شارل الياس شرتوني/الثنائي الشيعي واوليغارشيات الطائف والتدمير المنهجي للدولة اللبنانية

160

الثنائي الشيعي واوليغارشيات الطائف والتدمير المنهجي للدولة اللبنانية
شارل الياس شرتوني/14 شباط/2020

لم نعد في مجال التقدير النسبي لما يجري في البلاد لان الصورة قد اكتملت مع وضع اليد غير الموارب لحزب الله على الحكم في لبنان، واجماع الاوليغارشيات السياسية-المالية والمالية على إدارة السياسة المالية في البلاد، وفي كلتا الحالتين نحن أمام إلغاء فعلي للسيادة الدولاتية، والضوابط الدستورية والميثاقية، وللإرادة اللبنانية الجامعة التي عبرت عن ذاتها خلال الأربعة اشهر المنصرمة من خلال الحراكات المدنية.

هذا يعني في الحالين اننا أمام واقع انقلابي صريح يسهم بشكل حاسم في تقويض الكيان الدستوري والفعلي للدولة اللبنانية، واستهداف التوازنات البنيوية للكيان الوطني اللبناني لصالح سياسة نفوذ النظام الإسلامي الإيراني بتصريفاته المحلية والإقليمية، ومرتكزات السياسة المالية لحساب الاوليغارشيات المتنوعة، ودون أي احتساب لتردداتها المميتة على مستوى المالية العامة.

بالمقابل، تلتئم المعارضات المدنية حول ممانعات مبدئية لم تقو حتى هذه الساعة على صياغة برنامج عمل مشترك ينقلها من حيز الرفض الى ربط نزاعات فعلية تعيد التوازن الى المواجهة القائمة منذ ٤ اشهر. ان الخروج عن واقع المراوحة باتجاه تسويات تفرضها المواجهات المديدة، او باتجاه تعديلات في المشهد السياسي تعيد الاعتبار للمعايير الديموقراطية والانتظامات الدستورية تبقى حتى الساعة في دائرة التمنيات، وتبقي الشروخات المفصلية بين أهداف الحراكات وقواعد اللعبة الاوليغارشية المقفلة، وما تستدعيه من تواطاءات مصلحية وتغطية متبادلة وتفاهمات غير معلنة تنظم قواعد الاختلاف وحدود التسوية. تنتظم المواجهة مع دوائر النفوذ القائمة منذ ثلاثة عقود حول المحاور التالية :

أ- عدم التسليم بواقع الاقفالات المفروضة، وقواعد اللعبة، ومرجعياتها الإقليمية الضامنة على المستوى السياسي، وعدم التقاعس في تظهير إساءاتها الإرادية لجهة استهداف كيان الدولة الدستوري والفعلي وربط البلاد بآليات تقريرية تنأى عن مبادىء السيادة الوطنية والدولاتية، وعن قواعد الاعتدال المبدئي والسياسات التوافقية التي يجب ان ترعى التواصل السياسي في البلاد، وحجرها ضمن سياسات المحاور الإقليمية والدولية على قاعدة استنسابات فئوية اعتباطية.
ان سياسات الثنائي الشيعي هي شيعية بامتياز ولا تقيم أي وزن لما هو خارج عن نطاق مصالحها الاستراتيجية والمذهبية والريعية. تقابلها سياسات نفوذ سنية ودرزية تنعقد حول مصالح نخبها الريعية وارتباطاتهم الاقليمية المتحولة، وشبكات زبائنيتها، والتفاهمات المصلحية مع سياسات النفوذ الشيعية في مجالات المحاصصات المالية، وترفيد الزبانيات، في ظل التسليم بواقع الاستثناء السيادي الذي يوصف اداء حزب الله في الداخل اللبناني وحركته السياسية الاقليمية.
أما الفرقاء السياسيون في الأوساط المسيحية فقد تأقلموا مع سياسات النفوذ الشيعية والسنية والدرزية، وانخرطوا من الباب الجانبي، على قاعدة تحالفات غير متكافئة، ومعطوفة على سياسات المحاور الاقليمية وشبكة ارتباطاتها المالية والسياسية. ان منازعة هذا الواقع ليست بالأمر السهل، ولكنها أساسية بالنسبة للحراكات المدنية التي يرتهن نجاحها بالقدرة على ربط نزاعات مع هؤلاء الفاعلين، وتحرير التداول السياسي من قيودهم وإملاءاتها. لم تخرج اوليغارشيات الطائف عن لعبة المحاصصات كما رسمتها بالتكافل مع سلطة الوصاية السورية، ومارستها على مدى خمس عشرة سنة، وما لبثت ان استبدلتها بالوصاية السعودية-الإيرانية والتركية وامتداداتها.
ان رمادية مواقف اقطاب ١٤ آذار تنطلق من مزيج من واقعية متواطئة ومؤتلفة مع لعبة الاوليغارشيات المقفلة، ومصالحها وشراكاتها مع الثنائي الشيعي، ومحاولات الالتفاف على الحراكات المدنية واستعادة المبادرة من خلال اللعبة المزدوجة وهوامشها المبهمة. الحراك يبقى حتى الساعة حالة اعتراضية ناشطة وخلاقة، على تناقضاتها، لكنه لم يتمكن من بلورة ديناميكية سياسية جامعة وعملية في تصوراتها.

ب- تحيلنا الطبيعة البنيوية للازمة المالية الى مفارقات الوضع السياسي وطبيعة الإملاءات التي تفرضها سياسة النفوذ الشيعية وأولوياتها، ومصالح الاوليغارشيات المختلفة سياسيا والمتوافقة على صيانة مصالحها على قاعدة مقايضات متحركة. ان مسألة الدين واستحقاقاتها المتوالية في الأشهر القادمة تتطلب حسمًا سريعًا لان المسائل المالية لم تعد تحتمل وقع صراعات النفوذ المفتوحة، هذا إذا ما كان هنالك من إرادة لحماية البلاد من اخطار المماطلة الاستنسابية ونتائجها المدمرة، كما جرى مع مقررات سيدر وآلياتها التنفيذية.
ان القرار المتخذ بدفع الدين على نحو اعتباطي وبحجة الاستحقاقات المداهمة، هو عذر اقبح من ذنب، يظهر لا مسؤولية الحكومات المتعاقبة بهذا الشأن، سواء لجهة دراسة الملفات ووضع تصور لها وربطها بخطط النهوض الاقتصادي والاجتماعي والبيئي المتكامل، أم لجهة احترام المهل الزمنية والشراكات والسياسات الشرطية المرافقة.
لا بد من اعتماد سياسة التمنع التوافقي عن الدفع وما تفترضه من خطط اصلاحية متزامنة، يصار الى التفاوض بشأنها وإقرار اعادة جدولة الدين على اساسها ( المقايضة في المجالات الإنشائية والبيئية والصحية والتربوية ، تعديل معدلات الفوائد، تحديد مهل الاستحقاقات، إلغاء الدين ومرادفاته، الإصلاحات البنيوية في المالية العامة، تخفيض العجز في ميزان المدفوعات والميزان التجاري، خصخصة القطاعات العامة وفتح أبواب تملك الأسهم للمواطنين حفاظا على ودائعهم وحؤولا دون الانتقال من الاحتكارات العامة الى الاحتكارات الخاصة، كما هو الحال في لبنان اليوم، والعكس بالعكس، …).
المقلق في الأمر هو الطابع الاستنسابي والانتقائي في مجالات التعاون مع المؤسسات الدولية ( صندوق النقد الدولي، البنك الدولي، البنك الأوروبي للإنماء وإعادة التعمير، الدول المانحة …) لاعتبارات عديدة: محاذرة السياسات الشرطية انطلاقا من تحفظات واهية تدور حول السيادة الممتهنة أساسًا من قبل الاوليغارشيات، التخوف من إشراف المنظمات الدولية والدول المانحة على الاداءات المالية والاقتصادية والاجتماعية ومرادفاتها السياسية، وأخيرًا لا آخرا رغبة الاوليغارشيات في متابعة السياسات الاستنسابية على أساس تقدير أولوياتهم الاستراتيجية ومصالحهم الخاصة، والإبقاء على احوال عدم الاستقرار كحيز مفتوح للمناورة والحركة غير المقيدة والتخريب، وقد عانينا منها كلها.

ج- لقد تظهر هزال التوليفة الحكومية الحاضرة من خلال مؤشرات عدة: هيمنة نبيه بري وفريق عمله الشيعي على مجمل الاداء الحكومي الذي يدور بمعظمه حول الأزمة المالية بمختلف مكوناتها، والنسف الصريح لمبدأ فصل السلطات؛ تبعية بقية الوزراء وفقدان الاستقلال المعنوي والأدائي بشكل بين، الأمر الذي يضعف الكيان الوزاري والدولاتي على حد سواء، ويعزز صورة الدولة المتسكعة التي تفتقد المقومات الأساسية للكيان الدولاتي الديموقراطي المتماسك.
لا ترتبط الانطلاقة الهزيلة للحكومة بحداثة سن أعضائها السياسية وتفاوت اهليتهم فقط، بل بفقدان تماسكهم المعنوي والسياسي وقدرتهم على رسم مسار سياسي وادائي مستقل عن إرادة الثنائي الشيعي وإملاءاته، خاصة في ظل وصايات متشددة ومشروطة.
لا اعرف الى أي مدى سوف تتمكن من القيام بمهماتها في ظل واقع الانهيارات المتلاحقة والسريعة الوتيرة، وهي تعاني من ثغرات في تآلفها وقدراتها العملانية، وفي ظل عزلة دولية وإيحاءات نزاعية، داخلية وخارجية، تحول دون بناء سياق سياسي متماسك وفاعل.
هذه حكومة لا ترقى الى تحديات المرحلة، وهذا الخيار ليس صدفة لانه يشير الى طبيعة الخيارات السياسية التي تظلله والتي تتموضع على تقاطع خطوط جيوبوليتيكية نزاعية لا ترى في الكيان الدولاتي اللبناني سوى امتدادا لسياسات متنازعة.