الكولونيل شربل بركات/وجوه مشرقة من تاريخ بلدة عين إبل: إم كرم مريم ناصيف دياب

112

وجوه مشرقة من تاريخ بلدة عين إبل: إم كرم مريم ناصيف دياب
الكولونيل شربل بركات/19 حزيران/2020

كلما مررت أمام محطة بنزين الخال مسعود في وسط البلدة كانت تجلس هناك على شباك بيتها الواقع على الشارع الرئيسي تردد أحيانا أبياتا من المواويل أو بعض التنويحات. ولكنها لا تترك أحدا يمر بدون تعليق “ولو الصباح عالمعرفة”. تلك كانت “أم كرم” مريم ناصيف دياب وهي تعتبر أن الطريق أخذ من دارها. ولا يزال البئر في وسط الطريق وقد تحمّل مرور كل السيارات والبوسطات مدة أكثر من خمسين سنة إلى أن سقط بمرور إحدى الدبابات الاسرائيلية الثقيلة في حرب الليطاني سنة 1978 حيث أضطرت اللجنة المدنية إلى ملئه بالتراب وإعادة تزفيت الشارع بعد الانتهاء من رواسب الحرب تلك.

كانت ام كرم وهي شقيقة يوسف ناصيف دياب وابنة خليل ابن ناصيف بن بطرس بن ناصيف بن مخايل المكنى مخول وهو ابن خليل أصغر أولاد جريس دياب الجد الأصلي وقد دعي هذا الفرع من العائلة بيت ناصيف لتكرار اسم ناصيف المميز فيه.

وكنا ذكرنا سابقا بأن اعتماد اسم ناصيف كان محبة بالشيخ ناصيف النصار الذي جمع سكان جبل عامل ودافع عنهم من أخطار غزوات جيرانهم البدو في الجنوب حتى أنه رسم مجددا حدود لبنان الجنوبية. وكانت مريم ناصيف قد تزوجت بيوسف بولس سمعان دياب من جب الخوري بركات ابن جريس دياب الجد الأصلي. وكان “أبو كرم” اسم على مسمى وهو صاحب قطيع كبير من الماعز والغنم وقد عمر داره في طرف البلدة، يومها، وبنى فيها بئر وصونها بسور عالي وبوابة لحماية القطيع. وكان يعتبر من الأثرياء والقبضايات في البلدة. وقد رزق بولد وحيد سماه كرم وأربع بنات لميا وزكية وعفيفة ولطيفة.

وقد فقدت ام كرم زوجها ووحيدها وابنتها الكبرى لميا. وعندما مرت الطريق فقدت أيضا الدار بكاملها فاصبح باب البيت يفتح على الطريق العام مباشرة. ثم تزوجت زكية ولطيفة وكانتا من الجميلات وقد تغرّبت لطيفة وسكنت مع زوجها في حارة حريك بينما بقيت ام كرم وعفيفة في البيت بجانب الطريق. وكانت عفيفة أخت الرجال بكل معنى الكلمة لا تترك السيجارة فمها وهي ترصد كل من يمر أمام البيت لدرجة أن جماعة المكتب الثاني طلبوا منها العمل معهم. وكانت عفيفة كبيرة الجسم ثقيلة الحركة وقد تكون البدانة الزائدة أثرت على عمل القلب عندها وهو ما أسرع بغيابها لتبقى أم كرم وحيدة في البيت.

كانت عفيفة تحمل مسدسا في بعض الأحيان وتتكلم كالرجال. وكانت تحب المراجل فهي عاشت على أخبار والدها القبضاي. وبعد أن اشترى جوزيف مولدا كهربائيا وتلفزيون وكان الكل يجتمع ليحضر المسلسلات مساءً، كانت عفيفة أول من يحضر، خاصة يوم الاربعاء، لأنها تحب سيمون تمبلار (الممثل روجيه مور) في مسلسل “لو سان” “القديس” وكانت تمنع أي من الصغار عن الكلام أثناء عرض هذا المسلسل. ولكنها تعلق بكل محبة محاولة مساعدة “سيمون” اذا ما تعرض لخطر ما “انتبه وراك كسيمون”.

وكانت ام كرم ولكثرت ما بكت، ربما، تعرف كل أنواع التناويح وصوتها جميل. وفي كل مأتم كانت تردد المواويل والشعر الذي تعرفه جيدا وقد زرتها مرة مع مسجل لمحاولة جمع هذه التناويح التي أعجبتني لأنها تعبر عن حالات اجتماعية تناجي خاصة من في الغربة:

“ياحادي العيس يا سكر بعودانو قل للحبايب يرجعوا على اوطانو …
يا حادي العيس يا قاطع نهور المي ان شفت الحبايب رجعون عالحي…
والخيي والخيي يا مصعب فراق الخي اصعب من الجرح لو جاروا عليه بالكي”

ودائما ما كان الهوا الغربي هو المناجى لأنه يحمل رائحة “الحبايب” أي أولئك الذي هاجروا إلى البلاد البعيدة. وكانت في تلك الأيام أميركا وخاصة البرازيل والارجنتين التي هاجر إليها أغلب العينبليين في الفترة التي تتكلم عنها تلك الأبيات. أما حادي العيس فهو مرافق القوافل التي كانت وحدها تغيب في سفراتها البعيدة لتعود بعد شهور تقضيها في السفر وهو الذي يغني مع هذه القوافل ويردد القصص والخبريات وقد يكون عنده خبر عن الغيّاب.

ويوم توفي والد كلير زوجة الدكتور كريم قرر ابو نصري الخوري استئجار البوسطة لكي يتسنى لمن يريد مرافقتهم إلى بكفيا لتقديم التعازي. وكان أبو يوسف موسى الخوري شقيق أبو نصري هو الذي يهتم بالمؤاجرين أي الذين يريدون مرافقتهم لكي يكون هناك بعض التنظيم خاصة في الجلوس داخل البوسطة. وكانت البوسطة متوقفة أمام دكانة توفيق عيد بالقرب من بيت ام كرم. ولما رأت ام كرم أن كثيرين يصعدون إلى البوسطة سألت شو في؟ فقيل لها “بأن بي مرت الحكيم توفي ورايحين عالتعازي” فقررت ام كرم أن تصعد إلى البوسطة. ولما حاول أبو يوسف منعها قالت له “ابعد هيك انت… خليك عاجنب” فاحرج ابو يوسف ولم يشأ أن يعمل مشكل سيما وأن الموضوع هو مشاركة في العزاء. ولكنه قال لأبو نصري قبل المغادرة بأنه لم يستطع أن يمنع ام كرم عن مرافقتهم وهو يخاف أن نتبهدل إذا ما قررت أن تنوّح كما تفعل عادة في البلدة. فقال ابو نصري ما باليد حيلة اترك الأمور على مجاريها.

وعندما وصل الوفد إلى بكفيا دخلت النساء إلى الغرفة التي سجي فيها الفقيد لتعزية النساء وجلسن بين الأهل هناك. ودخل الرجال حيث يجلس الرجال في الصالون الداخلي. واستقبلهم الدكتور كريم وبقية الأهل، وبالطبع قدّروا الوفد الكبير القادم من عين إبل والذي يرافق ابو نصري. كانت ام كرم تجلس في الخلف مع بعض النساء من البلدة وبعد مرور بعض الوقت ولم تسمع أي صوت أو بكاء قررت أن تطلق أحد المواويل التي تعرفها بذلك الصوت الحنون. فصمت الجميع واستحسنوا غناءها ثم شيئا فشيئا انتقلت للأبيات التي تقولها في المناسبات. وبدأت السيدات العينبليات بمرافقتها. وتأثرت كلير بهذه الكلمات وشكرت ام كرم فتغير الجو وتحرك أهل البيت ليطلقوا العنان لمشاعرهم. وسمع من في الخارج فبدأوا يقتربون ليستمتعوا بما تقول هذه السيدة. ومن ثم وصل الخبر للرجال فقدموا للمشاركة في سماع التناويح التي كانت تبدع بها ام كرم. واعتقدوا بأن ابو نصري قد استأجر سيدة متخصصة بهذا النوع من الغناء لكي يكون العزاء على قدر الفقيد وأهله. وشكر الجميع مبادرته وفرح الحكيم بأنهم “بيضوا وجهه”. وعند العودة قال أبو نصري لأبو يوسف “أحسن قرار اخدته أنك خليت ام كرم بالبوسطة هياها رفعت رأسنا قدام الجماعة”.

لم تكن ام كرم متخصصة بالبكاء والتنويح فقط فهي اسمعتني الكثير من الأغاني التي كان العينبليون يغنونها في المناسبات على الدبكة أو الحوربة في استقبال شخصية مهمة أو الأغاني التي يرددها المزارعون أثناء بعض الأعمال خاصة أيام الحصيدة والتي لم نعد نعرفها ولا سمعنا بها. وقد أخبرتني ايضا عن ايام تنقاية القمح وتواعد الشباب والصبايا وعن ايام التتبين وكيف يتعاونون على نقل التبن من البيدر إلى البيت أو القلبة أيضا وعلى رؤوس الفتيات، وكثير من الخبريات الجميلة التي تجعلك تستمتع بالحياة الهانئة في تلك القرى الفقيرة والبعيدة عن المدن وصخبها. وكانت ام كرم لعدم قدرتها على السير الطويل بسبب الفتاق تحب أن تتسلى بالحديث عن الماضي وخاصة عن ابو كرم وخصاله لينقلب الجو بعدها إلى البكاء فتعود تغني للغياب. ولكن بنفس الوقت كانت ام كرم تحب المزاح وتستمتع بالضحك أذا لم يكن هناك حدى غريب “لأنو الضحك عيب كستي شو بدن يقولوا عننا الناس؟”

أم كرم بقيت من تراث عين إبل لمدة طويلة وهي من الشخصيات التي حفرت في الذاكرة ولو أن الدهر قد جار عليها وحمّلها الكثير من المآسي ولكنها صمدت. وقد يكون سبب ذلك الصمود روحها المرحة وقدرتها على التعبير عندما تضربها الصعاب فهي تطلق العنان للمشاعر كي تخرج فلا تشكل ضغطا وعبئا على ذلك الجسد ليضطر إلى الدفاع بشكل غير طبيعي.