مقابلة من موقع أساس ميديا مع د. منى فيّاض: الثورة تحتاج لمواجهة الحزب وللتنظيم

98

مقابلة من موقع أساس ميديا مع د. منى فيّاض: الثورة تحتاج لمواجهة الحزب وللتنظيم
هشام عليوان/أساس ميديا/18 تشرين الاول/2020

منى فياض اسم علم على التمرّد والثورة قبل زمن طويل من ثورة تشرين. حائزة على دكتوراه في علم النفس من جامعة باريس الخامسة، ومن الأعضاء المؤسسين في “حركة التجدّد الديموقراطي” برئاسة النائب الراحل نسيب لحود، وانتخبت في تموز الماضي نائباً لرئيس الحركة. من “فخ الجسد” و”أن نتعامل مع العنف بيننا” و”أقنعة الثقافة العربية حول القيم وازدواجيتها وانعكاسها على الأسرة وعلى المرأة” و”الطفل والتربية المدرسية” و”الطفل المتخلّف عقلياً” إلى “معنى أن تكون لبنانياً” و”السجن مجتمع بَرّي”، مسار طويل من الإنتاج الأكاديمي والفكر السياسي. هي امرأة لا تعرف الخوف ولا الحذر. ارتدت الحجاب كما تقول عام 1986 تأثراً بمشهد المرأة الجنوبية التي اعتلت الدبابة الإسرائيلية في زمن المقاومة، وخلعته بعد أشهر قليلة لأنه يعيق السمع بحسب تعبيرها.
“أساس” فتح أوراق الثورة مع منى فياض الناشطة الحقوقية والثائرة على الواقع المفروض سياسياً.

بعد مرور عام على ثورة 17 تشرين الأول، لم يخرج الثوار بعد من حالة التشرذم في الخطاب والهيكيلية التنظيمية، ما هو السبب؟
ليس من الضروري أن يكون الخطاب موحّداً. لكنّ تشرذم الثوار وعدم قدرتهم على التوحّد، يعود إلى الممارسات الطويلة لنظام الوصاية وأزلامه (منذ وزير العمل السابق عبد الله الأمين) بضرب المؤسسات النقابية. نلاحظ في دول الربيع العربي، أنّ الثورة التي نجحت نسبياً هي في تونس لأنه يوجد فيها اتحاد نقابات العمل (الاتحاد العام التونسي للشغل) الذي يعتبر من الاتحادات التي تمارس عملها، وهي من أطّرت الثورة. كان هناك من يتكلّم باسم العمال، والعمال لأنهم منظّمون يتأثرون بما يحصل على الأرض. وكلّ ذلك يتمّ بنقاشات. الأمر نفسه في السودان.
العمل السياسي تعرّض لضربة الأحزاب التي تحوّلت إلى ملحق بحركات فاشية كبيرة. وبناء عليه، من أين سنحصل على أشخاص منظّمين للعمل على الأرض؟ هذا عائق كبير جداً
أما في لبنان، فقضوا على النقابات بشكل سريع، كما حصل في سوريا خلال الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن الماضي. كان للاتحاد العمالي في السابق مبادرات مهمة جداً. وبفضله، حصلنا على الضمان الاجتماعي، أي كانت الحركة العمالية كبيرة جداً. وكانت تستطيع الضغط والحصول على مكاسب بالإضافة الى الحركة الطلابية، ورابطة الأساتذة التي أدّت دوراً مهمّاً في الضغط والمطالبة.
كان هناك تأطير للحركة الطلابية، للعمال، للمؤسسات. كلّ هذه المؤسسات استهدفت من خلال الاغتيالات. هناك فوق الـ 270 عملية اغتيال في لبنان في التسعينيات. عندما شعرت السلطة أنها لن تستطيع ضبط الحركة، وجدت مخرجاً آخر، فاتجهت إلى خلق اتحادات وهمية. واليوم لدينا 600 نقابة.
أما الاتحاد الطلابي، فتعرّض لنكسة عبر إلحاقه بالأحزاب التي تبيّن فيما بعد أنها تسلّطية دكتاتورية سواء أكانت من حركة أمل أو حزب الله أو الشيوعيين.

لكن كثيراً من ثوار تشرين كانوا يتبعون أحزاباً وزعماء وتخلّوا عنها، لماذا لم يجلبوا معهم تجربتهم الحزبية التنظيمية إلى الثورة؟
في لبنان لا يوجد تجربة أحزاب. هذه الأحزاب الموجودة هي أحزاب طائفة أو عائلة، وهذا عائق اساسي (مثال على ذلك سامي الجميل. تبقى النظرة إليه باعتبار أنه ابن عائلة الجميل، ولا يقبل الشعب التحاقه بالتحرّكات الجديدة لأنه بنظرهم من تاريخ وتراث عائلة). ينقصنا كادرات للتنظيم تساعد الناس على أن تجتمع تحت قيادات وتبلور مطالبها. من الممكن أن يوجد عدة اتحادات، ولكن بالنهاية مطالبها واحدة.
والعمل السياسي تعرّض لضربة الأحزاب التي تحوّلت إلى ملحق بحركات فاشية كبيرة. وبناء عليه، من أين سنحصل على أشخاص منظّمين للعمل على الأرض؟ هذا عائق كبير جداً.
ثم إنّ ساحة الشهداء مع البرلمان تحوّلت لمكان مجابهة، وعدّتهم حاضرة. فكلما نزل الناس السلميون للمشاركة، يرسلون إليهم من الخندق الغميق، وبتنا نعرفهم من وجوههم. وهذا سبب أساسي لعدم مشاركة الناس بسبب العنف الذي يخلقونه بشكل متعمّد. ومن يمارس الشغب وتكسير أرزاق الناس، هم مندسّون ومدفوع أجرهم من أجل تخويف الناس. ويجب معالجة هذه القصة على مستوى الجيش والأجهزة.
إلى ذلك، لوحظ تضخم “الأنا” لدى المشاركين في الثورة، فلا أحد قادراً على التأثير في الآخرين، وكلّ واحد منهم يتصرّف وكأنه قائد وحده، ما يمنع ظهور قيادة مسموعة حتى هذه اللحظة، ويحبط أيّ محاولة لتنظيم الثورة.
هم يشعرون في الساحات أنّه عليهم التعاون فيما بينهم. ولكن في لبنان تظهر الفردية أكثر من أيّ دولة عربية. وفي العموم، تشبه الشخصية العربية “العنقود”، إذ لا يوجد تراتبية بين حبّات العنقود. وإذا لم نعثر على قائد، فسنواجه مشكلة. إنّ كلّ ثائر يعتبر نفسه قائداً. ونلاحظ من خلال متابعة مجموعات الواتساب أنهم غير منظّمين. كلّ واحد منهم موجود في عدة مجموعات. وهناك اعتبار لأنفسهم أكثر من اللازم. مثلاً، يريدون اقتراح حكومة، ويبدأون بطرح أسماء، وتبدأ حملة الاعتراضات من داخل المجوعة، واختلافات على الأسماء. هذه من الأمور البنيوية التي تمنع التنظيم، وتشكّل جانباً من الإعاقات في تجربة لبنان بشكل خاص، وبسبب خضوع لبنان سابقاً للوصاية السورية، ونظراً لبنية الشخصية العربية.
عن الجانب الإيجابي للثورة، فقد حقّقت الكثير من الأمور، أهمها ممارستها الضغط، وفعالية الرقابة والمحاسبة، مع وجود محامين ناشطين نجحوا بالضغط على السلطة وعلى الطبقة السياسية التي يمكننا القول إنها “تضبضبت”، بمعنى أننا ارتحنا من مواكبهم ومن ظهورهم الإعلامي الفائض
أما الأحزاب الموجودة والفاعلة، فهي أحزاب الممانعة. هذه الاحزاب كان قسم منها يريد تغيير النظام، وقسم آخر يريد محاربة الفساد، ومنهم من يرى مشكلته مع رياض سلامة (حاكم المصرف المركزي). هم يرونها بتفاصيل، وليس بأساس. عند نزول هذه الأحزاب إلى الطرقات لرفع مطالبها، سرعان ما وجدناها انكفأت بسبب أنّ السلطة العليا التي يتبعون لها (أي حزب الله) ليست موافقة على هذه الحركة أو المطالب. فتحوّلت مشاركتهم استفزازية مع حرق الخيم. أين هي الآن هذه المجموعات؟

ما هي النواحي الإيجابية التي تحقّقت من خلال الثورة؟
أما عن الجانب الإيجابي للثورة، فقد حقّقت الكثير من الأمور، أهمها ممارستها الضغط، وفعالية الرقابة والمحاسبة، مع وجود محامين ناشطين نجحوا بالضغط على السلطة وعلى الطبقة السياسية التي يمكننا القول إنها “تضبضبت”، بمعنى أننا ارتحنا من مواكبهم ومن ظهورهم الإعلامي الفائض.
كما بدأت الثورة بتغيبر القيم الذهنية. الثورة تخلق وعياً لا عودة عنه إلى الوراء، فالزعيم اليوم لم يعد مقبولاً بالنسبة إليهم، ولبنان يحتاج دولة. إنّ حزب الله يشكّل عنصر تخويف للبنانيين، ولا يتجرّأ أحد، فيقول في وجهه إنه المانع الأساسي لقيام الدولة حتى نستطيع استعادة دولتنا وسيادتنا وأموالنا المنهوبة والمهرّبة إلى سوريا. النفط المهرّب يكلّفنا مليارات، وكلّ هذا يحصل تحت رعاية حزب الله الذي يحكم البلد بالسلاح. طالما أنّ لا أحد يتجرّأ على الاعتراض سوف يبقى الوضع مثلما هو.
يقال كثيراً باستهجان، كيف تقوم ثورة عارمة بسبب فرض رسم سنتات من الدولارات على مكالمات الواتساب، ولا يتحرّك الجمهور بعد انهيار الليرة وارتفاع الأسعار وحجز أموال المودعين في المصارف؟
لا يوجد شيء سخيف. فرض رسم الواتساب أتى في بدايات الأزمة الاقتصادية، وارتفاع سعر الدولار حينها إلى 1700 ليرة، وكانت فضائح الفساد واضحة للعلن. المسألة ليست مسألة واتساب، بل ترافق مع رسم السنتات على المكالمات نوع من الرقابة على الخصوصيات. والواتساب هو المتنفّس الوحيد للمواطن اللبناني لكي يعبّر، ويخفّف من الفواتير الباهظة جداً وأسعارها المرتفعة مقارنة بباقي الدول. هناك مليون سبب وسبب لتنطلق شرارة الثورة، تجتمع الأسباب، وتتكثّف في نقطة معيّنة.
كانت ثورة تشرين من أجمل الثورات، ووصلنا إلى مرحلة كان سيقع فيها دم بعد هتافات (شيعة شيعة) والاستفزازات التي حصلت. ولكننا لسنا غوغائيين، فيمكن استدراجنا. الشعوب مسالمة تريد الحصول على مطالبها، لذلك استسلم الناس للحكومة الجديدة برئاسة حسان دياب بانتظار ماذا تفعل لهم. استطاعوا الضحك على عقول الناس، وبدات أزمة كورونا. تراجعت الناس تدريجياً عن النزول إلى الشوارع لمصلحة الطبقة السياسية. وللتذكير، ليس فقط الواتساب هو بداية انطلاق الثورة، كانت هناك الحرائق التي أكلت الاخضر واليابس دون وجود معدّات ولا طائرات خاصة لإطفاء الحرائق.

انكفاء الناس عن التظاهر بعد انتشار الفقر يؤكد مقولة أنّ الثورات تقوم بها الطبقة الوسطى؟
اليوم الوضع متردٍّ بسبب الأزمة الاقتصادية، وكورونا. والخيار أمام العاطل عن العمل، هو بين التظاهر أو إيجاد طعام لأولاده. الأولوية طبعاً للعائلة والبيت. الثورة بحاجة لأفكار، لتفاعل الناس معها. وليست الطبقة الوسطى فقط من تخلق الثورة. الثورات في العالم الآن ليست كلها عنفية، بل اصبحت ملوّنة.
من أدبيات الثورات الراهنة أن تكون بلا قيادات، لكن غياب القيادة يؤدي إلى تشتتها وفوضويتها..
الثورات من هونغ كونغ إلى ايران، فإلى أميركا اللاتينية وفرنسا، فيها خط جامع، إذ لا وجود للقيادات الثورية. التغيير سيحصل، ولكن لا نعلم كيف، ولكنه سيحصل.

هل شعار “كلن يعني كلن” مناسب، لا سيما أنّ أحزاب الطوائف في لبنان تسيطر على كلّ مفاصل الحياة، كيف يستطيع الثوار مواجهة كلّ المنظومة المعقّدة والمتشابكة والمتحالفة فيما بينها؟
المشكلة في لبنان أنّ الطائف لم يُنفّذ، ودستورنا منذ التسعينيات لليوم يخرق يومياً. وجرى خلق طائف مصطنع ومزّيف، باسمه حكمتنا السلطة، وتحت عنوان الطائف. برأيي، يجب أن يحصل نوعان من الاحتجاج، احتجاج تحت عنوان سلطة الممانعة، وآخر يجب أن يكون تحت عناوين سيادية. إنّ القوات اللبنانية جزء من النظام. أما حزب الكتائب فقصته مختلفة. يجدون ألف وسيلة وغطاء لتبرير تحالفهم مع العهد والأحزاب الأخرى. حان وقت اتخاذ الخيار المناسب. هم يطالبون عون اليوم بعقد تسوية وتهدئة في السنوات المتبقية من العهد.

ما هو أفق الثورة برأيك؟
لا أرى أفقاً لهذه المجموعات الثائرة، ما لم تتوحّد وتتنظم وتشارك تحت شعار واحد هو” لا لسلاح حزب الله. نعم لترسيم الحدود. نعم للسيادة. نعم لتطبيق الطائف. نعم لاسترجاع النظام السياسي الذي تمّ خطفه. علينا استرجاع دولتنا. كيف نسترجعها بدون نزع سلاح الحزب الذي يحكم البلد. لا يوجد قضاء مستقل، ولا جيش نستطيع الاعتماد عليه. لا بدّ من أن يجتمع الجميع ويتجرأون لرفع الصوت بوجه حزب الله الذي عندما يرى أنّ الجميع يطالب بالمطلب نفسه، فسيضطر إلى سماعهم بالنهاية. المجتمع الدولي مع مطلب نزع السلاح.

هل ترين المخرج بانتخابات نيابية جديدة؟
باعتقادي أنه ضمن القانون الانتخابي الحالي، إذا كان هناك رقابة ومساواة، وإذا توفرت شروط الانتخاب، فمن الممكن ان يحصل التغيير. ولكن من يضمن لنا في الجنوب والبقاع مثلاً أن تتوفّر هذه الشروط. أؤكد أنّ أيّ انتخابات بوجود السلاح، لن يحصل التغيير.

ما هو تقييمك للمبادرة الفرنسية؟
المبادرة الفرنسية بالنسبة لي حملت أسباب فشلها (استبعاد السلاح غير الشرعي، وتجاهل القررات الدولية…). ومع الشكر لماكرون الذي طمأن الشعب، وأعطاهم الأمل، وأنه سيبقى إلى جانبهم، انتظرنا شهراً، شهرين. “بردت” المبادرة، والناس اليوم لا تلبث أن تخرج من كارثة حتى تدخل بأخرى. كأنّ ماكرون برّد الثورة قبل انفجارها بقوة أكبر عقب انفجار المرفأ.

ما هو الحلّ؟
الحلّ هو خروج الجهة الأخرى من الخوف للذهاب إلى المواجهة، ليس بالضروري الخروج مقابل سلاح. مثلاً إذا انسحب عون، تتغيّر كلّ الموازين. تضحية المرفأ لو قدّمناها بلحظة المواجهة الحقيقية بسبب الفساد وهيمنة حزب الله على المرفأ، لو حصل هذا العنف مع حزب الله، لكان العنف أقل. ثورة 17 تشرين لم تنتهِ، والمسار طويل.