يوسف. ي الخوري/على لَحْم شعبي يُوْلِمون وبالخمر يَسكَرون… وروحُه يكسِرون؛

87

على لَحْم شعبي يُوْلِمون وبالخمر يَسكَرون… وروحُه يكسِرون؛
يوسف .ي الخوري/05 نيسان/2020

مَن مِنكم يتذكّر “شيلوك” في مسرحية “تاجر البندقية” ل شكسبير؟ إنّه ذاك اليهودي الذي يُقرض الناس بالرِّبا الباهظ. ومَن يتذكّر “أنطونيو” التاجر النزيه في نفس المسرحية؟ “شيلوك” يكره “أنطونيو”، لأنّ “أنطونيو” الناجح في أعماله التجاريّة لم يحْتَجْ يومًا إلى الاقتراض منه. وقع “أنطونيو” في ضائقة مالية اضطرّته إلى قرضٍ بانتظار وصول بضائعه المشحونة من خارج المدينة، فقصد “شيلوك” للاقتراض منه، وبعدما أفصح عن حاجته للمال، قال له: “أنا أكرهك وأعرف أنّك خبيث، لك أن تفرض ما تشاء من فوائد رِّبويّة، وأنا سأسدّد ما يتوجّب عليّ فور وصول البواخر المحمّلة ببضائعي”. “شيلوك” وافق على منح القرض ومن دون أيِّ فائدة، لكنّه اشترط على “أنطونيو” أن يوقّع معه عقدًا فيه بند جزائي يُتيح له أن يقتطع رطلًا من اللحم من جسد “أنطونيو” في حالة عدم تسديد الدين. تمّ توقيع العقد، ولسوء حظ التاجر هبّت عواصف قويّة أغرقت البواخر وأتت على البضائع، ما عثّر التاجر عن تسديد دينه.
لجأ “شيلوك” إلى دوق البندقية حيث رفع قضية مطالبًا بتنفيذ البند الجزائي. ولمّا فُقد كل أمل في إنقاذ “أنطونيو” من قطع رطل لحم من جسده، ظهرت في المحكمة زوجة أحد أصدقاءه متنكرة بزي الرجال تحت مريول المحامين، ورافعت عنه مستغلة ثغرة في العقد، ألا وهي عدم لحظ البند الجزائي ما إذا كان يحقّ ل “شيلوك” أن يُسيل دم “أنطونيو” وهو يقتطع رطل اللحم، فقالت: “خذ رطلًا من لحمه، لكن حذارِ أن تريق نقطة واحدة من دمه وإلّا سأقاضيك وفقًا لقوانين مدينة البندقية التي تمنع إراقة الدماء، وستكون عقوبتك الإعدام ومصادرة أموالك”. هكذا تراجع المُرابي الشيطان عن دعواه وتمّت تبرئة تاجر البندقية.
(انتهت القصّة)

أخٍ كم من “الشيلوكيّين” الشياطين يقتطعون من لحم شعبي، وشعبي ينزف مستسلمًا بصمت! السلطة تقتطع من لحمه، وسائل الإعلام تقتطع من لحمه، البنوك تقتطع من لحمه، الأحزاب وخاصةً الإلهي منها يقتطعون من لحمه، الثورة النائمة تقتطع من لحمه!! يقتطعون ويقتطعون ويقتطعون، وعلى لحم شعبي يولِمون والخمر يشربون.
بالأمس جاء مرابيٌّ يسكن على تُخوم بلدتي يُريد توزيع حصصٍ غذائية للفقراء، لكنّه لم ينسَ أن يقتطع من كرامة الناس فائدته الباهظة. الدعاية والضجة الإعلامية وتحريك النيابة العامة تأتي كلّها قبل حصّة الذلّ الغذائية! يُصرّ المرابي على التوزيع من أمام فيلته، متحدّيًا رئيس السلطة التنفيذية في البلدة وكل إجراءات التعبئة الصحيّة الصادرة عن الحكومة. وتسأل ما الفائدة من هذا الإصرار طالما تأمّنت له بقعة أرض واسعة للتوزيع منها؟ فلا يأتيك سوى جواب واحد: المرابي هذا الذي يُشبه اسم عائلته كلمة “خير” – وعلى وزن كلمة أخرى أيضًا – ليست غايته فعل الخير بقدر ما هي للـ “بروباغندا” ولتطبيب عقده النفسية، فهو يُصنّف من طبقة الأثرياء الجُدد الذين حقّقوا ثرواتهم بقطع أرزاق الناس وعلى حساب اوجاعهم، وما إصراره على التوزيع من أمام داره إلّا محاولة يائسة لستر حقيقته البشعة، وظنًا منه أنّه بذلك يُنسي الناس ما اقتطعه من لحوم أجسادهم.
بأسرع من النسيم تستنفر بعض وسائل الإعلام مدافعة عن المرابي “فاعل الخير”، هي نفسها التي تتحفنا كل يوم بالمواعظ لالتزام المنازل وعدم الاختلاط، وتُهيننا إذا رصدت كاميراتها جموع لناس يتبضّعون في سوق للخضار أو يتمشّون على كورنيش، وكأنّ الاكتظاظ في “شقرا” هو غيره في “حريملا”! هذه الوسائل الإعلامية هي الأخرى لها أساليبها لنيل فوائدها ولو على حساب تجهيل الناس وتعميتهم عن الحقائق، وكيف لا، وهي – مثلًا – لا تنفك تمنّن الشعب اللبناني لغاية اليوم بأن البنوك أمّنت له بحبوحة العيش؟ وكأنّ البنوك فعلت ذلك مجانًا، أو أنّ ما فعلته يُبرّر هدرها لأموال الناس!!
بعد الإعلام، يرتفع صوت المرابي على وسائل التواصل بفيديو استعراضي ويناشد “بي الكل” للتدخّل! مدّعي عام جبل لبنان يتحرّك، هو الآخر عنده حساباته الخاصة، فالفرصة متاحة له لتبييض صفحته مع الناس الذين لا يستلطفونه. لما لا يسعى لتبييضها ولو على حساب سلامة هؤلاء الناس في زمن الوباء؟! ومن دون تردّد جاء قراره من الأسرع في تاريخه كقاضٍ وحتّى في تاريخ القضاء في لبنان: “نسمح بذلّ الفقراء”… عفوا: “نسمح بتوزيع الحصص الغذائية على الفقراء”! رئيس البلدية يرفض مُحتميًا بقرار المحافظ. المُرابي يستعرض بفيديو جديد ويتحدّى. الجياع ينتظرون صفوفًا طويلة بالقرب من فيلته، القوى الأمنية تتطوّق الفيلا ولم نفهم ما إذا كان ذلك لحماية المرابي من خطر ما أو لحمايته من جموع الفقراء، إذ قد ينقل أحدهم “الكورونا” إليه أو إلى أحد أفراد عائلته أو إلى واحد من الـ Bodyguards.
يستدرك وزير الداخلية تفاقُمَ الوضع، يتدخّل بالرغم من انشغالاته الكثيرة وسهره على أوضاع السجون كي لا يتحوّل “الكورونا” إلى “كورونا” نووي بداخلها. يتّصل بالمعنيّين ويتوصل إلى حلّ بين الحل واللا حل؛ تُسلّم الحصص الموبوءة بالذل إلى الجيش اللبناني وهو يتولى توزيعها على الفقراء.
انتهت الدعاية بسرعة، لم تُستغلْ بما فيه الكفاية، شعر المرابي. يجب إبقاء “النار والعة”، قولوا للناس غدًا سنوزّع، ادعوهم كي يسجلوا أسماءهم لكي نرسل إليهم الحصص لاحقًا، قولوا لهم أي شيء، المهم أن يأتوا ويعملوا زحمة أمام الفيلا فيكبر شأني… لكن السحر انقلب في النهاية على المرابي، فالناس ملّت الانتظار والذل، سيدة تصرّخ غاضبة: “صرتو جايبينّي 4 مرّات عيب عليكن، بدكن تدفعولي حق البنزين اللي صرفتو”، ثمّ تتربّع على الإسفلت رافضة كل المحاولات لمنعها من إغلاق الطريق. نساء أخريات آتية من بعيد تتضامن معها وتعلو الجلبة، ثمّ ينتهي اليوم الثاني على لا شيء.

لو كنت أنا وزير الداخليّة، وهذا مستبعد لأني لست من التكنوقراط، لكنتُ حسمتُ الأمر باقل من نصف ساعة، وعلى هذه الشاكلة:
أأمر الضابط المسؤول في أقرب مخفر باعتقال المرابي وتحويله إلى النائب العام بتهمة أنّه تجرّأ وعصى توجيهات المحافظ ورئيس البلدية، وخالف قرار التعبئة الصحيّة. أأمر بحجز كافة حصص الذل وتحويلها إلى مختبرات مختّصة بأمن التغذية، وإذا تأكدت سلامتها أباشر توزيعها على المحتاجين بشكل منظّم وآمن، وإذا لا، أتلفها وأحمّل كلفة التلف للمرابي وأغرّمه. بالتوازي، أحيل إلى قاضي الأمور المستعجلة بموجب إخبار، كل وسيلة إعلاميّة ساندت المرابي في أعماله الدعائية المذلّة لفقراء شعبي والخالية من الانسانيّة.
فيا أيّها المرابي المجبول بالنرسيسية وحب الظهور، ويا أّيّها “الشيلوكيين” الجدد، أمثالكم دمّر المسيحّ الهيكل على رؤوسهم، وأنا أشفق عليم لأنّكم لا تتذكّرون أنّكم تراب، ولا تعرفون أن التراب سيخجل من احتضانكم يوم تعودون إليه.

في اليوم الواحد والسبعين بعد المئة لانبعاث الفينيق.