صالح المشنوق/لبنان جمهوريّة فيدراليّة: تجربتا سويسرا والبوسنة

301

لبنان جمهوريّة فيدراليّة: تجربتا سويسرا والبوسنة
صالح المشنوق/نداء الوطن/29 أيار/2020

بين كلّ فترة وأخرى، يفتح النقاش في لبنان حول مسألة النظام الفيدرالي، بشكل هستيري وبهلوانيّ، غالباً ما يكون تعبيراً عن غضب ظرفي من قادة طائفة (عادة المسيحيين) باتّجاه قادة طائفة أخرى (عادة المسلمين، سنّة وشيعة).

عادة ما يتمّ التعبير عن هذا الغضب تلميحاً – تقريباً كفشّة خلق، لا كرؤية استراتيجيّة – ويتمّ الردّ عليه بوصف الداعين الى الفدرلة بشتّى أنواع الاوصاف الخشبيّة والمؤامراتيّة، كخدمة اهداف داعش الظلاميّة – المذهبيّة او المشروع الصهيو – امبريالي الخبيث الساعي الى تفتيت المنطقة.

آخر فصول هذه المسرحيّة القديمة – المتجدّدة استياء التيّار العوني من رفض “حزب الله” إنشاء معمل كهرباء “مسيحي” في منطقة سلعاتا، الذي يهدف – كما تعوّد اللبنانيون – الى تحقيق مكاسب انتخابيّة لرئيس التيّار المرفوض شعبيّاً.

تردّ الثنائيّة الشيعيّة على باسيل بطرح علمانيّ ووحدويّ غريب عجيب، نظراً الى الطابع الطائفي الاستثنائي لـ”حزب الله” وطبيعته الفيدراليّة شبه الانفصاليّة (يحكم الحزب مناطقه بشكل غير مسبوق حتّى في كونفيدراليّات العالم، لكنّه وحدويّ بطرحه لحاجته الى حماية الطوائف الاخرى).

تهدف الثنائيّة من خلال طرحها هذا الى ابتزاز المسيحيين بورقة الديموغرافيا: لا تهدّدونا والا بدأنا بالتعداد الطائفي. يجتمع قادة الحزبين، ويتّفقون على تسوية نفعيّة ترضي باسيل، وينتهي الجدل الفكري – العقائدي بسحر ساحر بانتظار الجولة المقبلة.

يستأهل الطرح الفيدرالي في لبنان نقاشاً علميّاً وموضوعيّاً، بوصفه نظام حكم متّبعاً في خمس وعشرين دولة من دول العالم (من العراق الى كندا، مروراً بألمانيا).

معظم هذه الدول ديموقراطيّة، مستقرّة ومزدهرة، وقد اختارت هذا النموذج لإدارة التنوّع في ما بين مكوّناتها المتنوّعة، أكانت عرقيّة او طائفيّة او لغويّة.

هذا النقاش يجب ان يحصل بعيداً من استعمال الفيدراليّة كورقة ابتزاز سياسي لتحقيق اهداف شخصيّة، وبمعزل عن حملات التخوين والشيطنة التي يقوم بها المعترضون (اغلبيّتهم لا يعرف الكثير عن الموضوع)، أكان عنوانها “رفض التقسيم” او المؤامرة الصهيونيّة المتخيّلة.

قبل البحث في ما إذا كان النظام الفيدرالي مناسباً لإدارة التنوّع في لبنان، يجب تعريف أنواع الفيدراليّات المتّبعة في العالم.

هناك دول، مثل الولايات المتّحدة، نشأت كدولة فيدراليّة عند إعلان اتّحاد المستعمرات الثلاث عشرة واستقلالها عن بريطانيا.

لم يكن الموضوع إدارة تنوّع بالمعنى المتعارف عليه في دراسات الدول المتعدّدة، بل كان مرتبطاً بالخوف من سلطة مركزيّة قويّة تقيّد الحريات والديموقراطية.

وهناك دول مثل الامارات، نشأت عند اتّحاد الامارات الستّ (لاحقاً السبع)، كتحالف بين العائلات الحاكمة. هنا كان التحدّي إدارة التنوّع العائلي بين المشايخ (البحرين وقطر رفضتا الانضمام)، في آليّة حكم ملكيّة تقليديّة.

هذه الأمثلة لا تنفع في النقاش اللبناني، لانّ خصائصها مختلفة تماماً عن طبيعة التنوّع او النظام السياسي في لبنان، وذكرها كأمثلة ناجحة تحايل فكري يضرّ بالفكرة بدل ان يفيدها.

أربع دول فيدراليّة تشبه لبنان ويمكن الاستفادة منها في النقاش المحلّي البنّاء: سويسرا، وبلجيكا، والعراق، والبوسنة.

بلجيكا فريدة في انّها نشأت بدولة مركزيّة، ثم تحوّلت الى فيدراليّة في العام 1993، بعد تطوّر دستوري تدريجي بدأ العام 1970. كما انّها منقسمة عمودياً بين مجموعتين لغويّتين، الفليمينغز (اغلبيّة عدديّة، تعيش في الشمال وتتحدّث الهولنديّة) والوالون (ثلث السكّان، يسكنون في الجنوب ويتحدّثون الفرنسيّة).

البوسنة والعراق يشبهان بعضهما بعضاً بشكل شبه متطابق.

تبقى سويسرا، النموذج الانجح لإدارة التنوّع العرقي في العالم (الانقسام لغوي وديني، لكنّ تعبير عرقي يستعمل بحثيّاً لجمع كل أنواع التنوّعات).

وصف لبنان تاريخيّاً بسويسرا الشرق، وهو تشبيه ولد في الستّينات نظراً لأوجه الشبه الكثيرة بين الاثنين (بلد صغير، متنوّع، فيه جبال جميلة، ونظامه المصرفي قلب اقتصاده). التشبيه تحوّل مع الوقت الى مزيج من النوستالجيا والسخرية (اكتملت عناصرها مع انهيار سمعة القطاع المصرفي اللبناني)، ولكن هذا لا يعني عدم الاستفادة من البحث العلمي الجدي في تجربة سويسرا، بعيداً من الرومنسيّات وأبيات الشعر الزجليّة.سويسرا: الفيدراليّة المناطقيّة

في سويسرا ثلاث مجموعات لغويّة. الألمان (62%) الفرنسيون (23%) والايطاليون (9%). وطائفتان: الكاثوليك (37%) والبروتستانت (25%) والباقي اغلبيّتهم من غير الملتزمين. تاريخيّاً كان الصراع طائفيّاً بين أبناء المذهبين المسيحيين، الذين تقاتلوا لآخر مرّة في العام 1847في معركة سندربوند، التي لم يقتل فيها سوى 86 شخصاً وأدّت الى نشأة الاتّحاد الفيدرالي. تألّف الاتحاد من 22 كانتوناً. مع مرور الزمن وانحسار الانتماء الديني تحوّل الانقسام الى انقسام لغوي بين المجموعات الثلاث، وتفرّعت الكانتونات لتصبح 26، بعد ان انفصل كانتون جورا (الكاثوليكي-الفرنسي) عن كانتون برن (الألماني-البروتستانتي) من خلال استفتاء عام في العام 1979. يشكّل الكانتون العمود الفقريّ الأساس للهويّة في سويسرا، وهو عابر – بطبيعة الحال، بسبب عددهم – للهويّات اللغويّة والدينيّة. لذا فانّ التنافس يحصل بين الكانتونات (التي بمعظمها صافية لغويّاً) وليس بين المجموعات اللغويّة والطائفيّة.

الدولة المركزيّة في سويسرا توافقيّة (باللغة اللبنانيّة، طائفيّة). تتشكّل السلطة التنفيذية من 7 وزراء، يمثّلون كل الأحزاب الاساسيّة في سويسرا (عددها 4) وفقاً لما يسمّونه “المعادلة السحريّة”. لا يوجد لهم رئيس دولة (يترأس مجلس الوزراء وزير بالمداورة) ويتّخذون قراراتهم بالتوافق. يقرّرون في السياسة الخارجيّة (الحياد شبه مقدّس في سويسرا)، السياسة الماليّة، والسياسة الدفاعيّة. كلّ ما عدا ذلك – الصحّة، المساعدات الاجتماعيّة، التعليم، الخ – يتقرّر على مستوى الكانتونات، التي تملك حكومة، وبرلماناً، وشرطة، ودستوراً. إذاً التوافق في العاصمة فوق كلّ اعتبار، اما فعاليّة الحوكمة ففي الكانتونات. أصغر هذه الكانتونات فيه 15000 نسمة، يملكون دستورهم الخاص.

البوسنة: الفيدراليّة الاثنيّة

نشأت الفيدراليّة في البوسنة بعد الحرب المدمّرة التي خيضت بين الصرب (أرثوذوكس) والكروات (كاثوليك) والمسلمين. أساس الخلاف كان رغبة الصرب بالانفصال عن البوسنة بعد تفكّك يوغوسلافيا والانضمام الى صربيا. تفوّقهم العسكري سمح لهم بإنشاء “جمهوريّة” خاصة بهم خلال الحرب، سمّوها ريباكليكا سربسكا، طردوا منها المسلمين جميعاً، الظاهرة التي ادّت الى بروز تعبير “التطهير العرقي”. سمحت اتّفاقيّة دايتون للسلام العام 1995 للصرب بالإبقاء على جمهوريّتهم، ما ادّى الى صيغة دستوريّة فيدراليّة مؤلّفة من وحدتين فيدراليّتين: الاولى للصرب، والثانية للمسلمين والكروات (فيها بدورها 10 كانتونات شبه فيدراليّة). البوسنة تملك أعقد تركيبة دستوريّة في العالم، مع 13 رئيس حكومة، 180 وزيراً و700 مشرّع. الصيغة الفيدراليّة في البوسنة عرقية او طائفيّة الطابع، بحيث ان تقريباً كلّ المواطنين من طائفة معيّنة يعيشون في وحدة فدراليّة واحدة، أنشئت بغرض تجميعهم وفصلهم عن بقيّة المكوّنات. بغضّ النظر عن النقاش القيمي، فانّ هكذا صيغة تشكّل مشروع صراع سياسي دائم وحاد بين الوحدة والحكومة المركزيّة، كما تشكّل مقدّمة طبيعيّة وعلميّة للتقسيم، لان مقوّمات الذهاب باتّجاه الانفصال تكون قد اكتملت. ولولا الحضور الدولي لانفصل الصرب منذ عقدين. من الأمثلة هنا يوغوسلافيا، السودان، قبرص، العراق، كيبك في كندا وكاتالونيا في اسبانيا. التقسيم ليس حراماً شرعيّاً بحدّ ذاته – اكراد العراق لهم الحق الكامل بدولتهم – لكنّه مرفوض لبنانيّاً، كما انّه شبه مستحيل بسبب التوزيع الديموغرافي المتشابك للطوائف.

بالخلاصة، فان النقاش في الفيدراليّة أساسي وممتع لكنّه عمليّاً لزوم ما لا يلزم. اوّلاً لان الطائف اقرّ اللامركزيّة الاداريّة الموسّعة (مع الإصرار على موسّعة)، ما يؤمّن الكثير من منافع الفيدراليّة المناطقيّة دون الكثير من حساسيّاتها. والثاني، لانّ معظم مصائب لبنان منذ استقلاله ناتجة عن سيطرة نزعات عابرة للأوطان على سياسته الخارجية والدفاعيّة (من منظّمة التحرير الى “حزب الله”)، وهذه في أكثر الدول الفيدراليّة من صلاحيّات الحكومة المركزيّة. فيدراليّة سويسرا اقرّت في العام 1848، اما حيادها ففي العام 1815. قبل الصيغة، ابحثوا دائماً عن السلاح.