فاطمة حيدر/شهادات ضحايا “مكافحة الشغب”: تحطيم الأيدي وفقأ العيون

111

شهادات ضحايا “مكافحة الشغب”: تحطيم الأيدي وفقأ العيون
فاطمة حيدر/المدن/21 كانون الثاني/2020

رفيف سوني، كارين هلال، عبد الرحمن جابر، وائل قزاز، أيمن دقدوق.. أسماء يجمع بينها الإصابات البليغة، سواء في العين أو الأنف أو الأيدي والأرجل، ولكن أخطرها في العين، ما استدعى تضامناً شعبياً واسعاً ضمن حملة بعنوان “أوقفوا قنص العيون” وهاشتاغ #ثورتنا_عيونكم.

انتشرت عشرات الصور للمتضامنين الذين ظهروا بأعين مغطاة. وهو أقل واجب ومساندة يمكن تقديمها للمصابين، الذين فقدوا بصرهم بعد الاعتداء عليهم من قبل عناصر السلطة وحراسها، الذين تقصدوا إطلاق الرصاص المطاطي من مسافة قريبة لإيذائهم أشد الأذى، في انتهاك فاضح للقوانين. وإن كان الغرض أن تنطفئ أعين الثوار، فإن البصر لا يعني أن نرى الأشياء فقط، بل أن تكون الرؤية واضحة، وأن نرى الحقيقة، وتلك الحقيقة التي يدركها الثوار، ستبقى شوكة في عيون سلطة فاقدة للبصر والبصيرة في آن. “الناس عم تتقوّص مثل العصافير”.. هذا ما أجمع عليه شهود الأعيان المتواجدين في الساحات في الأيام الأخيرة، وهنا تكمن تفاصيل حكاية التضحيات من قصة وطن تتم استعادته.

“بدي أقتلِك، وين ما شايفك”، قال عنصر من قوات مكافحة الشغب لمتظاهرة، أثناء وقوفها أمام ثكنة الحلو لمؤازرة زميلها الذي اتصل بها يناشدها مساعدته، بعد إصابة في عينه، وللاحتجاج على توقيف شابات وشبان كثيرين شاركوا في تظاهرة مساء الجمعة 17 كانون الثاني الجاري، أمام مصرف لبنان في الحمرا.

أنه تهديد يؤكد أن الأجهزة الأمنية مدفوعةٌ بقرار سياسي لممارسة العنف ضد المتظاهرين. لكنها في الوقت عينه تتخبط في التعامل مع المحتجين، وفقدت قدرتها على السيطرة على الشارع، فيما تنكر الطبقة السياسية ما يحدث، وكأن رجالها ذهبوا في رحلة إلى القمر إلى حين انتهاء “الكابوس”.

رفيف سوني
ما إن انضمت الناشطة رفيف سوني (صحافية، 24 سنة) إلى زملائها أمام الثكنة، حتى تلقت ضربة عصاً من الخلف، فالتفتت إلى العنصر المكلف بحمايتها، صارخةً: “لا تضربني”، فردّ عليها: “هذه أنتِ؟! حسناً لن أضربك بالعصا”، وانهال عليها يلكمها لكمات متكررة على وجهها ورأسها، بقبضته داخل قفازات سود بها أشياء حادة. فجأة حضر عنصر آخر وانتزع منها الكاميرا التي كانت تستخدمها لتوثيق ما يحصل أثناء مشاركتها في الانتفاضة، ثم راح يضربها، وهددها بإيذائها إذا صادفها مرة أخرى! هذا فيما طرفا هذه المأساة (المتظاهرون، والقوى الأمنية) يتشاركان الهم والفقر والجوع والظلم .

همّت رفيف بالهرب. تواصلت مع رفاقها مستنجدة، ثم ما لبثت أن فقدت وعيها.

وصلت إلى مستشفى الجامعة الأميركية بفقدان جزئي للذاكرة، مع عدم وضوح في الرؤية، وإبصار الأشياء بالأبيض والأسود، ولم ينطق لسانها إلا بكلمة واحدة: “ضربوني كثير”.

بعد أيام على الحادثة/الواقعة، تؤكد الصور الشعاعية عدم وجود نزيف في رأس رفيف. لكن التشخيص الطبي يؤكد أنها تعاني من أورام ورضوض في أنحاء جسدها، عدا ضعف الرؤية لديها بسبب تعرضها لضربة على شبكة العين. فقدانها ذاكرتها جزئياً لم يغيّب الحادثة لحظة بلحظة في وعيها. يقول صديقها المقرّب: “تذكرني كشخص يساندها، لكنها لا تذكر طبيعة علاقتها بي أو ذكريات سابقة بيننا”.

ورفيف هي من انتشرت صورتها وهي تركل الواجهة الزجاجية لمصرف في شارع الحمرا. وتؤكد: “لا شيء يردعني.. لا شيء يخيفنا، الضرب سيجعلنا أكثر عناداً، هم الخائفون منا”. أما أهلها فيريدون محاسبة من تعرض لها بالضرب، مؤكدين أنهم سيرفعون دعوى ضد عناصر مكافحة الشغب. وفي اتصال أجرته العائلة مع وزيرة الداخلية ريا الحسن لإطلاعها على ما حصل مع ابنتهم، تفاجأت الوزيرة بما حصل، وحين طلبت منها العائلة المحاسبة، كان الصمت سيد الموقف. ولاحقاً بعثت الوزيرة رسالة عبر تطبيق الواتس آب إلى هاتف رفيف، ثم حذفتها.

كارين هلال
شهادة رفيف واحدة من شهادات كثيرة لنشطاء شاركوا في اعتصامات وسط بيروت وأمام مصرف لبنان وشارع الحمرا وأمام ثكنة الحلو. هذا إذا حالفهم الحظ ولم ينقلوا إلى المستشفيات نتيجة إصابات الرصاص المطاطي أو استنشاق الغاز المسيل للدموع.

وهذه كارين هلال شابة أخرى انتشرت صورتها وهي تضع جبيرة حول رقبتها ومصابة في أنفها. كانت في ساحة رياض الصلح في المسيرة التي انطلقت من البربير ظهر السبت 18 كانون الثاني الجاري. وبدأت القوى الأمنية برمي القنابل المسيلة للدموع في اتجاه المتظاهرين مباشرة، وليس في الهواء، حسب القواعد العامة لرميها. وحوصر المتظاهرون من الاتجاهات كلها، فأصابتها إحدى القنابل وأسقطتها أرضاً. ولسوء حظها سقطت على قنبلة أخرى فاحترقت يدها وغابت عن الوعي مدة قصيرة، قبل أن ينقلها الصليب الأحمر إلى المستشفى، فخضعت لعملية جراحية لتجبير أنفها.

وتروي هلال أن القوى الأمنية بدأت عنفها قبل أن يقدم المحتجون على أعمال شغب: “حتى الشعارات تستفزهم. فهل أُدرجت الشعارات في إطار أعمال الشغب؟”. وهي رفعت دعوى ضد من رمى القنبلة ومن أعطى الأمر برميها.

تكسير الأيدي
ويروي شاب شهادته رافضاً الكشف عن اسمه لدواع شخصية. فأمام الثكنة كان الشاب واقفاً مع صديقته بعيداً عن المواجهات الأمامية. لكنه شاهد أربعة عناصر من مكافحة الشغب (ضابط وثلاثة عناصر) يقتربون منه، ثم بدأوا بضرب الواقفين. وضع الشاب يديه على وجهه خوفاً من التعرض لإصابة في الرأس. طلب منه أحد العناصر الكشف عن وجهه، ثم بدأ يضربه مستخدماً عصاً، فتعرضت يدي الشاب لجروح بليغة: “كان الضرب عنيفاً فانكسرت يدي. وحين حاولت الهرب تلقيت ضربة على رأسي”.

وحسب مصدر متابع لقضايا الموقوفين “اعتقلت الاجهزة الأمنية في تلك الليلة أكثر من 20 شخصاً كانوا يحتجون على توقيف حوالى 50 شخصاً أمام مصرف لبنان في الحمراء، حيث حصلت مواجهات بين عناصر مكافحة الشغب ومتظاهرين كانوا يعبرون عن رفضهم التأخير في تشكيل الحكومة”.

ابتسامات ماكرة
في المقلب الآخر، تؤكد بيانات قوى الأمن والصليب الأحمر أن الإصابات طالت عناصر مكافحة الشغب والقوى الامنية. المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي، تبرر أنها ناشدت بمكبرات الصوت المتظاهرين السلميين بالابتعاد عن الساحات، كي تتمكن العناصر الأمنية من توقيف “مثيري الشغب”، علماً أنه مرّ 90 يوماً على التظاهر بسلمية، وسط تقاعس وإنكار مستمرين من قبل السلطة التي تحاول خداع الشعب بقولها إن التأخر في تشكيل حكومة هو بسبب طبيعة الحكومة الجديدة.

مؤسسات ومنظمات قانونية ودولية عدة رفعت الصوت لمساندة المحتجين، منها منظمة العفو الدولية التي أكدت في بيان لها “إن تصرفات قلة من المحتجين الذين قاموا بتخريب البنوك، أو قذفوا الحجارة، ليست مبررًا أبدًا لمثل هذا الاستخدام المفرط للقوة، والاعتقالات الواسعة من قبل المكلفين بتطبيق القانون. لذا نشعر بالقلق لأن قوات الأمن اعتدت في اليومين الماضيين على ما لا يقل عن ثمانية مصورين صحافيين”.

ووسط كل هذا الضجيج والدماء والدموع، تعيش الطبقة السياسية هدوءاً تاماً. وفي اجتماعاتهم توثق الصور تبادلهم ابتسامات عريضة أمام الكاميرات، هي ربما رسالة للمحتجين بأنهم “جبل ما تهزه ريح”.

الخوف الأكبر أن تضيع مطالب الناس وتضحياتهم ما في تفاصيل دِيماغوجية صمّاء. فمشهد المواجهات بين قوى الأمن والمتظاهرين فيما السلطة تتفرج.. لا يبشر بالخير!