توفيق شومان/هكذا كان وزراء لبنان…ماذا سيتذكر اللبنانيون عن أغلب وزراء العقود الأخيرة: عفة اللسان؟ السُباب والشتائم؟ الأيدي النظيفة؟ الثقافة الرفيعة؟ نبش القبور؟ الحلم بوطن؟ محاولة بناء دولة؟

110

هكذا كان وزراء لبنان
توفيق شومان/فايسبوك/14 تشرين الأول/2020

*ماذا سيتذكر اللبنانيون عن أغلب وزراء العقود الأخيرة: عفة اللسان؟ السُباب والشتائم؟ الأيدي النظيفة؟ الثقافة الرفيعة؟ نبش القبور؟ الحلم بوطن؟ محاولة بناء دولة؟.

*****
قرأتُ ثلاثة كتب لجواد بولس ( 1900 ـ 1982)،هي “تاريخ شعوب الشرق الأدنى وحضاراته”، و” التحولات الكبيرة في تاريخ الشرق الأدنى منذ الإسلام “، و”الأسس الحقيقية للبنان المعاصر”، وفي الكتب الثلاثة، فضلا عن محاضرته الشهيرة ” جذور القومية اللبنانية ” على ما فيها من إشكاليات وجدالات ووجهات نظر، يقف القارىء أمام مفكر كبير سعى إلى تطويع التاريخ في سبيل قضية سياسية عامة عنوانها لبنان كما يراه وكما يريده. عن كتابه “تاريخ شعوب الشرق الأدنى وحضاراته”، كتب أحد أشهر مؤرخي العالم ارنولد توينبي (1889 ـ 1975) فقال: “يتفرد مصنف جواد بولس في تاريخ آسيا الغربية بخصائص جعلته يساهم في بيان معرفتنا مساهمة بالغة “. من أقوال جواد بولس: الإستقلال ليس كلمات … الإستقلال عمل وإمكان بقاء. جواد بولس كان وزيرا لبنانيا.

رجل آخر اسمه شارل مالك (1906ـ 1987) قد تباعد السياسة بينه وبين قارئه مساحات ومسافات، لكن الرجل فيسلوف، ففي كتبه وفي
“المقدمة” بالتحديد، وهي سيرة عقله وفكره، يقف المرء بإجلال أمام سعة ثقافته وفضائه الموسوعي، وقبل انشداد اللبنانيين إلى عصبياتهم القاتلة وتجاذبهم بين لبننة عنصرية وعروبة شوفينية، كتب شارل مالك”رؤية” في عام 1949 حول الصراع مع اسرائيل، ربما لم يسبقه إليها أحد لا في لبنان ولا في بلاد العرب، يقول شارل مالك:ـ “في كل تعارض جوهري بين المصلحة العربية والمصلحة الإسرائيلية ستؤيد أميركا المصلحة الإسرائيلية ، وأحذر كل التحذير من الإرتماء في المشاريع الإنشائية الأميركية دون تمحيص تام لها ولعلاقة اليهود بها ، .يجب أن نتعاون مع نهضات آسيا وخصوصا العالم الهندي، والخطر المباشر المحدق هو بسط النفوذ الصهيوني الإقتصادي، ان اسرائيل تريد من خلال السيطرة على العالم العربي أن ترث العهود السابقة ، فكما عُرفت المنطقة سابقا بالعهد الروماني والعهد اليوناني والعهد العربي والعهد التركي تريد اسرائيل ان تُعرف المنطقة بالعهد الإسرائيلي، وبعد خمسين سنة سيكون هناك في العالم العربي اسرائيل والولايات المتحدة “، (” تقرير في الوضع الراهن” ـ 5 ـ8ـ 1949ـ دار “النهار” ـ بيروت 2002). كأن شارل مالك تنبأ بصفقة القرن وبالنهضات الآسيوية، من أقواله:ـ شهوة التسلط لا تتسلط على الأحرار.

في عقد الأربعينيات، كان ثمة مثقف من نوع رفيع، اسمه سليم تقلا (1895ـ 1945)، وبفطنة نادرة وذكاء مشهود استطاع أن يجمع بين جبلين، الأول اسمه بشارة الخوري، والثاني اسمه رياض الصلح، جمع سليم تقلا جبلين فكان لبنان، وحين مات، ما كان يلوي على شيء، فقد مات فقيرا كما يقول بشارة الخوري في مذكراته (” جقائق لبنانية ” ـ الجزء الثاني ـ ص : 126 ـ بيروت 1961)، وقال فيه السادة الكبار: ـ ميشال شيحا: هذا رجل وطني ونزيه وطاهر، ولا أعتقد أنه طوال حياته ظلم أحدا ـ جورج نقاش : إن هذا الرجل من بين جميع خصومنا ، واحد من القلائل ، الذي يمكننا أن نكرم ذكراه ـ الياس أبو شبكة : سليم تقلا جمع بين الذكاء والمعرفة وعفة اليد. ( سليم تقلا من بناء الدولة الى معارك الإستقلال ـ إعداد فارس ساسين). من أقوال سليم تقلا : ليس المطلوب من السياسيين أن يتحدثوا مثل القبضايات.

كان لسليم تقلا شقيق اسمه فيليب تقلا (1915 – 2006)، ألقى محاضرة في “الندوة اللبنانية ” في عام 1956 قال فيها:” أزمتنا الأولى هي أزمة رجال، أزمة أولئك الذين يقودون الرأي عندنا، أولئك الذين يصنعون التاريخ في حقبة من الزمن ، فيدخل صنيعهم في تراث أمجاد الأمة ويطول مفعوله، هذه النخبة القائدة لا تنحصر في من يمارسون صناعة الحكم، بل تشمل، إلى جانب رجال الحكم، جميع الذين ينتجون في مضمار الإنتاج العقلي والروحي، وهي تضم الشعراء والفنانين والصحافيين والأدباء والعلماء، ووطننا عليه أن ينتزع إعجاب محيطه المشرقي والعربي ، وعليه أن يقدم دائما مجموعة من القيم والكفاءات ، حتى يجعل محيطه حريصا على بقائه “.
هذا كلام المفكرين
سأله مرة الزميل جورج بشير (” الديار” ـ 12ـ 7ـ 2006) عن أسباب عزوفه عن كتابة مذكراته فقال: ” لا أريد أن ألحق الأذية بأحد ، يكفي ما عاناه اللبنانيون من حرب العام 1975 “. رفض الرجل أن يتكلم حتى لا يؤلم أحدا وحتى لا يستعيد آلاما ، لا بالكلمة ولا بالذكرى. من أقواله: أن يُخطئ الإنسان فذاك شيء بشري، ولكن أن يستمر في الخطأ فذاك شيء شيطاني.

مما يستوجب قراءته في مرحلة المساعي لبناء وطن ودولة، محاضرة لفؤاد عمون بعنوان “سياسة لبنان الخارجية ـ دراسة سياسية مركزة ـ دار النشر العربية ـ بيروت 1959″، يحدد فيها ركائز ومنطلقات ودوائر السياسة الخارجية للبنان، وفي هذه المحاضرة يظهر فؤاد عمون مفكرا سياسيا ألمعيا، فيجول في لبنان الحديث من لحظة الأمير فخر الدين إلى لحظة الرئيس فؤاد شهاب، ينتقل بين التاريخ وبين الراهن برشاقة باهرة، ويتحدث عن وسائل السياسة الخارجية وأهدافها، ولبنان والأمم المتحدة ، ولبنان والقضية العربية، والتعاون الآسيوي الأفريقي، والوحدة الإقتصادية العربية  والتعاون مع الأقطار العربية وعدم الخشية من نزوع العرب الى الوحدة. من أقواله: ساهم لبنان بلغة اليونانيين بإنتاج فلسفتهم وأدبهم وعلومهم  وساهم لبنان بلغة الرومانيين بإنتاج قوانينهم التي لا تزال حاضرة في كل قوانين العالم، واستيقظ العالم العربي بأزيز الأقلام اللبنانية.

ومثيل فؤاد عمون عرف لبنان رجلا اسمه جورج حكيم وفي محاضرة له عن سياسة لبنان الخارجية في العام 1965، يقول: “إن سياسة لبنان الخارجية تتأثر بالعومل الإقتصادية، فهي تعكس بصورة عامة أفكار ومصالح الطبقة الوسطى، ومن مصلحة لبنان التوفيق بين الدول العربية لأن الوفاق العربي ضروري لتأمين الوفاق بين الطوائف اللبنانية “.
هذه رؤية واضحة وحكيمة وخاضعة للقاعدة السياسية الذهبية التي تقول إن السياسة الخارجية لأي دولة ، يجب أن تخضع لمصالح وتوازنات السياسة الداخلية. كم كان حكيما جورج حكيم. عنه يقول المفكر الفلسطيني أكرم زعيتر إنه قال حين زار المخيمات الفلسطينية في الأردن: على كل عربي وعلى كل رئيس وعلى كل ملك أن يرى ما رأينا اليوم في مخيمات اللاجئين، يا للعار… ثم ترقرقت الدموع من عيني جورج حكيم وبكى”، (يوميات أكرم زعيترـ سنوات الأزمة ـ 1967 ـ 1970 ـ المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ـ الدوحة 2019).

من طينة الكبار، شخص اسمه حميد فرنجية (1907ـ 1981)، كاد يصل إلى رئاسة الجمهورية في العام 1952، لكن ” فتى العروبة الأغر” كميل شمعون وبالتوافق مع كمال جنبلاط قطع طريق القصر عليه واستوطنه لست سنوات. في الكتب المنشورة عنه (حميد فرنجية وجمهورية الإستقلال: جورج فرشخ ـ الدار العربية للدراسات والنشر ـ بيروت 1997ـ حميد فرنجية لبنان الآخر: نبيل وزينة فرنجية ـ دار الأرز ـ بيروت 1993)، وما قيل ويقال عنه، يستقر قارؤه على قناعة كبرى بشهامته وانسانيته وثقافته الواسعة، ومن مواقفه في عام 1948:
ـ ” نستقبل في لبنان اللاجئين الفلسطينيين مهما كان عددهم ومهما طالت إقامتهم، ولا يمكن أن نحجز عنهم شيئا، ولا نتسامح بأقل امتهان يلحقهم دوننا، وما يصيبنا يصيبهم، وسنقتسم في ما بيننا وبينهم آخر لقمة من الخبز”،(ارشيف نشرة فلسطين اليوم ـ 31ـ 8 ـ 2007).
في هذا الموقف الشهم لا عنصرية ولا من يتعنصرون.
في 16ـ 2ـ 1957، نشرت جريدة “الجمهور ” البيروتية رسالة لحميد فرنجية موجهة إلى قادة سياسيين لبنانيين يقول فيها: ” إن لبنان اليوم أضحى مقرا لكل من يريد قلب الحكم في سوريا، إن وجود سوريا جمهورية مستقلة هو أمر ضروري لوجود لبنان وإن كل محاولة لتغيير وجه سوريا الحالي هي بالواقع تهديد لتغيير وجه لبنان أيضا”. هذا رجل يتكلم بعقله ولا يتبع زلات لسانه.

وفي زمن ولى ورحل، لمع في لبنان رجل اسمه فؤاد نفاع (1925ـ 2017)، كتب عنه سميرعطالله (” النهار” ـ 14ـ 4ـ 2017) فقال: خلال عهد الرئيس سليمان فرنجية، تم تسريب محاضر “اتفاق القاهرة ” إلى صحيفة “النهار”، فقامت الدنيا ولم تقعد، وسارع فؤاد نفاع الى تحمل المسؤولية، مع أن رئيس الحكومة تقي الدين الصلح هو الذي سرب محاضر الإتفاق إلى إميل خوري. بعد سنوات عدة جرى الحديث التالي بين الزميل سمير عطالله وفؤاد نفاع، سأله سمير عطا الله: ألم يحن الوقت لقول الحقيقة وتبرئة نفسك؟ فقال فؤاد نفاع: الأمانة أهم من البراءة. هذه حكمة تعلو إلى مرتبة حكم لقمان الحكيم.

أخيرا إلى آخر الشهابيين فؤاد بطرس (1917ـ 2016)، له وحوله هذه الكتب: (المذكرات: إعداد انطوان سعد ـ دار “النهار” 2009 ـ مذكرات موازية : جورج فرشخ ـ دار ” الفارابي” 2009 ـ كتابات في السياسة ـ دار ” النهار” 1997). من أقواله : من الصعب أن تطلب الدولة ولاء من لا تُشعره أنها مسؤولة عنه ـ احترام المسؤولين للقانون هو الذي يصنع هيبة الدولة ـ حين جاء فؤاد شهاب إلى رئاسة الجمهورية، كانت قاعدة العمل تقوم على التالي: من أجل توطيد أواصر الحياة الوطنية يجب أن نخلص اللبنانيين من عقدة حواجز عام 1958. يقول غسان شربل عن فؤاد بطرس في كتاب “دفاتر الرؤساء”: “جاء من القضاء ولكنه لم يتهم أحدا، ولبنان لا يُبنى بحجارة الماضي.

لنقرأ ثانية  لبنان لا يُبنى بحجارة الماضي.
ماذا سيتذكر اللبنانيون عن أغلب وزراء العقود الأخيرة: عفة اللسان؟ السُباب والشتائم؟ الأيدي النظيفة؟ الثقافة الرفيعة؟ نبش القبور؟ الحلم بوطن؟ محاولة بناء دولة؟.
عشتم وعاش لبنان