راجح الخوري/في وداع قديسة مقاتلة  …هي جوسلين خويري

357

في وداع قديسة مقاتلة  
راجح الخوري/31 تموز/2020

كان ذلك في العام ١٩٧٦، كنت قد عدت من لندن حيث أكملت اختصاصي في تعليم الصحافة، استدعاني “الباش” الرئيس بشير الجميل، وقال لي علينا ان ندفع الفرع الثاني من كلية الصحافة في الفنار الى النجاح ، عندما دخلت الى الصف لطلاب السنة الرابعة، لم أجد احداً من التلاميذ، وقبل ان أهم بالخروج وصلتا معاً جوسلين خويري وشيراز أنطوان عواد، عندما شاهدتها عرفت تماماً من تكون فقد كانت صورتها كمقاتلة كتائبية تملأ الجدران والمخيلات والأحلام عند كثيرين من الشابات والشباب .

على إمتداد العام الدراسي كانت جوسلين شيئاً من جان دارك وشيئاً من تلميذة راهبات يعتريها الخفر والحياء ويغلب عليها التهذيب والهدؤ ، لقد علّمت ٢٦ عاماً ولكنني اعرف انها كانت اكثر من علمتهم تواضعاً وحياءً و شيئاً من جان دارك كما قلت وشيئاً من زهور مريم في روابي غوسطا، كنت اعرف قصتها التي حدثت ليل ٦ ايار ١٩٧٦، حيث تصدت لهجوم في ساحة الشهداء ضد ٣٠٠ مسلح ومعها ست من رفيقاتها، تمكنّ من قتل قائد المجموعة ودحر الهجوم في ست ساعات .

منذ تلك الليلة ستتحول جوسلين الخويري ايقونة المقاومة اللبنانية، لكنها عندما دخلت الى الصف بعد يومين، كانت خلعت ثياب الميدان وحملت ثياب تلميذة تفيض بالرهبنة، كان الامر مثيراً تماماً رفضت الحديث عند تلك الليلة القتالية، صبت اهتمامها على “فن الخبر” وعلى “الإخراج الصحافي”، وكانت أكثر شغفاً وحماسة في الحصة التي كنت ادرسها بعنوان “الاعلام العربي والدعاية الصهيونية”، كانت مادة تفيض بروح وطنية ضد العدو وكلفتني شخصياً في ما بعد الخضوع ل١١ “عملية فلق” في مكتب الاتصال الاسزائيلي في ضبية .

ليس مهماً على الاطلاق، المهم هو ذلك الإنضباط الحامعي وتلك الرصانة والجدية التي جعلتني دائماً اقول ان جوسلين خويري افضل تلميذة شهدتا في ربع قرن، عندما تركت السلاح ارتدت الروح المسيحي الذي كان قد جعل منها ايقونة مقاومة عن لبنان، والذي سيجعل منها شيئاً من الإيمان الساطع وشيئاً من تقديس معنى الانسان في عمقه، وهكذا عملت عام ١٩٩٥ على بناء مجتمع اقرب الى السماء بعنوان “نعم للحياة” وأسست مركز يوحنا بولس الثاني عام ٢٠٠٠ .

من متاريس الايمان بالوطن الى متاريس التبتل لله ، وربما ليس هناك من فارق كبير ، لكنني استميح ايمانها العميق بك يا رب لأسأل : لماذا جعلت الرحلة اليك مؤلمة هكذا، ولماذا تجعل الصعود الى أحضانك كثيرة الضنك والوجع، هل لأنك ستجعل لجوسلين خويري محفة بين الملائكة الأطهار ؟

كنت اعرف معاناتها في الفترة الأخيرة، وذات يوم اتفقت مع الزميلة العزيزة فيفيان صليبا التي كانت تزودني اخبار جوسلين، ان نصعد لزيارتها، لكن لا فيفيان تحملت زيارة قاطعة كالنصل ولا انا تحملت، كنا نعرف مدى أوجاعها ومعاناتها، وكنت أتخيل معاناتها وأتذكر قصة شهداء سبسطية الذي قتلوا بوحشية عام ٣٢٠ ميلادية، في أرمينيا الصغرى، على يد الطاغية ليسينيوس بسبب تمسكهم بإيمانهم المسيحي، وجوسلين تمسكت بلبنان وبالحياة وبيسوع .

عندما احضرت صورة لشهداء سبسطية وقلت لنذهب الى جوسلين ونقدمها لها ، لم اتحمل ولا تحملت فيفيان، وها هي جوسلين ترتحل الى الرب على محفة الرجاء، لكن لها عندي دين سيحرقني تماماً عندما سأحمل تلك الصورة واضعها على مثواها وسط مناحة زهور مريم في غوسطا، واعرف تماماً ان مقاعد الصف الرابع في كلية الاعلام في الفنار تبكيها كما تبكيها البنادق وروح الرهبنة وذلك الخفر الذي لا ينسى … وليس من دمع يكفي لوداع قديسة عادت من حيث أتت .