كتاب الكولونيل شربل بركات “مداميك”/الفصل الأول..الحلقة الثالثة

176

كتاب الكولونيل شربل بركات “مداميك”/الفصل الأول..الحلقة الثالثة
17 تشرين الأول/2020
تحرك الصبي الذي كان ينام بحضن أمه بقرب سعيد قابضا على قنينة “الصحة”، ثم فتح عينيه وحاول أن يشرب، وكانت أمه لا تزال نائمة. فدلق الماء على ثيابه ووقع شيء منه على سعيد الذي استيقظ مرتبكا. فاستفاقت الأم مسرعة وصفقت ابنها على يده وأخذت منه القنينة وأعتذرت من سعيد، وأفاق أخاه الصغير مزعورا وبدأ بالبكاء. كانت الأم “معجوقة”، فهي تريد أن تسكت الطفل لأن الكثيرين لا يزالون نياما، وبنفس الوقت تفتش عن خرقة نظيفة بين حاجياتها لتنشف الماء الذي أوقعه إبنها محاولة الإعتذار من سعيد. وكان هذا قد استيقظ ومسح الماء الذي أصابه، ولم يكن قد تأثر إلى هذا الحد، ولما نهض وجلس أدرك أن الوقت قد حان فبعد قليل تشتد حرارة الشمس، لذا حاول افهام السيدة أن الوضع ليس بالخطير وألا يجب أن تشعر بالحرج، فالمسكين لم يقصد أن يسكب الماء عليه، وقد كان خيرا ما فعل “لأنه حان وقت نهوضنا جميعا”. ثم استدار يبحث عن حقيبته فتنبه إلى أن النائم بقربه ليس صديقه شريف، فتطلع مفتشا ولما لم يجده تناول حقيبته وأبتسم للطفل الذي كان توقف عن البكاء، ثم فتحها ومد يده ليخرج لوحا من البسكوت المغطى بالشوكولا قسم قطعة منه وناولها للطفل الذي كان يرقبه وهو لا يزال عابس الوجه. تردد الولد قبل أن يأخذ القطعة. فتنبه سعيد إلى أن شقيقه رمقه بشيء من الحسد. فقسم قطعة ثانية وأعطاها للصغير، ثم جلس وبدأ يقضم ما تبقى له من اللوح، فقالت الأم لولدها:
– روح قول مرسي لعمو..
فتقدم الصبي الكبير من سعيد وشكره…
فاستدار سعيد وحمله وقبله وأجلسه على ركبته وبدأ يشرح له عن البحر والجبال المواجهة ويسأله عن رحلته وأحواله… وهكذا صار لسعيد صديق صغير وبدا كأن الطفل أستأنس بالحديث فكان كلما سكت سعيد يسأله عن شيء جديد في الباخرة أو الركاب وما إلى ذلك.
حمي وطيس الشمس بعد فترة وكانت تلك السيدة تلف “سندويشات” للأولاد وتعطيهم كلا بدوره “عروسة” صغيرة بال”بيكون” مع قطعة خيار. رفض صديق سعيد أن يتناول “عروسه”، ما لم يأكل “عمو” واحدة. ولم يستطع سعيد أن يرفض طلبه فاضطر أن يقبل “السندويش” الذي قدمته له السيدة. وعندما التفت ليأخذه منها نظر إليها لأول مرة عن قرب. كانت تخفي تحت ذلك الوجه الرصين ملامح جذابة تختلط بتقاسيم متناسقة لم تفسد السنين نضارتها ولا المساحيق، وفي لحظ عينيها سحر تستره مسحة الحزن البادية عليها في كل شيء، وبعض الخجل القروي الذي لم يفارقها بعد. وعندما التقى نظره بنظرها أحس بارتعاش أضطرهما، على الفور، إلى التحول كل منهما باتجاه مختلف.
أعاد سعيد ترتيب الجلوس، وكان ذلك الشاب الذي نام بقربه قد ترك مكانه لينزل إلى الممر حيث وضع حقيبته ووقف مع أحد رفاقه يتبادلان الحديث. ربط سعيد طرف الشادر بالزاوية العليا للصندوق الذي استندت عليه “ام حنا” وأوقف حقيبة شريف على جنبها وعلق بها الطرف الآخر للشادر فأصبح عنده قليل من الظل أجلس تحته الطفلين واستلقى بقربهما. أما الأم فقد بقي لها من الجهة الخلفية شيء من الظل تقاسمته مع “ام حنا” التي قربت رأسها قليلا. واكتفى “بوحنا” يربط خرقة من صرة “ام حنا” حول رأسه على طريقة “الحطة” التي كان يستعملها في الحقل أثناء العمل.
لم يلاحظ سعيد أن أحدا يرافق تلك السيدة، ولذا حاول أن يستفهم عن الموضوع من الحديث مع الصغير، فسأله:
– أنا اسمي سعيد وانت شو إسمك؟
– أنا روني
– وخيك شو اسمو؟
– اسمو؟… اسمو “جو”.
– وشو اسم البابا؟
سكت الطفل ولم يجاوب، ثم اخذ يلعب بشريط حذائه حتى انحل وقال لسعيد:
– بتعرف تربطو؟
– أكيد.
وما كان من سعيد إلا أن ربط الحذاء وكرر عليه السؤال:
– اي… وشو قلتلي اسم البابا؟..
فالتفت الصبي إلى أمه ثم تملص من سعيد وزحف باتجاهها، فاستدار سعيد ليراه وقد عانق أمه التي ظهرت دمعة في مقلتيها، ولكنها شعرت بأنه ينظر إليها ففتحت حقيبتها وأخذت منديلا مسحت به دمعتها وقالت ل”روني”:
– خليك شوي من عمو.
وحملت “جو” وحاولت النزول من الجهة الأخرى بين المسافرين دون أن تنظر باتجاه سعيد حتى وصلت إلى الممر وتوجهت صوب المطبخ. أعاد سعيد “روني” وأجلسه بقربه. وغير الحديث، إذ حاول أن يريه السمكة الطائرة التي مرت أمامهم في تلك اللحظة، وكانت تبدو كالعصفور وقد اجتازت مسافة تفوق طول الباخرة وعادت فغاصت بالبحر. كان سعيد يحدّث صديقه الصغير عن السمكة وكيف تطير فوق الماء وأن لها بالفعل جناحين يساعدانها بأن تعلو فوق سطح الماء ما لا يستطيعه أولئك الأعداء فتهرب منهم وقد أنعم الله عليها بهذه الميزة للدفاع عن نفسها. فسأل “روني”:
– وليش الله ما أعطى البابا جناح تيدافع عن حالو؟
فأجاب سعيد:
– أعطاه غير شي.
– بس لو أعطاه جناح كان قدر يهرب وما كانوا صابو.
– ليش وين البابا هلق؟
– البابا بالسما… بس الماما… لما نحكي عنو بتصير تبكي.
– انت بتحبو للبابا؟
– أي بحبو… بس ما بعرفو… صارلو زمان ما اجا لعنا.
– بتعرف شو اسمو؟
– معلوم… اسمو طوني.
– وين ساكنين انتو؟
– بسن الفيل.
– وين رايحين هلق؟
– عند جدو.
– وين ساكن جدو؟
– جدو والتيتا ساكنين برميش.
– برميش؟.. أنا من رميش، شو اسمو جدو؟
– جدو… اسمو… اسمو نمر.
فتذكر سعيد فورا “نمر المعتوق” وكان جاره فيما مضى وقد كان له بالفعل صبي اسمه “طوني” التحق بالجيش اللبناني في 1982 بعد أن فتحت الطرق وأصبح بالامكان الوصول إلى بيروت وقد شكل إلى اللواء الرابع وخدم في الشحار بعد أن تسلمه الجيش من “القوات” على أثر معارك الجبل. وكان “طوني” من عناصر الفصيلة التي فقدت في معركة الشحار يوم حدثت الخيانة الثانية ل “زكريه”.
كان الملازم أول “هشام” قائد السرية التي تؤمن حماية تلة “البنيه”. وقد أخبره بعد سقوط الشحار كيف أنه كان بالامكان الصمود ولم يكن هناك داع للانسحاب. ولكن ما حدث أربكهم جميعا. فقد تلقوا أمرا بالانسحاب، ثم قطع الاتصال على جميع الموجات الأساسية والاحتياطية. وكأن جهازا قويا للغاية قد ضربها كلها في نفس الوقت. وقيل يومها أن ذلك يمكن أن يكون من عمل الأمريكيين أو الاسرائيليين. فقد كان اسطول القوى المتعددة الجنسيات رابضا قبالة بيروت. وكان الاسرائيليون لا يزالون في منطقة الأولي. ولأن تكنولوجيا متطورة كهذه لا يمكن أن يملكها السوريون، إلا إذا كان الروس قد أمدوهم بها. وعندما عاد إلى الخلف للاستفسار عن الوضع من قيادة الكتيبة. وجد أن قائدها قد وقع بالأسر وأن بعض القطع قد انسحبت بالفعل. عندها ازداد القصف على المرتفع وحوله، ما أخر التحاقه بعناصره. ولما حاول العودة، فوجيء بأن المجموعة التي كان يجب أن تؤمن ميمنتهم قد قامت هي بالهجوم على المرتفع، ولم يعد يستطيع الوصول إلى عناصر سريته، ولم يعرف ما إذا كانوا قد انسحبوا أم لا. وحاول الاتجاه إلى مجموعة الدبابات التي كان من المفروض أن تدعمهم لكي ينجد بها العناصر إذا كانت مطوقة. فوجدها قد أصبحت بعيدة باتجاه الساحل. وهكذا بقي وحيدا واضطر إلى الالتحاق بالمجموعة في “المشرف”، سيرا على الأقدام حيث كانت قد انتهت المعركة بالانسحاب الفعلي للواء ولم يعرف مصير العسكريين التابعين لسريته والذين كانوا قد حوصروا على تلة “البنيه” وقاوموا الهجوم.
كان “طوني” بين العناصر الذين فقدوا في ذلك الهجوم ولم يستطع أهله الحصول حتى على جثته لدفنها، وهكذا فقد بقي لدى والديه أمل بعودته حيا ولم يخبروا زوجته “انجيل”، التي كانت تلد ابنها الصغير، بما حصل فظلت تنتظره مدة. كان أهله يسكنون في رميش، بينما سكن مع زوجته في سن الفيل. وكانت هي بالأصل من “معاصر الشوف” ولكنها كانت تقطن، مع شقيقها، في سن الفيل حيث تابعت تعليمها وحيث تعرف عليها طوني. فقد بقي أهلها في المعاصر، ولم يشأ والدها “ابو كميل” الانتقال إلى بيروت وترك البيت والرزق. وقد ساعده جيرانه بيت “أبو معروف”، كثيرا يوم مقتل “كمال جنبلاط”، حيث كانت وقعت مذابح في بعض الأماكن ضد المسيحيين. فبينما كان قادما من “بيت الدين”، أوقفه حاجز لل”اشتراكيين” وكانت “القيامة قائمة”، ولكن “أبو معروف” علم بالأمر فتدخل فورا لدى “العقال” وتمكن من تخليصه من الذبح. وقد كانت العلاقة حميمة دائما مع بيت “أبو معروف”، وكانت “أنجيل” ابنته تعلم أولاد “أبو معروف” قبل أن تنزل إلى بيروت، وكان هو يساعده في الأمور الزراعية ولاسيما مواضيع مكافحة الآفات. فقد تابع عدة دورات زراعية وكان يعتبر من أنجح المزارعين ولا تعصى عليه حالة. ويوم دخل الاسرائيليون إلى الشوف ودخلت “القوات” بعدهم إلى مناطق معينة، وصلت أخبار التحرشات بالدروز من قبل بعض الغرباء، وكان “أبو كميل” من بين الذين استنكروا هذه الأمور. ويوم زارهم رئيس الرهبنة، أسمعه كلاما، اعتبره البعض، قاسيا. فقد حمّل الاكليروس مسؤولية وضع حد لعدم تفاقم الأمور والسعي لدى قادة “القوات” لمنع حدوث مشاكل قد تطال عواقبها المسيحيين، ف”حتى اليوم قد استطعنا البقاء في بيوتنا”…
ولكن حتى ما قاله “أبو كميل” وغيره لم يغيّر “المقدر”، فعندما لم يبرم رئيس الجمهورية إتفاق السابع عشر من أيار مع الاسرائيليين، بالرغم من موافقة المجلس النيابي والحكومة عليه، وقعت الكارثة، فقد عاد السوريون، الذين كانوا خرجوا من بيروت والجبل وجزين مطأطئي الرأس، إلى الشوف، وراء الفلسطينيين واليساريين، وحتى بعض الدروز الاسرائيليين، وكانت الفؤوس الدرزية قد فعلت فعلها بالسكان الآمنين فتهجر أكثر من مئة ألف مسيحي غير الذين قتلوا. وهذه المرة أرسل “أبو معروف” إلى “أبو كميل” أن يرحل: فال”حمل تقيل هالمرة”. ولكن “أبو كميل” فضل الموت في بيته على ذل التهجير. فوجد بعد الهجمة وقد ضرب راسه بالفأس وذبحت زوجته بقريه… ووصلت ألأخبار إلى بيروت بعد عدة أيام من مجزرة المعاصر. وعرف “كميل” مصير والديه ولم يستطع دفنهما فيئس من هذه البلاد وسكانها ورحل إلى “بلاد الله الواسعة”. وكانت “أنجيل ” التي تزوجت من “طوني” قد بكت وحدها طويلا، وكانت حبلى ب”روني” وكان زوجها “طوني” محجوزا كبقية أفراد الجيش، وعندما استطاع العودة إلى البيت بمأذونية 72 ساعة، وجد زوجته بحالة يرثى لها. ولولا “أم ابراهيم” جارتهم من “دير الأحمر” التي تعرف مشاكل العسكريين كونها زوجة عسكري ولها ابنان أيضا في الجيش، وقد كان “طوني” يخدم من نفس الكتيبة من ابن عمها. لولا هذه الجارة لكانت “أنجيل” ماتت من حزنها ووحدتها. ومنذ تلك الحادثة و”ام ابراهيم” لا تتركها، فهي تعتبرها مثل ابنتها، وأولاد “أنجيل” ينادونها “تيتا”. ويوم جاءها خبر “طوني” لم تصدق أن الله قد يسمح بكل هذا، فما ذنب الأطفال وما ذنبها أن تتيتم وتترمل في عز شبابها؟ ومرة أخرى لولا “ام ابراهيم” لكانت أدخلت إلى “دير الصليب”.
هذه الأخبار عن “أنجيل” زوجة “طوني المعتوق” كان سمعها سعيد في رميش سابقا. فبعد استشهاد زوجها، بقيت مدة تنتظر أن تحصل على جثمانه، أو أن تدفن بعضا من رفاته دون جدوى، فلا قيادة الجيش ولا أي من المنظمات الانسانية استطاعت أن تساعد في هذا الموضوع. ثم تعصدت ولادتها ولم تخرج من البيت طيلة ستة أشهر بدأت بعدها بملاحقة قضية أوراق زوجها والمعاملات المطلوبة. وكان “أبو ابراهيم” الملم بعض الشيء بأمور المعاملات الادارية في الجيش، قد ساعدها حتى تمكنت من الحصول على المعاش ولكنه طلب منها بعض الأوراق والمستندات الواجب تحضيرها من مأمور نفوس بنت جبيل، فبعثت إلى أهل زوجها بهذا الصدد، لكن ما أرسل لم يكن المطلوب فقررت، أن تحضر شخصيا إلى رميش فيتعرف الأولاد على جدهم وستهم وتنجز المعاملات الضرورية وتمضي بعض الوقت عند بيت عمها الذين تكاد لا تعرفهم، فهم لم ينزلوا إلى بيروت إلا مرة واحدة بعد زواجهما، وهي لم تأت قط إلى رميش، فقد كان طوني كلما قرر أن يصحبها معه يطرأ ما يحول دون ذلك، فإما أن يحجز وإما أن يحدث عطل في السيارة أو مشكلة على الطريق، وفي النهاية أغلقت هذه الطريق وأصبح القدوم بالبحر حتى “الجية” هي الوسيلة الوحيدة المتوفرة إلى الجنوب. أما الآن وبعد مرور أكثر من سنتين فها إن الوصول إلى رميش أصبح يتطلب السفر بالبحر حتى الناقورة.
كل هذه الأمور دارت بفكر سعيد فلم ينتبه أن “روني”، عندما ذهبت أمه ولم يعد سعيد يكلمه، حاول النزول عن ظهر العنبر واللحاق بها، ولكنها لم تكن حيث رآها فقد صعدت إلى الجهة الخلفية حيث كان ذلك العجوز يغني وجلست هناك حاملة طفلها الصغير وقد سال الدمع على وجنتيها وسرحت في همومها ووجهها إلى البحر. لكن “روني” دخل من باب المطبخ وتطلع مفتشا فلم يجدها. فتقدم عبر غرفة الطعام وإذا به في ممشى صغير، فيه عدة ابواب. فتح أحدها، فخرج منه صوت المحركات وضجيجها مع رائحة المازوت القوية. فنظر وإذا بسلم يؤدي إلى الأسفل، فنزل وجلس على الدرجة الثانية ينظر إلى تلك القطع الكبيرة التي تدور محدثة هذا الصور.
أما شريف الذي كان لا يزال واقفا في غرفة القيادة، فقد لاحظ ارتباك سعيد وكأنه أضاع شيئا. كان يفتش بين الركاب ينظر إلى هنا وهناك، فهو لا يريد أن تعود “أنجيل” فلا تجد طفلها. لذا كان سعيد ملهوفا يبدو عليه القلق. وعندما رأه شريف يتجه باتجاه المطبخ نزل لملاقاته.
كان خوف سعيد أن يقترب الصبي من الحافة فيقع بالبحر. ومن سينتبه له؟ وماذا ستفعل تلك السيدة التي كفاها ما عانت حتى الآن من هموم؟ وازداد قلقه فلم يدخل إلى المطبخ بل دار حول العنبر إلى الممر من الجهة الثانية.
وصل شريف إلى أسفل السلم ودار باتجاه المطبخ إلا أنه راى باب غرفة المحركات مفتوحا والرائحة والصوت ينبعثان منه. فاستحسن أن يغلقه، لكنه ما أن اقترب حتى شاهد ذلك الطفل جالسا على إحدى درجات السلم. فنظر اليه وساله ماذا يفعل هنا. فأشار إلى المحركات. وكان بالفعل منظرا غير عادي. السلم يؤدي إلى ممشى صغير له حاجز من قضيبي حديد يمنعان السقوط إلى الأسفل، فالارتفاع بالغ نسبيا، وينزل سلم آخر من الجهة اليسرى إلى موقع المحرك الضخم الذي يتوسط الغرفة، في قعر السفينة تقريبا، وقد طليت أقسامه بعدة ألوان، فالأنابيب دهنت بالأصفر وبالأحمر والهيكل بالأخضر أما جدران الغرفة فكانت كلها بيضاء، وبينما صبابات المحرك ترتفع وتهبط كان المحور الخلفي يدور ناقلا الحركة إلى “الفراش” في الخارج. وكان “محسن” الميكانيكي يتنقل من مكان إلى آخر ممسكا بيد مفتاحا لشد البراغي وباليد الأخرى خرقة، يبدو أنها لمسح ما يتساقط من الزيت أو المازوت هنا وهناك.
أمسك شريف بيد الطفل وهمس في أذنه أنه لا يجوز البقاء هنا فقد يزعل “عمو” الذي يعمل في الأسفل، وخرجا معا إلى الممر المؤدي إلى المطبخ. وكان سعيد، في هذه الأثناء، قد صعد السلم الخلفي للبحث عن “روني” فالمهم أولا الخارج ليؤمن إلا يقع مكروه ثم يعود إلى الداخل حيث لا يوجد خطر الوقوع في الماء. وعندما دار خلف حجرة القيادة، رأى “أنجيل” الجالسة باتجاه البحر فناداه “جو” فالتفتت ونظرت إلى سعيد وشعرت أن شيئا ما ليس على ما يرام، فصرخت:
– وين روني؟
وقف سعيد مذهولا، كان يأمل أن يجد الصبي مع أمه، وها هي تسأله عنه، فأين هو اذا؟.. تسمر لحظة في مكانه، لم يدري ماذا يقول. لكنه استدرك إذ لا يجوز أن يفقد أعصابه ويزيد من مشاكل تلك السيدة فقال:
– هلق بحيبو
واستدار سريعا ونزل من حجرة القيادة إلى الداخل، وحاول فتح أول باب أمامه فلم يفلح، كان هذا باب غرفة البحارة، وكان مقفلا من الداخل. ثم استدار باتجاه الصالون فلم ير “روني” ولم ينتبه إلى كل الجالسين هناك وبينهم “أبو فادي” وجماعته، ولم يكلم أحدا. ثم فتح باب الحمام الوحيد في السفينة وباب غرفة العدة، وزاد قلقه وكاد ينفجر قهرا لولا أنه لحظ وهو عائد باتجاه المطبخ وكأن ولدا يخرج من الباب إلى الجسر فركض إلى الخارج.
في هذه الأثناء كانت “أنجيل” قد حملت “جو” ورجعت باتجاه السلم، فقد ساورها بعض الشك، ولكنها لم تشأ أن تفكر بالسؤ لئلا يقع الأسوأ، واستحسنت أن تعود إلى مكانها على سطح العنبر، وإذا ب”جو” ينادي:
– دادا
فبرمت وجهها لترى “روني” ممسكا بيد شريف يحاول أن يدله إلى حيث كانوا يجلسون. فوقفت “أنجيل” في أسفل السلم و”صلبت يدها على وجهها”. وكان سعيد واقفا بباب المطبخ يرسم هو الآخر اشارة الصليب ويتنفس الصعداء…

*ملاحظة/اضغط هنا لقراءة التمهيد والحلقة الأولى (طريق البحر) من كتاب الكولونيل شربل بركات “المداميك”

*ملاحظة/اضغط هنا لقراءة كتاب الكولونيل شربل بركات “مداميك”/ الفصل الأول…الحلقة الثانية