الباحث والأستاذ الجامعي شربل بومارون: فتوى ماردين” وقيادة العالم السنّي”

108

“فتوى ماردين” وقيادة العالم السنّي
الباحث والأستاذ الجامعي شربل بومارون/الجمهورية/23 تشرين الأول/2020

ماردين، عاصمة طورعابدين، البلدة السريانية الواقعة اليوم في جنوب شرق تركيا، تحمل اسم إحدى أخطر الفتاوى في التاريخ الإسلامي، “فتوى ماردين”.

مع بداية الفتح العربي، بدأت الديموغرافيا تتغير شيئًا فشيئًا في الهلال الخصيب. وفي نهاية القرن الثالث عشر الميلادي بات السواد الأعظم من سكان ماردين مسلمين. خلال هذه الفترة بدأت الغزوات المنغولية لبلاد الشام، فكان أغلب السكان من المسلمين، أما الحكام فكانوا من خارج الإسلام وشريعتهم هي “الياسا” التي وضعها جانكيزخان .هذا الأمر خلق مشكلة كبيرة. ففقهاء الإسلام كانوا يقسمون إلى دار إسلام ودار كفر، فأتى ابن تيمية وأفتى في القضية، وظهر مفهوم جديد عُرف بالدار المُركّبة، أي يسكنها المسلمون، وتُحكم بقانون الكفار. أما بالنسبة للمسلمين الذين لم يهاجروا هذه الدار فقال ابن تيميّة: “… يُعامل المسلم فيها بما يستحقه، ويُقاتل الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه”. بسبب هذه الفتوى وفتاوى أُخرى، بدأت حملات المماليك التي سار معها ابن تيمية لتأديب بلاد الجرد وكسروان في جبل لبنان، ولتأديب الرافضة وأبناء وادي التيم في ثلاث حملات متتابعة، كان آخرها الحملة على كسروان عام 1305 التي أدّت الى تدمير كسروان نهائيًا ولجوء الموارنة إلى معاقلهم المتبقية في المنيطرة وجبة بشري وإهدن.

لكن ما علاقة “فتوى ماردين” التي صدرت منذ حوالى 700 عام بقيادة العالم السنّي اليوم، وتأثيرها على مجرى الأحداث في العالم العربي؟

منذ أصدر محمد عبد السلام فرج كتابه “الفريضة الغائبة” وقاد تنظيم الجهاد، استند إلى “فتوى ماردين” لتكفير واغتيال الرئيس المصري أنور السادات، كذلك فعل جهيمان العتيبي، ومن بعده أسامة بن لادن، للإطاحة بنظام حكم آل سعود. فالتنظيمات السلفية الجهادية تعتبر الدول الإسلامية الحالية بحكم ماردين في عهد ابن تيمية، أي إنّ سكانها مسلمون ولكن حكامها لا يحكمون وفق الشريعة، بل يحتكمون للشريعة في ما يتعلق بالأحوال الشخصية فقط، وفي غير ذلك لديهم “الياسا” العصرية التي أخذوها من دول الانتداب، لذلك وجب مقاتلتهم عملًا بفتوى ابن تيمية.

لكن، مع تنامي السلفية الجهادية، تداعى عدد من العلماء المسلمين لدرس الفتوى، وقصدوا المكتبة الظاهرية في دمشق، حيث النسخة الأصلية المكتوبة بخط يد ابن تيمية، وقد اكتُشف أنّه مكتوب: “…يُعامل المسلم فيها بما يستحقه، ويُعامل الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه”، خطأ مطبعي أسهم ولا يزال يسهم في زهق آلاف الأرواح المسلمة وغير المسلمة.

عام 2010 عُقد مؤتمر في ماردين نفسها، وتداعى المجتمعون لتجاوز التصنيف التقليدي في ظلّ أنظمة مدنية ومعاهدات سلام بين الدول، واقترحوا استعمال دار العهد والموادعة.

الصراع السعودي – التركي
بعد معركتي مرج دابق (سوريا) والريدانية (مصر)، تكرّس حكم العثمانيين على بلاد المسلمين، فقدّم شريف مكة مفاتيح الحرمين الشريفين إلى السلطان سليم، اعترافًا بخضوع الأراضي المقدّسة الإسلامية للعثمانيين، وتنازل في الوقت عينه آخر الخلفاء العباسيين محمد الثالث المتوكل على الله، عن الخلافة لسلطان آل عثمان، فأصبح كل سلطان منذ ذلك التاريخ خليفة للمسلمين، وبات يحمل لقب “أمير المؤمنين”. بقي الأمر على ما هو عليه حتى القرن الثامن عشر، حين شرع محمد عبد الوهاب، وهو عالم دين حنبلي من نجد، بدعوة المسلمين للتخلّص من البدع والخرافات التي انتشرت مع العثمانيين، وتحالف مع أمير الدرعية محمد بن سعود مؤسس الدولة السعودية الأولى، فكانت الدولة الوهابية في مواجهة الدولة العثمانية، فاستشعرت السلطنة العثمانية الخطر، فأسقطت الدولة السعودية الأولى سنة 1818 عسكريًا مباشرة بواسطة محمد علي باشا، وأسقطت بعدها الدولة السعودية الثانية، عبر دعم آل الرّشيد منافسي آل سعود.

استمر الخلاف التركي – السعودي، خلافًا صوفيّاً- وهابيّا إلى حين وصول رجب طيب أردوغان، الذي تحول تدريجًا من العلمانية إلى الإسلام الليبيرالي المعتدل، وصولًا لحلم الخليفة الشرعي للعثمانيين أجداده. فلم يبقَ من الصوفية غير شعار الاصابع الأربعة (شعار رابعة العدوية)، الذي بدأ باستبداله بشعار الذئب الرمادي (شعار القومية التركية الجديد)، فقضى على فتح الله غولن ( الصوفي على طريقته)، وبدأ بتطهير الجيش وأصدر قوانين دينية… وبعد أن انتهى من أسلمة الداخل التركي، بدأ عملية التوسع من جديد، فباشر بالبحث عن جلال الدين الأفغاني آخر، يتوسع فيه عربيًا، وبدأ بتقوية العصب التركي من جديد ليتوسع طورانيًا.

فبعد خروج السعودية من الوحول السورية والعراقية، دخلت تركيا داعمة وراعية للمجموعات الجهادية السلفية، ووجدت في منظّريها، جمالًا أفغانياً جديدًا ، يُكفّر الأنظمة العربية ويسعى الى قلب النظام فيها. فدخلت الى الشمال السوري، حيث أنشأت قواعد، لا سيما في دابق، ودخلت على الخط الليبي مزاحمة لمصر، ربما لإعادة عقارب الزمن الى الوراء، وحصول أردوغان على لقب “أمير المؤمنين” من جديد.

هذا التزاحم عاد واشتدّ نتيجة أمور إضافية، مثل مقتل الصحافي جمال خاشقجي المتحدر من عائلة تركيّة، وصولًا إلى ما نشهده اليوم في اليمن ولبنان، الدولتان اللتان كانتا، حتى الأمس القريب، ساحتي نفوذ منفرد للسعودية، أقلّه في أوساط “أهل السنّة والجماعة” فيهما… فالتسلّل التركي إلى اليمن بدأ تحت مظلة التجمع اليمني للإصلاح (إخوان اليمن المسلمين).

أما في لبنان، فتُشير التقارير، إلى أنَّ أكثر من 10 آلاف لبناني استفادوا من مِنَح دراسية في تركيا على مدى 15 عامًا، وتعلّم معظمهم اللغة التركية، وهم على اتصال دائم ببرامج الدعم التركية في شمال لبنان، من خلال وكالة التعاون والتنسيق التركية (تيكا)، التي تساعد اللبنانيين في قضاء طرابلس وعكار. من جهة أخرى تحتضن تركيا بعض الشخصيات السلفية في شمال لبنان، إلى جانب دعمها المتواصل للفرع اللبناني لجماعة الإخوان المسلمين. كذلك بدأت السفارة التركية في بيروت بالبحث عن لبنانيين من أصول تركية أو تركمانية لحثهم على الحصول على الجنسية التركية، على أساس أنّهم كانوا تاريخيًا “مواطنين في الدولة العثمانية”.

وعلاوةً على ذلك، دأبت مراكز الأبحاث التركية على نشر دراسات حول خطر الوهابية وفشل المملكة في إدارة أزمات اليمن وليبيا، ونشرها لخرائط ودراسات تُظهر المملكة مقسّمة بعد عقد من الزمن على أساس قبلي- مذهبي.

ظاهرة مقاومة المدّ
بهدف استكمال سيطرتها على المدى الحيوي التركي، بدأت تركيا بعملية إبادة جديدة للأرمن في ارتساخ، من خلال دعمها للأذريين، ومدّهم بمرتزقة سلفية جهادية من الدول العربيّة. وبذلك تكون تركيا قد نقلت الصراع إلى الحديقة الخلفية لروسيا، بعد أن كانت المواجهة في سوريا. وأتت مسألة مقتل الأستاذ الفرنسي صامويل باتي، وضلوع جماعة الشيخ ياسين التابعة لـ”حماس” فيها، لتعقّد الأمور أكثر.

بدأت السعودية باستعادة موقعها تدريجًا، بعد أن أحكم السُّديريون قبضتهم على الحكم، وبدأت بالعودة تدريجًا إلى لبنان واليمن. ففي لبنان، بدأت بتعويم سعد الحريري مجددًا، لقطع الطريق على تركيا. أما مصر من جهتها، فقد أنشأت منتدى غاز شرق المتوسط للغاية نفسها. وفرنسا بدورها بدأت بعملية تطهير بلادها من السلفية الجهادية، في حين اتفق الرئيس الروسي مع نظيره الفرنسي على ضرورة تكثيف الجهود لمحاربة الأرهاب.

على ما يبدو، إنّ المسألة الشرقية اليوم والرجل المريض، هو الإسلام الثوري بشقيّه المدعومَين من إيران وتركيا، حيث يبدو أنَّ المعركة سوف تكون ضدّ هذا الحلف الجديد. فهل سنشهد دولًا مذهبية، أم دولًا إتنية؟

نقطة أخيرة وجب التطرق إليها، هي حلف جديد بين الأردن ومصر والعراق. فصحيح أنّ الأشراف القتاديين والوا العثمانيين لفترة طويلة، غير أنَّ ثورة الشريف حسين كانت السبب في موت الرجل المريض… فهل سيشكّل هذا الحلف خطًا مواجهًا للهلال الشيعي؟ أم أنّ عميد أهل البيت وشريف مكّة يتحضّر لدور مستقبلي ما لقيادة العالم السنّي؟