وقاد السيارة بعد أن وضعا أمتعتهما في الصندوق. توجه سعيد شمالا صوب البياضة، فقد كان يريد المرور على مركز السرية للتاكد من حسن سير العمل قبل أن يذهب إلى رميش. فهو قائد الكتيبة المسؤولة عن حماية القطاع الغربي وكان ترك المنطقة منذ أكثر من خمسة عشر يوما وقد سمع وهو في بيروت عن بعض التحرشات التي جرت ضد مواقع الجيش الجنوبي، ففضل الاطلاع على الأمور عن قرب ليطمئن على عناصره…
كان مركز السرية في “شقيف الحردون” بين البياضة و”شمع”. وعندما اجتازوا البياضة صعودا في ذلك الطريق، انفرج أمامهم سهل يبدأ من كعب “بيت عليان”، الذي يذكر ب”عليون” الاله الكنعاني، ثم يتسع حول صور ويتجاوزها إلى ما بعد القاسمية حيث مصب “الليطاني”. وعلى يمينهم كانت تقف، بجلال، تلة “ارمز”. و”هرمس” اله معروف عند اليونانيين باصله المشرقي وهو شفيع المسافرين بالبر والبحر حسب الميتولوجيا اليونانية، و”هرمس” أيضا هو “هرمس الحكيم الذي ملك على مصر”. فهل هذه التلة المستديرة التي تقف فوق البحر بشكل مميز كانت تحمل هيكل “هرمس” شفيع البحارة؟ أم اسم “هرمس الحكيم”؟…
دخلت السيارة إلى المركز وقد تعرف الحارس على من فيها، ففتح الباب. نزل سعيد فورا إلى مكتب آمر السرية بينما توجه شريف إلى أحد مراكز المراقبة، وكان يشرف على ذلك السهل المزروع ببساتين الليمون، وتنتشر القرى الصغيرة فيه محازية كعب التلال التي بدأ يقل فيها الخضار وقد لفحتها شمس أيار ملونة بالأصفر والأغبر أطراف النباتات الصغيرة، فايام “البعل” شارفت على الانتهاء و”موت” هو الغانم، في ذلك الصراع الأبدي، حتى الخريف القادم وكيفما تقلبت الظروف.
كان “أحمد” واقفا في ذلك المركز، يحمل منظارا بيده، ويضع جانبا “الكلاشنكوف”، وقد ثبت “البراوننغ” على قاعدة متحركة باتجاه الشمال. كان يراقب أحد الرعاة في الجاني الآخر من الوادي وهو يقود قطيعه من “المجدل” باتجاه أعالي “المنصوري”، وعندما أحس بدخول شريف، استدار مبتسما وحياه بلهجته البدوية، فقد كان “أحمد” من سكان الضهيرة، وهم من البدو، وقد وقفوا بجانب أهل المنطقة منذ 1978، وخدموا في الجيش، وهم لهم اقارب في الطرف الآخر من الحدود، والقرية نفسها مقسومة إلى قسمين، وقد كانا على اتصال دائم مع بعض قبل أن يضع الاسرائيليون سياجا الكترونيا على الحدود. وفي اسرائيل يخدم البدو مثل الدروز في الجيش. ولكن أهالي يارين ومروحين المجاورتين، وهم أيضا من البدو، كانوا قد تعاملوا مع الفلسطينيين، ما دفعهم إلى النزوح في 1978 فسكنوا الساحل، وقد عادوا بعد 1982، وعمروا بيوتهم، ولم ينقطعوا عن العمل في الساحل بل أصبح لهم مصيف ومشتى، فلهم منازل في المنصوري وغيرها، كما لهم منازل في يارين ومروحين…
سأل شريف أحمد عن مكان انطلاق الصواريخ التي كان سمع عنها وهم في بيروت، فأشار إلى المفرق بين المنصوري والمجدل إلى الأسفل من مكان ذلك الراعي. فامكانية التسلل من الجهة المقابلة سهلة، كما يمكن استعمال السيارات لنقل الصواريخ، “لأن جماعة الأمم المتحدة لا يفتشون كما يجب وتقضي أوامرنا بعدم التعرض للمدنيين، ولا تمر طريق المجدل على عناصرنا”. هذا ما فسره أحمد لشريف، وأردف “أن الحالة باعتقاده ستسوء، لأن حركة “أمل” تفقد سيطرتها شيئا فشيئا في المنطقة لصالح “حزب الله”، وإذا كان جماعة أمل ناهضوا فيما مضى الفلسطينيين وربطتنا بهم مصلحة مشتركة، فإن جماعة حزب الله هؤلاء ليسوا كذلك، فأوامرهم ليست منهم وقادتهم، كما نسمع، إيرانيون، ولا تهمهم مصالح سكان المنطقة”… قال أحمد هذا ثم سكت إذ لم يسمع من شريف أي تعليق، فقد كان شريف سرح بنظره إلى البعيد، حيث كانت تربض مدافع “فتح”، التي روعت سكان المنطقة، وشمال اسرائيل، فيما مضى، ما دفع بالاسرائيليين إلى الدخول في عملية اقتلعت أصول هذه المنظمات، فباتت قواعدهم في اليمن وتونس بدل صور وصيدا، فهل يعيد التاريخ نفسه؟… ومن الذي سيقتلع هذه المرة؟…
كانت هذه الفكرة تراوده عندما انظلق “زمور” السيارة، فقد أنهى سعيد عمله وخرج فادارها استعدادا للذهاب. ودع شريف أحمد بابتسامة وكلمة تشجيع ونزل إلى السيارة التي أكملت باتجاه “شمع”…
كانت قلعة شمع تربض فوق ذلك المرتفع بابراجها المتهدمة، وسورها الذي بقي كاملا تقريبا، حتى هذه الأيام، بالرغم من محاولة الأهالي استعمال بعض حجارته للبناء، ولكن روعة هندستها لا تزال ظاهرة، وهي تشرف على ساحل صور من الشمال، وعلى الوادي الجنوبي الذي يصل إلى الاسكندرونة. وعلى الطرف الشمالي للسور قبة صغيرة، يقول الأهالي، أنها قبر أحد الأولياء، وهو “النبي شمع” الذي أعطى اسمه للقرية، وقد يكون “شمعون” الوارد في التوراة، أو أنه “شمع-أون” المشابه ل “شمع-ايل” (اسماعيل)…
عند مفرق القلعة وقف ثلاثة شيوخ رفع أحدهم، الذي كان يعتمر قبعة صوفية، يده مسلما، فقد عرف شريف وسعيد. كان هذا مختار القرية، بشاربيه الأبيضين، وبسمته المعهودة، فهو من “السياد” الذين يرجعون بالنسب إلى “آل البيت”، وكان لهم عزهم واحترامهم فيما مضى، ويبقى لبعضهم حتى في هذه الأيام، الأتزان الذي يدعو إلى الاعجاب. وقد سكن أولاده صور، قبل الأحداث، طلبا للعلم، فلم يكن في شمع أو بقربها مدارس فوق الابتدائية، ولذا كان على الطلاب أن ينزلوا إلى صور اذا ما رغبوا في إكمال دراستهم. أما الأهل فكانوا يبقون في الضيعة يتعهدون الأرزاق، ويكافحون مع الطبيعة الفقيرة، في تلك الروابي، التي لم يكن “أون” يغنيها بينابيعه، بل اتكلت على “بعل” ليرويها بأمطاره، وعلى المحراث يجره “زهير” و”صبحى” ذهابا وايابا، ليبقي فيها شيئا من “خير السماء”، الذي يكفي الحاجة، ويستر، فيغني عن العمل “تحت أيدي الناس”…
لم يتوقف سعيد ليكلم الرجل الوقور خوفا من أن يلح عليهم بالعودة معه إلى البيت. فاللياقة لا يزال لها موضع عنده، ولو أن الأحداث جعلت الناس تنعزل في دوائر صغيرة لا تتسع أحيانا لأعضاء الأسرة الواحدة…
أكملت السيارة طريقها فواجهت “مجدل زون” وهي بالفعل تقع فوق تلة كأنها البرج، فمجدل تعني “البرج” و”زون” يذكرنا باسطورة “غلغامش”، والطائر “زو” الاله القوي الذي يقصف الرعد، وقد نسب عندنا إلى “أون” مرة أخرى، فاذا به “زو-أون” وقد يكون له صلة ب”اله الالهة” الأغريقي “زو- س”. وتعمر التلة كلها ببيوت القرية المتساندة الواحد إلى الآخر، وقد نافسها مؤخرا، مركز الأمم المتحدة، بلونه الأبيض وعلمه الأزرق. وتتحكم “مجدل زون” بوادي “زبقين” الجنوبي والوادي الذي ينتهي عند “الحمرا”. ومنطقة “زبقين” تتصل بأودية “الصالحاني” من جهة، و”جباب البطم” من جهة ثانية، وكلها أحراج مثالية لحروب ال “Guerilla” وأعمال التخريب. ولذا فقد كانت تكثر فيها الكمائن والدوريات من جهة، والتسلل وزرع الألغام من جهة ثانية…
اجتاز سعيد مثلث “طير حرفا” ثم دار باتجاه الجنوب عند مفرق “شيحين” ليدخل إلى “الجبين”…
كانت “الجبين” تذكر شريف بذلك الأديب؛ “مصطفى جحا” وقد كتب كتبا عدة ومقالات، في أكثر من جريدة ومجلة، وكان شيعيا نشأ في “الجبين” وتعلم في صور، وكأغلب “المثقفين” الشيعة، يومها، أصبح يساريا. ثم قبض الفلسطينيون عليه ونكلوا به، فنقم عليهم وعلى “الامام” الذي لم يطالب به ولم يسعفه مع أنه، كما يقول مصطفى، كان يدعي الدفاع عن المظلومين وكان شعاره “حقوق المحرومين” وفي النتيجة، وكانت الأحداث قد عصفت بلبنان، تمكن “مصطفى” من الهرب إلى “الشرقية”، حيث كتب عن تأثره ونقمته، فتحدث عن أولئك الذين “يولدون كالفئران”، أو كالأرانب، بدون حب، فكيف سيعرفون أن يحبوا الوطن، أو هل يمكنهم أن يعرفوا معنى الحب ولم يذوقوه في بيوتهم؟..”
كتب عن نفسه، وعن تجاربه، وعن الكثيرين. ثم بعد الثورة الإيرانية، “تجرأ” على “آية الله”، فكتب عن “الخميني” و”زردشت” . وكان نتاجه الأخير، في موجة التهجمات على الأديان، كرد فعل على استعمالها لاثارة النعرات وشحذ الغرائز، بأن تجرأ على “الدين الاسلامي” نفسه في كتابه “محنة العقل في الاسلام”. وبالرغم من أنه حاول أن يكون منطقيا وعقلانيا في طرحه، إلا أنه خاض في موضوع لم يزل من “المحرمات”. وعند قرأة شريف لذلك الكتاب، انزعج من قضيتين: الأولى أن التطرف الاسلامي الظاهر الآن لا يجابه بتهجمات تزيد جماعته تعنتا. والثانية ان كاتبا تجرأ أن يناقش “المقدسات” لن يكون بمأمن من الخطر والملاحقة، فقد لا يكون هذا الوقت المناسب لطرح هكذا موضوع، قد يساعد في تقارب أكبر، بين شعوب هذه المنطقة والعالم، على عتبة القرن الواحد والعشرين، قرن العلم وتوسع الآفاق. وما اقلق شريف، أن مفكر من هذه المنطقة، هو ثروة قد تتعرض للضياع في مثل هذه الظروف، وتحت شعارات لجماعات لن تقدر المنطق أو العقل، بل قد تتصرف بهمجية وتعصب…
ولكن “اليست كل الأحداث التي نعيشها هي فورة من الأحقاد التي لا ترتكز إلا على أوهام، تتعاظم هنا، وعلى تعلق بإرث يفرض الاستماتة في سبيله هناك؟..”
بعد الجبين وصلوا إلى المفترق حيث تلتقي طريق طير حرفا الجبين الطريق الرئيسي الذي يربط ساحل الناقورة بالداخل وتقع عليه قرية الناقورة التي كانت ازدهرت بوجود المركز الرئيسي لقوات الطوارئ الدولية فيها حيث فتح الأهالي مقاهي ومطاعم تخدم هؤلاء، ولم يعد سكان الناقورة صيادو سمك ومزارعون صغار وقد أصبح أغلبهم اليوم إما صاحب محل أو مطعم أو موظف في مركز الأمم المتحدة. وهذا الرفه قد لمس أيضا علما الشعب التي تقع فوق التلال المشرفة على الناقورة مباشرة، وقد جاهد سكانها المسيحيون منذ مئات السنين وكونوا خط الحدود للبنان، وقد عملوا في الأرض وقاتلوا للبقاء كاخوتهم، وكان الحصار الذي فرضه الجيش العربي والفلسطينيون عليهم سببا لحملهم السلاح ونضالهم في السنين الأخيرة، وقد دفعوا من دماء بنيهم فاتورة الانتماء للوطن وبقي اسم جورج القائد الذي استشهد في سبيلها مخلدا على مدخلها الغربي، وكان شريف كلما مر من أمام منزل “ام جورج” بتذكر لقاءه وبسمته الدائمة واندفاعه…
أكملت السيارة طريقها مجتازة “يارين” و”البستان”. كان “صالح” يقف أمام دكانه، بفمه الباسم الخالي من الأسنان إلا إثنين تدليا في مقدم فكه الأعلى، وقد عرف السيارة فوقف في وسط الطريق، ولم يقبل أن يسمح لهم بمتابعة السير إلا بعد أن أعطى كل واحد علبة شراب “ساحنة”. فلم تكن قد أصلحت اعمدت الكهرباء بعد في البستان، ولم يكن هناك كهرباء حتى في القرى التي فيها أعمدة، فالكهرباء تزور هذه البلاد لكي لا ينسى الناس أنها موجودة، ثم تغيب بمشوارها الطويل وكأنها تتنقل على “الدواب”.
وعند وصولهم إلى “طلعة الكساير” واجههم ذلك البيت الذي شطرته الحدود إلى قسمين، فقد كانت الحدود بين اسرائيل ولبنان، تعتمد على خط القنن، الذي يفصل توجه الماء إلى الأودية شمال راس الناقورة وجنوبه، وهكذا فقد وقع هذا المنزل في وسط الحدود، فقسم إلى لبناني واسرائيلي، واضطر صاحبه إلى تركه… كان ذلك في “الأيام الخوالي”، حين لم يكن من مشكلة على الحدود. فاتفاقية الهدنة كانت تسير بشكل حسن، ولم يكن لأي من البلدين مصلحة في تعكير الأمن. “أما بعد أن نجح “الأشقاء العرب”، وعلى رأسهم “الشقيقة الكبرى”، بزجنا في “حرب تحرير”، “حررتنا” من كل ما كنا نملك من الرفاه والاستقرار، وخربت بيوتنا، حتى أصبحنا نستجدي الأمن في العاصمة وليس على الحدود، ونعجب إن غفلت الأحداث عن منطقة لم تشركها بالمصائب، وبات “للجميع الحق بالتكلم باسمنا ما عدانا نحن. فدول تقرر مصيرنا، وحكومات تفاوض عنا، ومنظمات وأحزاب تقاتلنا، لتنجح “الأمبراطوريات الجديدة” في تثبيت دعائم “ثورتها”، وتجري حروب، وخطف، وتسويات، ومجازر، باسمنا لا دخل لنا فيها”. فلو ظلت مشكلتنا ذلك البيت المقسوم قبالة “الكساير” فوق “البستان” ما كان أوفرنا حظا. هذا ما جال بخاطر شريف وهو ينظر إلى ذلك المنزل على المرتفع عند الحدود…
كانت “مروحين” التي عادت اليها الحياة بعد 1982، تطل على البحر وقد احتمت من الشرق ب”قصر بلاط”. و”بلاط” جبل مرتفع نسبيا عما حوله وعلى قمته قصر أو بقايا بناء أو هيكل، وأعمدة وعتبات تعود بهندستها إلى ما قبل الفترة الهلنستية حسب البعض، والأسم “بلاط” يذكر ب”بعلة” أي الالهة المؤنسة في العبادات الكنعانية القديمة، ف”عشتروت” مثلا تذكر بالكتابات المصرية باسم “بعلة جبيل”، والجدير بالذكر هنا أن “مقاما” قريبا من بلاط وعلى التلة المقابلة لا يزال يحمل، حسب البدو المحليين، اسم “ام الزينات”، فمن تكون “أم الزينات” هذه غير “عشتار” العروس الالهية” حسب التقاليد الكنعانية القديمة؟.. ويقال بأن كتابة يونانية قديمة كانت محفورة على صخرة أمام تلك الأعمدة، تقول: “ثروتي أمامي”، ولعل تلك “الثروة” هي ما يقع عليه النظر من ذلك المرتفع، فالأفق يتسع هناك ويمكن للناظر أن يرى ما بعد صور إلى الشمال، وحتى جبل الكرمل إلى الجنوب، ومن الشرق إلى الجرمق ومارون، وينبسط البحر أمامه في الغرب حتى أعاليه…
تذكر شريف أولى رحلات السير الطويل الذي بدأه مع الرفاق قبل أن تكبر فرقة الكشاف التي انشاؤها وتصبح الرحلات على الأقدام من صلب نزهاتها ونشاطاتها، فقد كان مع ثلاثة من الرفاق في زيارة إلى “نزار” في “عيتا الشعب”، ونزار أيضا من سلالة “آل البيت”. وقد كان رفيق الدراسة وكان لهم من العمر أربعة عشر عاما، وكانوا قد أتوا من عين إبل إلى عيتا سيرا على الأقدام وقرروا بعد الحديث مع نزار التوجه إلى قصر بلاط الذي كانوا يسمعون عنه كأحد الأماكن الأثرية في المنطقة، وبعد الوصول إلى بلاط وجدوا أن “الصالحاني” أصبح قريبا فلم لا يزورونه؟
كان الصالحاني هاجسهم منذ أن سمعوا عن أوديته وغاباته وينابيعه، وبخاصة “الشقيف” الذي يصلح للتسلق بالحبال. وهكذا كان فهم أكملوا مسيرتهم إلى الصالحاني يومها، وقد مروا بذلك المرج حيث كان مضرب البدو، وحيث قدمت لهم فيه تلك البدوية، يومها، اللبن عندما سألوها عن ماء للشرب. ثم أكملوا طريقهم إلى “بصيل” حيث ظهر أمامهم “الشقيف”، وكان كأنه حائط صخري يمتد على الجهة المقابلة مسافة كيلومترين تقريبا، وهو “يركب” الوادي العميق حيث تسير ساقية تنطلق من “التنور”، أول ينابيع ذلك الوادي، وتكسوا الأشجار جانبيه حتى كعب “الشقيف” من جهة، وما بعد “بصيل” من جهة ثانية، وتستمر غربا إلى أبعد من “زبقين”. كان هذا المكان المثالي لهم للتمرن على المغامرة و”المخاطر”، فالمنطقة كلها تفتقر لغابة كهذه بكثافة اشجارها وتنوع مناظرها، وفي الشقيف مغاور عديدة منها ما كان يستعمله الرعيان لأيواء قطعانهم شتاءً، ومنها ما هو معلق لا يمكن الوصول إليه إلا من الجهة العليا ويجب استعمال الحبال لذلك. ثم نزل مع “منير” لاستكشاف الوادي، بينما بقي “رئيف ” مع “غابي” الذي تعب من السير، ووصلوا إلى “عين التينة” حيث يوجد بركة تتجمع فيها مياه النبع، وهو غزير يجري إلى خارجها ويسير في ذلك الوادي باتجاه الغرب. وقد اصبح هذا المكان فيما بعد مركز رحلات وتمارين الفرقة الكشفية التي ربت أجيالا من الشبيبة، على حب المغامرة والتعاون والتحدي…
كان شريف سارحا بهذه الذكريات عندما ايقظه صوت سعيد:
– اف بعدو “مبرّك” لليوم؟
كان سعيد يتكلم عن “مرج راميا” وقد كان على يسارهم، وبدا كمستنقع ضحل لا يزال الماء يغطي جهته الشمالية. وكان يعتبر مهما بالنسبة لقرية مثل “راميا”، فهو يضم أكبر مساحة صالحة للزراعة في البلدة، وقد شكل دائما مشكلة لأولئك الفلاحين، فلم يكن بالأمكان استعماله قبل أن يجف، وفي سنة مثل هذه يبقى حتى ايار كي يتمكن الأهالي من فلاحته، وهكذا لا يصلح إلا للزراعات الصيفية.
كان هذا ما دار بخاطر شريف عندما نظر إلى المرج، ولم يعلق على ما قاله سعيد، ولكنه سرح مجددا بأفكاره. فهذا الشعب الذي لم يستطع على ممر الأيام أن يتفق على شق قناة بعرض متر وعمق لا يزيد عن المتر وبطول مئتي متر فقط، ليتخلص من مشكلة الماء تلك، كيف له أن يتبجح قادته بمجاراة الأمم المتقدمة، وقد أفرغ الهولنديون البحر ليكسبوا أرضا أغنى، وجفف الاسرائيليون ما كان يسمى “بحيرة الحولة” فاصبحت من أغنى الأراضي واستغلوا ترابها وماءها، أما نحن فلا نعرف إلا إطلاق الشعارات الرنانة، ونستطيع أن نجمع مئة شاب ندفع بهم كل يوم للموت ولزيادة الأحقاد، ولا نعرف أن نجمع عشرين عاملا ليحفروا قناة يستفيدون كلهم منها، ولا يزالون يعانون مشكلتها منذ وجودهم في هذه الأرض…
ثم مروا على “جبانة العرب” وهي مقابر كان البدو فيما مضى يدفنون موتاهم فيها، وقد طرد بعض زعماء الشيعة في الماضى البدو من المنطقة، فالشيخ ناصيف النصار كان طرد قسما في ايامه، وفي القرن الماضي طرد “حمد البيك” “العرب” الذين ينزلون قرب “رميش” ولم يبقَ إلا “عرب” منطقة مروحين حتى الضهيرة. ويرتبط هؤلاء البدو ب”عرب” اسرائيل حيث كانوا امتدادا ل”عرب العرامشة” و”الهيب” و”الحمدون” وكلهم من سكان اسرائيل اليوم بينما بقي الشيعة في لبنان ولم تفصل الحدود الا أربع قرى كان سكانها من الشيعة وهي “قدس” و”صالحة” و”المالكية” و”هونين”…

*ملاحظة/اضغط هنا لقراءة التمهيد والحلقة الأولى (طريق البحر) من كتاب الكولونيل شربل بركات “المداميك”
*ملاحظة/اضغط هنا لقراءة كتاب الكولونيل شربل بركات “مداميك”/ الفصل الأول…الحلقة الثانية
*ملاحظة/اضغط هنا لقراءة كتاب الكولونيل شربل بركات “مداميك”/ الفصل الأول…الحلقة الثالثة
*ملاحظة/اضغط هنا لقراءة كتاب الكولونيل شربل بركات “مداميك”/ الفصل الأول…الحلقة الرابعة
*ملاحظة/اضغط هنا لقراءة كتاب الكولونيل شربل بركات “مداميك”/ الفصل الأول…الحلقة الخامسة