د.وليد فارس/في ظل المعادلات المتحركة ليبيا إلى أين؟/غليان الأزمة الليبية ينذر بأزمة لم يشهد لها العالم مثيلاً منذ الحرب العالمية الثانية

60

في ظل المعادلات المتحركة ليبيا إلى أين؟/غليان الأزمة الليبية ينذر بأزمة لم يشهد لها العالم مثيلاً منذ الحرب العالمية الثانية
د.وليد فارس/انديبندت عربية/16 حزيران/2020

بدأت حروب ليبيا مع إسقاط نظام معمر القذافي في عام 2011 على أيدي تحالف ليبي معارض سرعان ما سيطر عليه الإسلاميون. هذه الحروب لم تتوقف وإن تبدل اللاعبون وتطورت الأوضاع الإقليمية واستمر التداخل الدولي مع التدخل الإقليمي، وصولاً إلى وضع آلية دولية بدأت في “الصخيرات” في المغرب وانهارت بعد ذلك، وتحولت إلى قوتين في شرق البلاد وغربها تتصارعان على السلطة.
وبعد عقد تقريباً من الصراعات، حدث تطور استراتيجي بات يوجِّه الأحداث ويعقّدها ويزيد الأطراف الإقليمية الموجودة على الأراضي الليبية، ويتجه بهذه الساحة إلى تصعيد لا مثيل له، بات يؤثر في الأمنين الأفريقي والمتوسطي. وهذه خلاصة الوضع كما نراها من واشنطن.
منذ عام 2014 برزت ديناميكية جديدة مع صعود نجم “الجيش الوطني الليبي” بقيادة المشير خليفة حفتر في شرق البلد الذي اصطدم بالمجموعات الإرهابية والتكفيرية (الموصوفة بالجهادية في الغرب) المتجسدة بـ”القاعدة” و”داعش” وحلفائهم، بين بنغازي ودرنة والهلال النفطي. من ناحية ثانية خرج البرلمان الليبي المنتخب من طرابلس في ذلك العام والتجأ إلى طبرق لسنوات وهو الإطار المنتخب الوحيد والأخير في الدولة الليبية.
أما في طرابلس، فالحكومة المسماة بـ”حكومة الوفاق” والتي انبثقت من “اتفاق الصخيرات” الذي دعمته الأمم المتحدة في عام 2015، سرعان ما حاصرتها الميليشيات الإسلاموية عامة والإخوانية بشكل خاص حتى تحولت إلى حكومة معترف بها دولياً إلا أنها عملياً مسيطَر عليها ميليشياوياً.
المعادلة الأصعب تكمن بين الليبيين أنفسهم، إذ تعتبر سلطة طرابلس برئاسة فايز السراج أنها السلطة الوحيدة الشرعية المعترف بها من قبل الأمم المتحدة، نظراً لانبثاقها من مؤتمر عُقد برعاية دولية، ولكن هذه الصورة غير مكتملة، إذ إن مؤتمر الصخيرات جمع القوى السياسية التي تؤلف حكومة الوفاق إلى المجلس النيابي، الهيئة الشرعية المنتخبة، إضافة إلى “الجيش الوطني” الذي حظي باعتراف البرلمان. وعندما لم يعط المجلس النيابي الثقة الدستورية لسلطة الوفاق انقسمت المؤسسات إلى اثنتين. حكومة برئاسة السراج في الغرب معترف بها دولياً، وبرلمان ليبيا المنتخب في الشرق وهو أيضاً حائز على شرعية الصخيرات ومعترَف به من الأمم المتحدة، وهو اعترف بدوره بالجيش الوطني الليبي. هذا يعني أن جميع الأطراف معترَف بها من قبل الأمم المتحدة ولكن أجنداتها تختلف مع بعضها البعض وتدعمها قوى إقليمية مختلفة.
حظيت حكومة الوفاق وبسرعة على دعم قطر بسبب هوية الميليشيات المرتبطة بالإخوان، وحصلت تدريجاً على دعم مهم من قبل حكومة العدالة والتنمية التي يتزعمها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. أما البرلمان والجيش في الشرق فحصلا على دعم معظم الدول العربية وأبرزها مصر والإمارات.
حاولت فرنسا تقديم مبادرات لدفع الجميع باتجاه حل سياسي غير أنها كانت ولا تزال قلقة جداً من المجموعات الإسلاموية المسلحة التي تربطها علاقات بالمجموعات التكفيرية في الساحل ولديها نفوذ داخل الخلايا المتشددة في أوروبا على ذمة الفرنسيين والأوروبيين. أما إيطاليا فكانت ولا تزال ترتبط بعلاقات مميزة مع سلطة طرابلس وميليشيات مصراتة على الصعيدين الاقتصادي والمالي، غير أن التغييرات السياسية في روما وقلق الرأي العام من أمرين يتمثلان في الخلايا المسلحة والمهاجرين غير الشرعيين ربما غيرت من الموقف الإيطالي، من مؤيد للسلطات في غرب ليبيا إلى محاولة لعب دور سياسي لحل الأزمة.
إذاً ما هي الأسباب التي أسهمت في تغيير المعادلات السابقة؟ هذه لائحة قصيرة نستعرضها.
أولاً، تعاظم الدور التركي في دعمه العسكري واللوجيستي والدبلوماسي لحكومة الوفاق ما أدى إلى عمليات عسكرية في غرب البلاد استهدفت “الجيش الوطني”، وهذا بدوره استدعى قيادة هذا الجيش للقيام بعملية اقتربت من طرابلس وبعدها بسطت نفوذها على الساحل ما بين العاصمة والحدود التونسية ما وضعها على مسافة قريبة من حسم الصراع العسكري، إلا أن هذا التحرك العسكري دفع بأنقرة إلى الدخول مباشرة على خط الصراع فأرسلت بواخرها وطائراتها، فبات هناك قوة تركية أطلسية موجودة في طرابلس ومصراتة. وإضافة إلى ذلك، قامت حكومة أردوغان بجلب حوالى عشرة آلاف من المقاتلين المرتبطين بالجماعات التكفيرية في شمال سوريا ونشرتهم في مناطق “حكومة الوفاق”. ودُفع هؤلاء تحت حماية أسطول الطائرات المسيرة التركية إلى الاشتباك مع “الجيش الوطني” واستعادة السيطرة على الشريط الساحلي الشمالي واجتياح قاعدة الوطية وبعدها الاستيلاء على ترهونة والتقدم بسرعة وقوة نحو سرت وهي الحد الفاصل بين الشرق والغرب.
هذا الاجتياح بقيادة تركيا أدى إلى تعبئة صفوف دول “التحالف العربي”، فحشدت مصر مدرعاتها على الحدود مع ليبيا، كما سيّرت بحريات الاتحاد الأوروبي قطعها من أجل تطبيق قرار الأمم المتحدة الذي ينص على منع إرسال الأسلحة إلى ليبيا، والمقصود هو الجسم العسكري الكبير الذي بات يبحر بين تركيا وطرابلس لحسم المعركة لصالح الميليشيات الإخوانية.
وكان للتدخل التركي بعد بحري أكبر، إذ وقّعت حكومة أردوغان مع حكومة السراج اتفاقيةً بحرية ربطت ليبيا بتركيا وغيّرت في المساحة الاقتصادية لليونان، ما دفع بأثينا إلى الدخول مع قبرص في محور بحري يضم مصر وحكومة الشرق الليبية ومدعوم عربياً لمواجهة اختراق تركيا للمياه الاقتصادية اليونانية.
ومع هذا التعقيد الكبير، أصبحت هناك أزمة داخلية في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، فتركيا أقحمت نفسها عسكرياً وبشكل واضح على الرغم من قرارات الأمم المتحدة عبر عملية عسكرية كبيرة عبر المتوسط في الداخل الليبي من أجل الحصول على ورقة هائلة من النفط والغاز الليبي، إضافة إلى مساحات بحرية دولية يمكن أن توفر لأنقرة استثماراً في الطاقة لا مثيل له في المنطقة. ومن ناحية ثانية، فإن اليونان عضو “الأطلسي”، رأت أن أجزاء من منطقتها البحرية جرى محوها عبر اتفاق تركي مع حكومة السراج، وتحاول الآن تنفيذ اتفاقية مماثلة مع مصر لاسترجاع مساحتها المائية.
إذاً، المتوسط في حالة من الغليان بين حلفاء الناتو من ناحية، والدول العربية التي لها مصلحة في حماية مياهها الدولية من ناحية أخرى.
ويبقى السؤال الأكبر، ما هو موقف واشنطن مما يجري؟ المواقف العلنية للإدارة الأميركية تتلخص كما يلي، يفضّل الممسكون بالملف الليبي في وزارة الخارجية وسائر دوائر الإدارة، الاعتراف بحكومة السراج من ناحية ويأملون بأن الوضع العسكري الجديد الذي فرضته تركيا على الأرض سيؤدي إلى تفاوض بين طرفَي الصراع. غير أن اتصال الرئيس الأميركي دونالد ترمب بحفتر العام الماضي، وتركيزه فيه على ضرورة التنسيق بين الولايات المتحدة و”الجيش الوطني الليبي” لمواجهة الإرهاب، يبقى ساري المفعول، ما يعني أن هناك موقفين يخرجان عن واشنطن، واحد للبيروقراطية وآخر للبيت الأبيض.
وضف إلى تلك التعقيدات دخول روسيا على الخط عبر انتشار شركة أمنية خاصة تُعرف باسم “فاغنر”، واحتمال دخول عدد من الطائرات الروسية الصنع إلى ساحة المعارك، ما دفع بعدد من المسؤولين الأميركيين إلى إبداء القلق الشديد من التمدد الروسي في ليبيا. مع العلم أنه وبعكس سوريا، حيث يوجد لروسيا قواعد ووجود شرعي معترف به من قبل (الرئيس السوري) بشار الأسد، فإن شرق ليبيا لم يعط روسيا أو غيرها الحق في إقامة أي قاعدة أو وجود عسكري نظامي على الأراضي الليبية حتى الآن، بينما أظهرت التقارير الأخيرة أن حكومة الوفاق في الغرب أعطت تركيا حقوقاً سيادية لإقامة قواعد عسكرية دائمة ونشر قوات على الأراضي الليبية.
ما يجري في ليبيا والبحر الأبيض المتوسط وصل إلى درجة الغليان وقد يسجل أزمة إن لم تكن مواجهة لم نر لها مثيلاً في المنطقة منذ الحرب العالمية الثانية، ولكن أميركا التي تملك الكلمة الأقوى في الموضوع لن تتحرك بتقديرنا بشكل عملي قبل انتخابات نوفمبر (تشرين الثاني) الرئاسية، إذ إن الإدارة منهمكة من ناحية بنتائج مكافحة جائحة كورونا، ومن ناحية أخرى بالأحداث العنيفة التي تجتاح مدناً أميركية، ما يعني أن العاصفة قائمة في ليبيا ويبقى الأمل في عدم تحولها إلى إعصار قبل نوفمبر المقبل.