صلاح تقي الدين/العرب: كرسي البطريرك صفير “عراب ثورة الأرز” والحمل الثقيل الذي تركه

93

كرسي البطريرك صفير “عراب ثورة الأرز” والحمل الثقيل الذي تركه
صلاح تقي الدين/العرب/31 أيار/2020

فكرة لبنان الكبير الذي يقوم بجناحيه المسلم والمسيحي وتحديداً المسلم السنّي والمسيحي الماروني، مدعومة بشخصية مثل الحريري الأب، رآها صفير بمثابة “الفرصة” الذهبية لإعادة ترسيخ الكيان اللبناني.

غائب يُستحضر مع الدعوات إلى إعلان نهاية لبنان المسيحي
كانت لتصريحات المفتي أحمد قبلان نجل نائب رئيس المجلس الشيعي الأعلى في لبنان أصداء واسعة، فالحديث هذه المرة ليس عن سلاح حزب الله، ولا عن المقاومة والممانعة كما اعتاد الجميع أن يسمع من حلفاء إيران وأتباعها في لبنان. بل إن كلام قبلان كان صيغة الطائف وعن لبنان كله. ما أعاد إلى الأذهان من جديد مصير تركة البطريرك الماروني الراحل مار نصرالله صفير التي باتت في مهب الريح.

هواجس المسيحيين
قال قبلان ”نؤكد أن أصل نشأة لبنان تم على أساس طائفي واستبدادي، بوظيفة خدمة المشروع الاستعماري والاحتكاري، وهذه الصيغة قد انتهت، وما قام به بشارة الخوري ورياض الصلح لم يعد يصلح لدولة إنسان ومواطن، بل أيضا مرحلة وانتهت“.

وفي زمن الكلام الكثير، يحضر البطريرك الذي كان قليل الكلام لكنه كان حازم الموقف. ”كان يزداد صلابة على شبه شجرة الأرز. عميد الكنيسة المارونية، خسارة وطنية، وهو بطريرك الاستقلال الثاني والمصالحة والذي لا يتكرر”. وتلك الكلمات لم تكن سوى كلمات خليفته البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي التي قالها في وداع سلفه في 12 مايو 2019، ولعل أكثر ما يفتقده لبنان عموماً والموارنة خصوصاً في هذه الأيام العجاف وجود بطريرك “المصالحة والسلام” الذي استطاع “تقويم” دور الطائفة المارونية المؤسسة للكيان اللبناني والانتقال بها من دور “الأنا” إلى دور “نحن” الوطنية.

في “عز” مرحلة الوصاية السورية على لبنان استطاعت بكركي، كرسي البطريركية المارونية، وفي بيانها الشهير الذي صدر عقب اجتماع المطارنة الدوري، أن تصوغ خطاباً لا يعبّر عن “هواجس” المسيحيين بل عن طموح لبناني جامع بالاستقلال الناجز البعيد عن أي وصاية إقليمية أو دولية، وبلغة صريحة شدّدت على أن لبنان هو بلد لجميع مكوناته ويشبه هذه التنوعات “الطائفية” الفريدة.

رفض صفير لنهج عون الذي يرأس الجمهورية الآن كان مبكراً جداً، وحين فرض الأخير سيطرته على المناطق المسيحية، هاجم أتباعه مقر صفير في بكركي، وأهانوه وأجبروه على “تقبيل” صورة عون
رفض صفير لنهج عون الذي يرأس الجمهورية الآن كان مبكراً جداً، وحين فرض الأخير سيطرته على المناطق المسيحية، هاجم أتباعه مقر صفير في بكركي، وأهانوه وأجبروه على “تقبيل” صورة عون
لقد تمكّن صفير من خلال إصراره المتين للمحافظة على الصيغة التاريخية للكيان اللبناني، من مواجهة النفوذ السوري في لبنان وبشجاعة علنية في وقت كانت فيه قوات الوصاية ومن خلال أدواتها اللبنانية تعمل على إسكات كل من يتجرأ على معارضتها، بدءاً من نفي الجنرال عون وسجن رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع ودفع الرئيس السابق أمين الجميل إلى الابتعاد الطوعي عن لبنان.

عندما كان يقول “نحن لا نطلب المستحيل” كان يعرف أنه يطلب ما لا يتجرأ الآخرون على البوح به عالماً بأنه ينطق بما يختلج في نفوس غالبية اللبنانيين، الطامحين إلى الاستقلال والحرية. ويوم وافق على اتفاق الطائف الذي وضع حداً للحرب الأهلية التي أنهكت كاهل اللبنانيين عموماً وأفقدت المسيحيين ما كانوا يتمتعون به من “امتيازات”، كان حسب وجهة نظره الثاقبة ورؤيته بعيدة النظر أن المناصفة هي خلاص المسيحيين وبها حمايتهم، أي في ثبات الدولة وبنيتها. وهو الذي قال صراحة حينها، إنه يوافق على الطائف على الرغم من الإجحاف الذي يلحق بمن يفترض أنه يرعى شؤونهم، لكنه يوافق على ما يجب أن يتحمّل مسؤوليته الزعماء الموارنة، الذين لم يستطيعوا المحافظة على مكتسباتهم داخل النظام بسبب سياساتهم “الفوقية” و”أحلامهم” غير الواقعية التي لن تؤدي سوى إلى سلخ لبنان عن محيطه، والتاريخ أثبت صحة ما نطق به.

أبواب بكركي
مبدئيته ورفضه “لحلف الأقليات” يقال إنه السبب وراء ما تعرّض له صفير من “الدسائس” التي اشتدت بعد اغتيال الحريري، حين قام 16 مطراناً بتوقيع عريضة ورفعها إلى مقام الكرسي الرسولي في الفاتيكان يطالبون فيها بإزاحة صفير بسبب “تقدّمه” في السن
لم تأت موافقة صفير على اتفاق الطائف من فراغ، فهو كان مؤمناً “حتى العظم” بفكرة لبنان الكبير الذي يقوم بجناحيه المسلم والمسيحي وتحديداً المسلم السنّي والمسيحي الماروني، خصوصاً أن الرئيس الشهيد رفيق الحريري الذي عمل بجد على إخراج اتفاق الطائف بصيغته النهائية مدفوعاً بقوة دعم إقليمية ودولية، مثّل بالنسبة إلى صفير “الفرصة” الذهبية لإعادة تثبيت “نهائية” الكيان اللبناني بعدما اعتبر أنها المرة الأولى التي “نظر” فيها المسلمون من خلال الحريري إلى لبنان “كدولة نهائية“.

لصفير مواقف عديدة تؤكد على وجهة نظره وإيمانه العميق بلبنان “الوطن” النهائي لجميع أبنائه، فقد سارع إلى فتح أبواب بكركي لاستقبال المعزين بعد اغتيال مفتي المسلمين الشهيد الشيخ حسن خالد، كما كان ساعياً بجد على طريق وضع نهاية للحرب المشؤومة التي طالت قلب لبنان في جبله، فالتقى رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط في قصر المختارة وعقد معه المصالحة التاريخية الشهيرة التي أعلنا بوضوح أنها انتهت إلى غير رجعة.

علاقته كانت ممتازة إلى حدّ بعيد مع رئيس مجلس النواب نبيه برّي، ما يؤكد عمق قناعته بلبنان الكبير على صورته الأولى، لا لبنان الذي تحول إلى سيطرة قوى إقليمية وعربية، هذه القناعة، التي كانت حافزاً لإعلان موقفه المتشدّد بعد الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب، ومطالبته بانسحاب الجيش السوري، لتحقيق حلمه بجلاء جميع الجيوش عن أرض لبنان.
لكن موقف البطريرك الراحل من حزب الله كان “المشكلة” وهي لم تكن قط “مذهبية” بل سياسية انطلاقاً من نظرة صفير إلى لبنان بعيداً عن منطق سيطرة فريق على باقي الفرقاء. لقد عارض هذا الواقع في ثمانينات القرن الماضي عندما حاول عون الذي كان قائداً للجيش ورئيساً لحكومة انتقالية فرض سيطرته على المناطق المسيحية من خلال شنّه ما عرف بحرب “الإلغاء” الخاسرة، وتعرض بسببها لغضب جماعة من “العونيين”، اقتحموا مقره في بكركي وأشبعوه إهانات إلى حد إجباره على “تقبيل” صورة عون.

لم ينكر صفير لحزب الله دوره في تحرير جنوب لبنان، لكنه كان ضدّه بالتأكيد في 8 مارس 2005 عندما نزل إلى الساحات ليطلق موقفه تأييداً للنظام السوري ووجوده في لبنان. وربما بسبب موقفه هذا المتشدّد تعرّض صفير للكثير من “الدسائس” التي اشتدت بعد اغتيال الحريري، فكان أن قام 16 مطراناً بتوقيع عريضة ورفعها إلى مقام الكرسي الرسولي في الفاتيكان يطالبون فيها بإزاحة صفير بسبب “تقدّمه” في السن، كما هاجمته “بيانات” إعلامية كثيرة بسبب موقفه المعارض لـ”حلف الأقليات” الذي كان يروّج له النظام في دمشق، والذي لم توافق بكركي أيام صفير عليه، لا بل عارضته، في مقابل وجود مناخ كنسي ومسيحي في منطقة الشرق الأوسط ككل، وحتى فاتيكاني، يميل باتجاه هكذا تحالف “يحمي المسيحيين“.

بطريرك العمق العربي
إصراره المتين على المحافظة على الصيغة التاريخية للكيان اللبناني، يفسر تمكّن صفير من مواجهة النفوذ السوري، في وقت كانت فيه أذرع دمشق تعمل على إسكات كل معارض، بدءاً من نفي عون والجميل إلى سجن جعجع.

صفير الذي ولد في العام 1920 درس اللاهوت والفلسفة في لبنان. وعيّن خادما لرعيّة ريفون وأمين سرّ أبرشيّة دمشق حتى 1956، حين عينه البطريرك الراحل بولس بطرس المعوشي أمين سر البطريركية. رُقّي للدرجة الأسقفية وعين نائباً بطريركياً عاماً مطلع الستينات. وكان عضوًا في اللجنة الأسقفية التي سيّرت شؤون البطريركية بسبب مرض البطريرك المعوشي. وفي أواسط الثمانينات انتخب خلفًا للبطريرك أنطون بطرس خريش ليكون البطريرك الماروني السادس والسبعين، وقاد الكنيسة المارونية خمسة وعشرين عامًا حتى استقالته بداعي التقدم في السن. وبنى خلال حياته الطويلة صلات مميزة مع الدول العربية، فكانت له علاقات وثيقة أيضًا مع الولايات المتحدة وفرنسا، أما سوريا فقد كانت مواقفه من دورها في لبنان تؤثر سلبًا على العلاقة معها، وقد تمنّع عن زيارتها عدة مرّات مبررًا ذلك بالوضع الداخلي وبانعكاسات الزيارة على المعارضين للنفوذ السوري القائم آنذاك في لبنان.

كل ذلك مكنه من لعب دور بارز في السياسة اللبنانية، وحين غطى اتفاق الطائف، منحه الشرعيّة المسيحية، وبالتالي ساهم مع الرعاية الدولية المتمثلة بالولايات المتحدة والفاتيكان، والرعاية العربية المتمثلة باللجنة الثلاثية التي ضمت السعودية والمغرب والجزائر في إنهاء الحرب الأهلية.
وبعد خروج قوات الوصاية أطلق عدد من الباحثين على صفير لقب “عرّاب ثورة الأرز”، وبسبب مواقفه السياسيّة المنسجمة مع بعض طروحات فريق “14 آذار”، توترت علاقة البطريرك مع بعض الأقطاب المارونية في لبنان، كتيار المردة ورئيسه سليمان فرنجية والتيار الوطني الحر الذي كان يرأسه عون.

بعد استقالته، ظلّ البطريرك مقيمًا في بكركي وعضوًا في مجمع أساقفة الكنيسة المارونية، متنحيا بالتالي عن رئاسة مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، وكذلك كاردينالاً للكنيسة الجامعة وهو اللقب الذي منحه إياه يوحنا بولس الثاني عام 1994.

وتوفي البطريرك صفير قبل عام من الآن، في مثل هذا الشهر فجر يوم الأحد 12 مايو 2019 في مستشفى أوتيل ديو في منطقة الأشرفية ببيروت، بعد أن أُدخل إليه قبل 14 يومًا إثر تدهور وضعه الصحي.
ولم يتمكن أحد من ملء الفراغ الكبير الذي تركه برحيله، فمستقبل المسيحيين وفق المشروع العوني ورأس حربته جبران باسيل مرهون بمستقبل حزب الله وإيران ونفوذها في المنطقة العربية، بينما يحاول مسيحيون آخرون في مواضع أخرى إنقاذ ما تبقى من صيغة لبنان الكبير الاستثنائية التي باتت في وضعية هشة للغاية مهددة بالانهيار في أي لحظة.

الفراغ الكبير الذي تركه صفير برحيله، لم يتمكن أحد من ملئه. فمستقبل المسيحيين وفق المشروع العوني ورأس حربته جبران باسيل مرهون بمستقبل حزب الله وإيران ونفوذها في المنطقة العربية.