الكولونيل شربل بركات/صانعة الأطباق

123

صانعة الأطباق
الكولونيل شربل بركات/16 أيلول/2020

كانت تجلس أمام بيتها كلما مررت من هناك وفي يدها شيء من القش تحيكه بكل دقة. كان ذلك في الزمن القديم يوم كنا صغارا لا نزال نعتبر الوصول إلى تلك الجهة مغامرة كبرى. وكنت وكيروز “نغامر” أحيانا ونبتعد عن البيت إلى المنطقة “البعيدة” ما وراء بيت “جريس مرتى” حيث نتجاوز الطريق التي “ورا السطوح” ثم ننزل من أمام بيت “بطرس فاعور” الذي تظلله اشجار اللوز والتين ويقع مباشرة فوق بيت “ليا” حيث تجلس تلك المرأة العجوز والتي طالما كانت تعمل بصنع أطباق القش تلك.

والطريق “ورا السطوح” تسمى كذلك لأنها بالفعل تمر تقريبا موازية لأسطح بيوت جيراننا بيت رزق. فقد كانت العادة في بناء “البيوت الترابية” (ونسميها كذلك لأن سطوحها من التراب الأبيض الكلسي الذي يمنع تسرب الماء عندما يكون رطبا ويحدل) تقوم على استناد هذه البيوت إلى بعضها لسببين الأول أن بناء القناطر الحجرية يعتمد على ثقل السطح الذي يثبت وزنه القنطرة في مكانها. فهي تفتح صعودا، أي أنها تتحمل الأوزان ولكنها قد تنفتح في حالتين: إما باتجاه الأعلى حيث ينعدم الوزن فوقها، أو بالاتجاه الأفقي إذا لم يكن هناك ما يسندها من الجهتين. ولذا كان على الحائط الخارجي الذي يدعم صفوف القناطر أن يكون قويا مسنودا بحجارة ضخمة أو بما يسمى البغلة وهي حائط مزدوج يبنى بشكل عمودي على الحائط الخارجي مباشرة باتجاه خط القناطر فيخفف من ضغط القناطر ويمنعها أن تنفتح فينهدم العمار. أما الطريقة الثانية فهي أن تستند خطوط القناطر إلى قناطر بيت آخر اي أن يصبح خط القناطر للبيت الثاني مكملا للبيت الأول وهكذا فقد كانت بيوت جيراننا “بيت رزق” تتساند الواحد على الآخر من بيت رزق الذي يسكنه ابنه يوسف إلى بيت شكري الذي تسكنه عائلة ابنته مريم زوجة اسكندر جبران إلى بيت حنا الذي يسكنه ابنه يوسف المعروف بيوسف حنا رزق ومن ثم بيت جريس مرتى في الطرف الجنوبي. وقد بنيت هذه البيوت في نفس الوقت متساندة على بعضها لتشكل خطا كاملا. وأمام كل واحد منها دارا واسعة وبئر.

وينفتح أفقها على الجهة الغربية فوق جنينة جدي يوسف التي تشرف على خط سطوح بيوت آخر تتساند على بعضها، أولها بيت عمي ابراهيم جد كيروز وآخرها بيت العبد، وهي ايضا توازي سطوحها الجنينة من الخلف بينما ارض الدار أمامها يوازي أسطح بيت متى واللوس والجلاد. وهكذا نزولا إلى خط بيوت العتايمي أي نمر مارون وجيرانه. وكأن هذه المنازل المتدرجة بنيت على هذا الشكل لتعكس الانحدار الذي تقع عليه البلدة في هذه الجهة. أما السبب الثاني لتلاصق البيوت فهو لمنع السرقة فقد كانت تفتح بينها “الطاقة السرية” التي تعمل كالهاتف للاعلان عن وجود من ينقب البيت من إحدى الجهات بقصد السرقة فيتجمع الجيران للمدافعة ورد المعتدي.

كانت هذه السيدة “العجوز” تجلس أمام بيتها تحيك القش بيديها بشكل يجذب النظر. وهي عندما تصنع الطبق تبدأه بعقدة اساسية ينطلق منها خطوط من قش القمح الذهبي بكل الاتجاهات وكأنه قرص الشمس. ومن ثم تحيك هذه الخطوط بمجموعات من نفس القش وبشكل دائري يجعلها تتماسك. وتعود لتجمع الخطوط الدائرية هذه مع بعضها كمجموعات صغيرة متماسكة أيضا انطلاقا من تلك الدائرة الصغرى باتجاه الخارج. وهي تعمل بشكل متواصل وبدون عناء ظاهر. كنا نلتذ أنا وكيروز أن تقف فوق على الطريق نراقب هذه السيدة وهي تعمل ونتمنى أن نقترب لكي نرى هذا الابداع الذي لم نكن نعرف أحدا يوازيه من حولنا. ولكن السيدة العجوز والتي دائما ما كان وجهها مبتسما ناعما كانت تدير نظرها أحيانا صوبنا بدون أن تتكلم وتكمل بالتركيز على عملها.

التقيتها في إحدى المرات وهي تسير على الطريق وبيدها بعض القش تحيك شيئا صغيرا لم أعرف ما هو ولا لأي شيء ينفع ولكنني تصورت يومها أن بيتها سيكون كله من القش وعلى كل حائط يعلق طبق من شكل أو نوع آخر وأن أغلب الأواني والأشياء التي تستعملها يجب أن يدخل القش بها. ولكنني لم أجروء على زيارتها في البيت للتأكد من تصوراتي. وبقيت في مخيلتي تلك السيدة الناعمة الوادعة والتي تعمل بكل جهد وبدون توقف على اكمال “لوحاتها الفنية” التي تبيعها كأطباق متعددة المقاسات والأحجام ويستعملها أغلب أهالي البلدة.

لم أنسى قط وجه “سيدة القش” هذه ولا شكلها وطريقتها بالتعامل مع جذوع القمح تلك التي بيديها تصبح لوحات فنية وأطباق جاهزة لاستعمال ربات البيوت في أعمالهن اليومية. وأنا متأكد اليوم بأنها كانت سابقا تصنع السلال والبسط من الببير، وهي صنعة مربحة بالتأكيد ولكنها توقفت مع اغلاق الحدود، لأن الببير كان يحضر من مستنقعات الحولا حيث كانت صنعة “قص الببير” وبيعه معروفة، خاصة عند أبناء بلدة بليدا التي تقع فوق التلال المشرفة على سهل الحولا وكان أغلب ابنائها يعملون في تجارة الببير تلك.