شارل الياس شرتوني: سقوط حكم الطائف وغياب البدائل والفوضى المتنامية

91

سقوط حكم الطائف وغياب البدائل والفوضى المتنامية
شارل الياس شرتوني/14 كانون الثاني/2020

يكفي مشهد المواطنين الوافدين الى المصارف ارهاطا ارهاطا لسحب المتيسر من ودائعهم وجنى أعمارهم، والتنصت الى ارهاصات حسن نصرالله الابوكليبتية، وتخوفات ابرز النهابين في البلاد، نبيه بري ووليد جنبلاط، من الانهيار المالي، وتوقع إسقاط تكليف حسان دياب الوشيك من قبل من كلفه، ودخول الحراكات المدنية في دوامات اعتراضية دون أفق سياسي وتحت وطأة ضغط التدهور الدراماتيكي للأحوال المعيشية، وتعمم مناخات اليأس والإحباط، وشيوع اجواء نهيلية سياسية مستخدمة من قبل فرقاء سياسيين، داخليين وإقليميين، للتيقن اننا على مشارف مرحلة حاسمة سوف تأخذنا اما باتجاه ديناميكية تحلل مضطردة، أم باتجاه تسويات سياسية كبرى تخرجنا من حالة انسداد الأفق المطبقة التي تسود البلاد.

لا إمكانية بعد اليوم للتعايش مع المفارقات السيادية القاتلة التي أحلنا اليها على كل المستويات كنتيجة منطقية لنظام الطائف الذي أرسى لبنان على خط تقاطع سياسات النفوذ الإقليمية والداخلية، والذي حول الدولة اللبنانية الى صندوق إيقاع لتفاهماتها ونزاعاتها، والى مصدر لتمويل ريوعها، وتبييض أموالها، وترفيد محسوبياتها من خلال تدمير الرباطات المواطنية والمدنية لحساب نظام الزبائنيات والولاءات المسخرة.

ما نعيشه اليوم هو المؤدى المباشر لسياسات النفوذ السنية والشيعية بحبكاتها السورية والسعودية والإيرانية، ولاداءات الاوليغارشيات السياسية-المالية التي أنشأتها، وشبكات المصالح والتداخلات الاستراتيجية التي أوجدتها فحولت لبنان الى مركز لتصريف هذه السياسات بمكوناتها السياسية والمالية والاقتصادية، وتردداتها على المستويات البنيوية للاجتماع السياسي اللبناني على اختلاف مندرجاته.

ان أي مقاربة للأزمات البنيوية القاتلة التي نعيشها خارجاً عن واقع هذه التداخلات وإملاءاتها ومؤدياتها الفعلية يندرج اما في إطار الأخطاء المنهجية الشائعة عند كل الافرقاء، اما من منطلق الاداء النزاعي الإرادي الذي يتوخى ارساء ديناميكيات انقلابية تغير ماهية الكيان اللبناني، أم تنهيه مع بدايات مئويته الأولى.

ان أزمات الحكم الدورية، والمفارقات الناشئة عن صورية المؤسسات الدستورية واستخدامها من قبل مراكز القوى القائمة بامتداداتها الداخلية والخارجية، والنهب المبرح للأموال العامة، واستعمال النفوذ السياسي من اجل الإثراء الشخصي وترفيد السياسات الريعية والزبائنية في الأوساط الشيعية والسنية والدرزية وملحقاتها في الأوساط المسيحية، ليس بالأمر العارض.

لقد ادى حكم الطائف الى إنشاء اوليغارشيات مالية-سياسية احتضنتها مظلاته الإقليمية، والى تكوين تحالفات مرحلية بينها وبين الاوليغارشيات المالية القديمة، على قاعدة تبادل الخبرات وارساء الشراكات، وتقاسم سياسات اعادة الإعمار بالتراضي بين مختلف مواقعها، وتحويل النظام المصرفي الى مرتع لتبييض الأموال، ولسياسات الهندسة المالية المنفصلة عن أية سياسة إنمائية تهدف الى تفعيل العمل الاقتصادي على قاعدة الاقتصاد المعرفي، والتوازن الانمائي، والاستثمارات الخلاقة في المجالات الزراعية والصناعية والخدماتية، وتوسيع مروحة تقسيم وإيجاد فرص العمل .

لقد استعيد النموذج المالي والاقتصادي الذي فرضه رفيق الحريري على البلاد من قبل الاوليغارشيات السنية التي ورثته، ومن قبل سياسات النفوذ والاوليغارشيات الشيعية الناشئة والوافدة من أفريقيا واميركا اللاتينية ومن الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وها نحن اليوم نحصد بعد ثلاثين سنة مؤدياته الكارثية.

السؤال هل من مخرج من دائرة التلازم بين الواقع السياسي النزاعي والانهيارات المالية والاقتصادية والاجتماعية التي أودى اليها ؟

إمكانية الخروج متوافرة في حال تفعيل ديناميكيات سياسية وإصلاحية تنعقد حول المحاور التالية:

أ- ان أي استراتيجية للخروج من الأفق المسدود الذي نعيشه تفترض استعادة الحيثية الأولى للوجود الدولاتي المستقل، المبدأ السيادي بكل تطبيقاته الداخلية والخارجية .
من غير المقبول ان يضع حزب الله يده على القرارات السيادية دون تحفيز الانقسامات الداخلية التي تعرض الاستقرار الدخلي والسلم الأهلي في ظل واقع إقليمي متفجر، وان يأخذ البلاد رهينة لتأزم سياسات النفوذ الإيرانية اقليميا، وتهاوي شرعيتها داخليًا.
ناهيك ان واقع الارتهانات النزاعية المترابطة وإملاءاتها وما نشأ عنها من مصالح واداءات سياسية ومالية واقتصادية، سوف يحيلنا الى استحالات على مستوى ايجاد الحلول الملحة للمشاكل المالية البالغة الخطورة، والى احكام سياسات العقوبات والعزل الملازمة لوضعية ودور حزب الله على تقاطع خطوط النزاعات الاقليمية والعمل الاقتصادي المنحرف.
كما ان استعادة الاعتبارات السيادية يفترض اعادة القرار في السياسة المالية والمصرفية الى الآليات الدستورية، واخراجها من دائرة السياسات الاستنسابية للمصارف وتشابكاتها المصلحية مع الاوليغارشيات المالية-السياسية.

ب- لا بد من حسم مسألة تشكيل الحكومة على اساس توافقي بحده الأقصى وليس الأدنى، الأمر الذي يعني انه ينبغي تأليف حكومة ائتلافية تجمع الكفاءة المهنية والتمثيل السياسي المتوازن، الذي يحفظ التوازنات البنيوية للاجتماع السياسي، والخارج عن إقفالات وإملاءات الاوليغارشيات القائمة، من اجل المباشرة الفورية بمعالجة الطوارئ المالية والاقتصادية والاجتماعية.
حكومة حسان دياب المزمعة هي تعبير عن تسوية بالحد الأدنى ينقصها التماسك المهني والسياسي والاستقلال المعنوي تجاه مراكز النفوذ القائمة.
هذه المقاربة تملي على الحراكات المدنية التوصل الى قاعدة تفاوض توافقية فيما بينها تتجاوز الاختلافات الأيديولوجية باتجاه التفاهم حول المحاور التالية:
1- استعادة الأموال العامة،
2- الإدارة الإصلاحية للشؤون المالية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية والتربوية،
3- التحضير لانتخابات نيابية مبكرة تنهي أزمة الشرعية العميقة والشرخ القائم بين الواقع الاوليغارشي الحاضر والتطلعات الإصلاحية للحراكات المدنية، وتدفع بمجلس نيابي ذات تمثيل فعلي للتنوع السياسي في البلاد، ومهمة تأسيسية تتوخى وضع الخيارات القيمية والسياسية والدستورية التأسيسية للجمهورية الثالثة،
4- فتح باب المشاركة الديموقرطية من خلال ايجاد السلطات المهنية الناظمة، والبرلمانات البلدية، والمشاركة العضوية في اعمال اللجان النيابية.

ان أي اداء سياسي ينأى عن موجبات العمل الاصلاحي بمكوناته السياسية والدستورية والمؤسسية والمهنية، يندرج ضمن سياق التسيب الإرادي القائم الذي يستهدف التوزانات البنيوية للاجتماع السياسي، والأولويات الإصلاحية الملحة، وضرورة استئصال البلاد من إملاءات سياسات النفوذ القائمة، بمتغيراتها السياسية والمالية، التي ترخي بظلالها على المستقبل الآني والمتوسط، وتدفع بالانهيارات المتسارعة.

هذا المسار يتطلب مداخلات دولية محفزة وضامنة لديناميكيات الاستقرار والإصلاح المتلازمتين، من خلال تطبيق الفصل السابع من قانون الأمم المتحدة، واعتماد الإصلاحات الهيكلية لصندوق النقد الدولي والسياسات الشرطية للدول المانحة، وإلا فنحن في سباق مفتوح بين الانهيارات المدغمة، والنزاعات الإقليمية والدولية المفتوحة، وتردداتها الكارثية على اوضاعنا الحياتية.