نديم قطيش/يقين حزب الله والشكّ في زمن الكورونا

160

يقين حزب الله والشكّ في زمن الكورونا
نديم قطيش/موقع أساس/06 نيسان/2020

مررت خلال الأسبوع الفائت بتجربتين شديدتي الدلالة بشأن حال الانفصال الحاصل على الأرض بين جمهور حزب الله وبقية اللبنانيين. قد يخيّل للمرء أنّ أزمة كأزمة كورونا، أو كارثة اقتصادية كالتي نمرّ بها وسنظلّ كذلك لفترة طويلة، توحّد الناس نسبياً بقوّة الرعب من الغد. لكنه كان صرحاً من خيال، بحسب العبارة البديعة لإبراهيم ناجي في ملحمة الأطلال التي غنتها أم كلثوم.

في خطابه الأخير، وبعد أن أتحفنا قبله بنظريات في علم الاقتصاد، والجغرافيا الاقتصادو-سياسية، وعلم اجتماع الثورات، وعلوم المالية العامة، ونقد الاقتصاد النيوليبرالي المصرفي، جاء دور الطب، إذ فجّر أمين عام حزب الله حسن نصرالله نظريته عن كورونا بشأن عجز العقول في العالم عن فك شيفرة الفايروس!

لم أخل وأنا أصحّح قول نصرالله عبر تويت، يحمل كلّ تقاليد النكايات في الصراع السياسي، ردة فعل جمهوره التي ستنحاز بشكل حار لتبنّي معلومته الخاطئة على حساب ما يقوله العلم وفي مصادر مفتوحة للعموم. فالشيفرة فكّت في الصين مطلع كانون الثاني، في إحدى جامعات شانغهاي، وصارت بحوزة منظمة الصحّة العالمية بعد أسبوع، ومن خلالها بعهدة كلّ الحكومات في العالم. وكان هذا التأخّر في تسليم المعلومات في صلب أسباب الموقف العصبي الذي عبّر عنه الرئيس الأميركي دونالد ترامب تجاه الصين، بعد ما تكشف أيضاً عن إخفاء الصين معلوماتٍ حول تفشّي الفايروس، كان من شأن إعلانها في حينها، والتعامل معها بمسؤولية، أن يُجنّب العالم الكثير من وجوه هذه الكارثة التي يواجهها الآن. والشيفرة هي المفتاح الأوّل لفهم الفايروس والبدء بتركيب لقاح مضادّ له، بالاستعانة أيضاً بالأجسام المضادة التي تفرزها أجساد المصابين المتعافين والتي تستخرج لدراستها من بلازما الدم الخاصّة بهم.

رفض تام قاطع لاحتمال أن يكون صاحب عبارة “لو كنتُ أعلم”، لا يعلم هذه المرّة أيضاً.

أما التجربة الثانية فهي ردّة فعل جمهور حزب الله على مبادرة التصفيق من على الشرفات التي تداعى إليها عدد من الإعلاميين والفنانيين والنشطاء السياسيين والاجتماعيين، كتحية للجسم الطبي، واستنساخاً لشكل من أشكال التعبير التضامني السوسيولوجي الذي أفرزه زمن الكورونا ووصلنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي.

بالتزامن مع وقفة التصفيق، انتشرت فيديوهات لمجموعات من جمهور حزب الله تصدح من على الشرفات بما بات نظير النشيد الوطني لشيعة حزب الله وهو شعار: “لبيك يا حسين”.

كان من الممكن فهم هذا الشكل من أشكال التعبير لو أنّ الغرض منه يصبّ في خانة التضامن نفسها التي أرادها متضامنو التصفيق، وأنّ الاختلاف هنا هو فقط وليد اختلاف اللغات الثقافية في مجتمع متعدّد، وأنّ الصرخة هي تعبير بيئة معيّنة عن تضامنها، على طريقتها، ووفق أدبياتها. غير أنّ الفيديوهات والتعليقات التي تلتها وضعت هذه المشهدية في مواجهة مبادرة التصفيق وأصحابها، وليس دعماً للكادر الطبي! وحاولت هذه الأصوات خلافاً لكلّ المشهدية الرائعة المثبتة في فيديوهات وصلت من كلّ لبنان، أن تطعن بنجاح المبادرة وبنجاح أصحابها بضدّية كريهة في مستوى استنفارها واستعدادها للاعتداء والتجريح والتطاول.

حادثتان في صلب سوسيولوجيا الانفصال الحزب اللهي عن بقية اللبنانيين، وتظهير فاقع للهوية الفرعية يكاد يكون غير مسبوق في تاريخ الجماعات اللبنانية.

وصل جمهور حزب الله إلى نقطة بات معها ينظر إلى الجهل – حتى فيما يتعلّق بالمعارف المتفق عليها كمعلومات عامة وراسخة – على أنّه فضيلة فعلية في الحرب الدائمة التي يخوضها مع كلّ آخر. إنّ رفض المعلومة العامة، أو الموقف الأخلاقي العام، الآتيين ممن يخالفهم الموقف السياسي، هو تأكيد على ذاتيتهم وسبيل لإثبات استقلاليتهم عن الآخر “العميل الخائن الغريب”. إنّه توق مرضي لعزل نفوسهم الهشّة بشكل متزايد وحماية الأنا المتورّمة التي لا تحتمل أن يُشار لها إلى خطأ ترتكبه أو يرتكبه قائدها .

المفارقة أنّ هذا الآخر، ليس واحداً، بل هو اجتماع مسارب وخلفيات سياسية مختلفة، بل ومتنافرة في بعض الأحيان، جمعها، في لحظةٍ ما، توق إنساني لإعلاء التضامن مع “الفئة المقاتلة”، ليس امتناناً فقط، بل للتأكيد لأنفسنا أنّ ثمة من يعتني بنا في مواجهة هذا العدوّ المجهري. تصفيق يشبه غريزة عابر السبيل ليلاً قرب المقابر، إذ يشرع بالصفير كي يصير وصوته اثنين، لا واحداً تفترسه هواجس الأشباح…

وهنا مشكلة الهوية المغلقة المعرَّفة بحدّة إذ تواجه هوية متغيّرة هلامية رخوة كهوية المصفّقين على الشرفات، أو عمومية كهوية المعلومة العلمية. فحدّة التعريف الهوياتي في الحالة الأولى يستدعي من الآخرين أن يكونوا هوية واحدة مقابلة، وهم ليسوا كذلك. وهنا ينشأ الميل إلى الاختزال، ليصير الموقف الأخلاقي أو المعلومة، بنفسيهما، عدوّاً، إن صدرا عن عدوّ، أو خلاصة الحقيقة إن صدرا عن صديق.

يزداد ارتباك هذه الهوية المغلقة، ويتفاقم انغلاقها على ذاتها، في زمن الشدائد كمحنة كورونا. فالعدو، ولو عرَّفه العلم، أنشأ مناخاً عاماً من الغموض والوجوم، ومآلاتنا من بعده في كلّ وجوه الحياة باتت عرضة لكلّ أشكال التغيير.

هذا التوق الدولتي وغير الواعي أحياناً هو ما يستثير حزب الله ويستفزّ بيئته. فهم أخذوا فرصتهم خارج الدولة، أو هكذا تختصر سيرتهم الوطنية، وازدهروا في ظلّ ضعفها وترهّلها وانكسار مؤسساتها وسلطاتها القضائية والأمنية والسياسية

مناخ من شيوع الشكّ يصيب أكثر ما يصيب البيئات التي أدمنت اليقين. فثقافة اليقين الحاسم والدائم لا تترك مجالاً للشك وتحديد الخطأ وتصحيحه كطريق وحيد نحو تطوير المعرفة، وأساليب العيش وسياسات الحكم وأشكال الإدارة.

فحزب الله، كعقيدة، وقائده حسن نصرالله كشخصية دينية، مظهراً ومخبراً، يتحدّر من عالم الغيب القصيّ الذي يطغى بمفرداته على الشخصية السياسية والعامة للحزب ولبيئته، وهي الشخصية الأكثر عرضة لامتحانات زمن الشكّ. يكفي أن ينتبه المرء إلى المفارقة التالية: لعقد من الزمن أرسل حزب الله مقاتليه إلى سوريا للموت دفاعاً عن مقام السيدة زينب، واليوم يحذّرهم من زيارة المقام نفسه وغيره من المقامات كي لا يُميتهم الكورونا. فأيّهما الأولى؟ حماية المقام أم الاحتماء منه؟ فداء المقام بالأرواح أو إنقاذ الأرواح، ولو على حساب الانقطاع عن زيارته!

بعض من استنفار بيئة الحزب في وجه المصفّقين على الشرفات، شعورهم أنّ ثمة من سرق منهم دور البطولة، وهم الجسم الطبي الذي يكافح ما لا يُكافح، بالسلاح والقبضات والصدور العارية والعيون العصية على المخارز. فبعض من صورة قوّة حزب الله هي تصعيد البيولوجيا (الجسد والقبضة والعين واللحم) إلى مصاف الميثولوجيا، في حين أنّ هذا الجسد هو نفسه المستهدف اليوم وهو الضعيف والهشّ والمكسور. فالصدور العارية يجب أن تختبئ في البيوت. والقبضات متهمة، والعيون تحجب نظرها مكسورة أمام الاجتياح الخفّي.

الساحة الآن للغة أخرى. لمفردات لا يملكها حزب الله وجمهوره، ولدور بطولة لم يتهيّأ له.

وبعض من الاستنفار أيضاً مردّه أنّ الجامع العميق، بين المختلفين الذي صفّقوا على الشرفات، أنّهم في مكان ما صغيرو الأحلام، مدنيون، يريدون دولة عادية ووطناً عادياً، أبطاله عاديون وقضاياه عادية .

هذا التوق الدولتي وغير الواعي أحياناً هو ما يستثير حزب الله ويستفزّ بيئته. فهم أخذوا فرصتهم خارج الدولة، أو هكذا تختصر سيرتهم الوطنية، وازدهروا في ظلّ ضعفها وترهّلها وانكسار مؤسساتها وسلطاتها القضائية والأمنية والسياسية.. سيعتبرون أيّ صوت دولتي صوتاً مضادّاً لفرصهم بالاستمرار في مغادرة الفقر والقلّة وضعف السطوة والهيمنة، حتّى ولو كان تصفيقاً لممرّضين أو نقلاً لمعلومة تخالف علوم القائد الأعلى.