نادر فوز/السلطة العمياء وعيون الثوار: فجور سياسي يمهّد لقتل المتظاهرين

106

السلطة العمياء وعيون الثوار: فجور سياسي يمهّد لقتل المتظاهرين
نادر فوز/المدن/21 كانون الثاني/2020

لم تختلف أجواء الاجتماع الأمني عن التصريحات السياسية التي تناولت ثورة 17 تشرين. المتظاهرون الذين يردّون عنف القوى الأمنية وأجهزتها بعنف مضاد، “مندسّون” ينضوون في “مجموعات منظمة” لتنفيذ “الشغب وأعمال تخريبية واعتداءات”.

لم نكن ننتظر موقفاً مغايراً سوى إعلان الغطاء السياسي التام لقمع القوى الأمنية، وتبرير تجاوزاتها المتصاعدة، وانتهاكها للقوانين الداخلية والعامة والدولية، في مواجهة مسيرات الاحتجاج. لكن قبل كل ذلك، لا بد من الإشارة إلى أنّ السلطة عينها، التي تغطي كل هذه الانتهاكات، فشلت في عقد اجتماع للمجلس الأعلى للدفاع.

فكان اجتماع أمني ترأسه رئيس الجمهورية، ميشال عون، بحضور وزيري الدفاع والداخلية في الحكومة المقالة وقادة الأجهزة الأمنية المعنية بالقمع. هو فشل جديد يضاف إلى سجل السلطة الحافل بالإخفاقات على مختلف الأصعدة، الذي دفع اللبنانيين إلى الشارع أساساً. لكن هذه السلطة، على ما يبدو، مصرّة على التّعامي عن الحقيقة. ولأنها عمياء، سعى رجال أمنها إلى إطفاء عيون عدد من الثوار، من خلال إطلاق الرصاص المطاطي على الرؤوس بهدف القتل.

انتهاكات الأمن
سبق لمدير عام قوى الأمن الداخلي، اللواء عماد عثمان، أن اتّهم الثوار بمحاولة قتل عناصر مكافحة الشغب بفعل رمي الحجارة والعوائق عليها. لكن ما تكشفه الإصابات المتلاحقة في صفوف المنتفضين، أنّ هذه العناصر تعمد إلى القتل. فاتهام عثمان وتبريره مردود إليه، والإصابات التي طالت المتظاهرين في رؤوسهم وعيونهم خير دليل على شروع عناصره بالقتل. فكانت تلك العناصر، بأوامر أو من دونها، تطلق الرصاص المطاطي و”الكلل” الحديدية على الناس عن مسافات قريبة لم تتعدّ الأمتار العشرة في أحيان كثيرة.

ونتج عنها إطفاء عيون سبعة متظاهرين حتى الساعة، وإصابة آخرين بجروح بليغة في جباههم. مع العلم أنّ هذا النوع من الأسلحة ممنوع استخدامه إلا في مسافات أقلّها أربعين متراً، ولا يجب أن يستهدف إلا الأرجل. ومقابل ذلك خرجت صور كاريكاتورية عن قوى الأمن الداخلي تشير إلى إصابة عسكريين في أياديهم وأرجلهم بفعل رمي الحجارة عليهم.

وعدا الرصاص المطاطي، كان بليغاً مشهد ضرب المنتفضين الموقوفين على مدخل ثكنة الحلو. ظهر ذلك في فيديو عند إنزال الموقوفين من عربة الأمن، فيتعرّضون للضرب والركل على رؤوسهم بوحشية عناصر مفترسة. وفي مقطع آخر ليلة الاشتباك في مار الياس، حيث كانت العناصر تسحل الموقوفين إلى داخل بوابة المقرّ ليتولى زملاء آخرون لهم رفسهم على الأرض والنيل منهم. ومن ضمن هذه الانتهاكات أيضاً توقيف ما تيسّر في الشوارع. فكل من وما يمشي على رِجلين بات هدفاً للأمن. ساهرون ورواد المقاهي والحانات في الحمرا وعمال أجانب مساكين فيها وفي مار الياس، تم توقيفهم. وكل ذلك باسم مكافحة الشغب.

تبرير قوى الأمن
وكما الاجتماع الأمني، لم يكن منتظراً من المديرية العامة لقوى الأمني الداخلي إلا التبرؤ من التهم. فجاء بيانها لتوضيح أنّ السلاح المستخدم مشرّع استخدامه في العالم على أرجل المتظاهرين وأنّ “حصول الإصابات في سائر أنحاء الجسم أو الرأس على الرغم من الأوامر الحازمة بالتسديد نحو الأرجل، فهي نتيجة لحركة مثيري الشغب، ولا سيّما في أثناء انحنائهم لالتقاط الحجارة وغيرها من الأدوات، من الأرض، وفي جميع الحالات هذا الموضوع قيد تحقيق”. يعني أنّ عناصر قوى الأمن، وللمصادفة، أصابوا سبعة متظاهرين وهو يلتقطون الحجارة.

مع العلم أنّ شهادات هؤلاء تؤكد أنّ العناصر أصابت رؤوسهم عن قصد، وقد أصيبوا وقوفاً أو خلال هربهم. ونفت المديرية استخدام رصاص “يستعمل عادةً لقتل الخنازير”، في حين أنّ الكلل التي سُحبت من أجساد بعض المنتفضين تؤكد استعمال نوع جديد من السلاح لم تشهده ساحات القمع من قبل. كما تجاهل بيان المديرية أنّ القوانين تنصّ على استخدام السلاح المطاطي في فترات النهار أو عند وضوح الرؤية. مع العلم أنّ قنابلها الدخانية والمسيلة للدموع حجبت الرؤية، ليجهز بعدها المطاطي على عيون بعض المتظاهرين بشكل كامل.

ملاحقة “المشاغبين”
طرح المجتمعون في قصر بعبدا موضوع ملاحقة كل من تراه الأجهزة الأمنية مخلّاً بالأمن ومعتدياً على الأملاك الخاصة والعامة. فلم تأتِ عبارة “التنسيق مع الأجهزة القضائية لتطبيق القوانين المرعية الإجراء” صدفة، بل المقصود فيها ملاحقة كل من واجه عنف القوى الأمنية والقصاص منه. وهذه مناسبة جديدة لسؤال هذه الأجهزة وقادتها عن التحقيقات والملاحقات المفترضة حول مجموعة كبيرة من الأحداث التي ترافقت مع ثورة 17 تشرين.

أولاً، ملفا الشهيدين حسين العطار وعلاء أبو فخر. وإذا كان ملف الأخير بات بعهدة القضاء، فإنّ ملف الشهيد الأول ناصع البياض. قاتله معروف، باسمه ووجهه وعنوانه ووشومه، لكن هذه القوى الأمنية لم تتحرّك. هي إما عاجزة أو متواطئة. وفي الحالتين لا تؤدي واجبها. تستقوي فقط على من هم عزّل، بلا غطاءات سياسية ولا ميليشياوية، على من يرفضون سياسة آمريها في السلطة السياسية.

ثانياً، ملف ضحايا غزوة الشبيحة في ساحتي الشهداء ورياض الصلح، والتي لم توقف القوى الأمنية أياً منهم. فدم المنتفضين السلميين، التي تدّعي السلطة حمايتهم وضمان سلامتهم، رخيص أيضاً.

ثالثاً، ملف حرق السيارات والأملاك العامة والخاصة إثر غزوتي الرينغ والساحات. تلك موثّقة بالفيديو والصور، وكذلك هياكل السيارات المحروقة في الصيفي واللعازارية. لكن على ما يبدو أنّ هذا ليس تخريباً وتهديداً للسلامة العامة بنظر السلطة ومن فيها. فكل ذلك لم يحرّك حرص الأجهزة على تطبيق القانون والسلامة العامة وأمن المتظاهرين السلميين. فقط من يواجه القمع وفشل الحكم بالعنف مشاغب ومندس. هذه استنسابية مسيّسة، طائفية، سلطوية، موصوفة.

وكل هذا يعيدنا إلى المربّع الأول: لا ثقة بهذه السلطة وكل من فيها. على هؤلاء إدراك أنّ الحلول الأمنية مصيرها مصير ما سبقها من أشباه حلول. لأنّ من فقد عيناً لديه أخرى، ومن فقد أصبع لديه تسعة غيره، ومن فقد وظيفة انضم إلى جيش المنتفضين، ومن فقد وطناً يسعى إلى بناء واحد لا مكان فيه لكل من سرق ونهب وقتل وهجّر وتآمر على الناس وأمنهم وحقوقهم منذ خمسين عاماً.