د. خطار أبودياب: ارتباك إيراني بعد مسرحية الرد على مقتل سليماني/خيرالله خيرالله: كأس أخرى من السمّ

110

ارتباك إيراني بعد مسرحية الرد على مقتل سليماني
د. خطار أبودياب/العرب/12 كانون الثاني/2020

كأس أخرى من السمّ
خيرالله خيرالله/العرب/12 كانون الثاني/2020
ارتباك في طهران مع نظام مفلس
ليست عودة الروح إلى ثورة الشعب العراقي الذي نزل مجددا بمئات الآلاف إلى الشوارع، خصوصا في بغداد، سوى دليل على الرغبة من التخلّص من الوصاية الإيرانية. لم يتغيّر شيء. لا يزال هناك طموح لدى العراقيين، بكل طوائفهم، إلى استعادة العراق، أي استعادة بلدهم، بغض النظر عمّا حلّ بقاسم سليماني قائد “فيلق القدس” في “الحرس الثوري” الإيراني.
كان سليماني الذي جرت تصفيته مع أبومهدي المهندس نائب رئيس “الحشد الشعبي” العراقي خارج مطار بغداد يعتقد أنّه المفوض السامي الإيراني الذي يستطيع التنقل في كلّ العراق من أجل فرض هيمنة “الجمهورية الإسلامية” عليه.
أكثر من ذلك، كان يظنّ أنّ لديه ما يكفي من النفوذ على الأجهزة والأحزاب والميليشيات العراقية للقضاء على تطلعات العراقيين. جاء مقتله ليؤكد أنّ العراقيين لم يكونوا يوما متعاطفين معه، هذا إذا وضعنا جانبا الميليشيات المذهبية التابعة لأحزاب معروفة، وأنّ كلّ ما جرى من عراضات في مختلف المدن العراقية مباشرة بعد اغتياله كان أمرا مصطنعا لا أكثر. من سار في جنازة سليماني في العراق إنّما فعل ذلك مرغما ولم يعبّر عن حقيقة الشعور العراقي تجاه إيران ورجالها، خصوصا في أوساط الطائفة الشيعية.
أثبت العراقيون أنّ العراق ما زال يقاوم وأنّ النظام القائم منذ العام 2003 غير قابل للحياة نظرا إلى أنّه ليس لديه ما يقدّمه إلى العراقيين باستثناء تسهيل وضع اليد الإيرانية على البلد عن طريق “الحشد الشعبي”، وهو النسخة العراقية لـ”الحرس الثوري” في إيران.
الأهمّ من ذلك كلّه أنّ تصفية سليماني أثبتت أنّ “الجمهورية الإسلامية” التي أسّسها آية الله الخميني في العام 1979 ليست سوى نمر من ورق في غياب المشروع السياسي أو الاقتصادي الذي تستطيع تقديمه. رفض المرجع الشيعي الأعلى في النجف علي السيستاني تغطية إيران وردّها العسكري على اغتيال سليماني والمهندس داخل الأراضي العراقية. على العكس من ذلك، وفّر الغطاء المطلوب لاستمرار الثورة الشعبية في العراق. ربّما استفاق العراقيون على واقع يتمثّل في أنّ من حرّرهم من النظام السابق لم يكن إيران، بل القوات الأميركية وأنّ إيران ليست قادرة سوى على تصدير البؤس والتخلّف والفقر والبطالة. دفعت هذه الاستفاقة بحكومة عادل عبدالمهدي المستقيلة إلى تقديم شكوى ضدّ إيران في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ردّا على انتهاك السيادة العراقية ومبادئ حسن الجوار… عاجلا أم آجلا، سيتبيّن أن الولايات المتحدة باقية عسكريا في العراق وأن ذلك يعود إلى رغبة عراقية بذلك. رغبة شيعية وكردية وسنّية. ليس طلب عادل عبدالمهدى من الإدارة الأميركية وضع خطط لسحب قواتها من العراق سوى من باب رفع العتب. إنّه تأكيد لبحث غير مجدٍ عن توازن معيّن بين أميركا وإيران وهو توازن أقرب إلى سراب.
يُفترض لما يحدث في العراق حاليا أن يكون درسا لبلدان أخرى في المنطقة من بينها لبنان. فالتظاهرات في بغداد والاشتباكات في كربلاء ليست سوى تأكيد آخر لوجود وعي شعبي للواقع، أي للحال التي يعاني منها العراق. هناك بلد غنيّ بكلّ شيء يعاني من كلّ نوع من أنواع المشاكل بما في ذلك الفقر والبطالة والتخلّف والنقص في المياه والكهرباء والغرق في النفايات. ثمّة عجز لدى السلطات العراقية عن معالجة أيّ مشكلة من المشاكل. يعود ذلك بكلّ بساطة إلى رغبة إيران في نهب العراق وثرواته واستخدامه ورقة في مساومات وصفقات مع “الشيطان الأكبر” الأميركي. هناك وعي شعبي عراقي للواقع. متى يصبح هناك وعي شعبي لبناني يأخذ في الاعتبار أنّ في أساس مشاكل لبنان حاليا وإفلاس الدولة وجود رغبة إيرانية في فرض وصاية على البلد عبر ميليشيا مذهبية باتت تقرّر من هو رئيس جمهورية لبنان ومن هو رئيس الحكومة فيه.
كشف اغتيال قاسم سليماني الكثير. كشف إفلاس المشروع التوسّعي الإيراني. هناك حال ارتباك على كلّ صعيد في طهران. لعلّ أفضل تعبير عن حال الارتباك هذه سقوط طائرة الركاب الأوكرانية بعيد إقلاعها من مطار العاصمة الإيرانية. أدّى ذلك إلى مقتل كلّ الركاب وأفراد الطاقم وعددهم 176. اعترف الإيرانيون أخيرا بإسقاط الطائرة عن طريق “الخطأ”. هذه فضيحة تؤكد لمن لا تزال لديه أيّ أوهام أنّ إيران ليست سوى دولة متخلّفة يعتقد النظام فيها أنّ في استطاعته ممارسة لعبة التحايل إلى ما لا نهاية.
لا تشبه المرحلة الراهنة سوى تلك التي سبقت وقف إيران الحرب مع العراق صيف العام 1988 بعدما تبيّن أنّ العناد والإصرار على متابعة الحرب ليسا سياسة قابلة للحياة. جاء وقف الحرب بعيد سقوط طائرة ركّاب إيرانية عن طريق الخطأ نتيجة صاروخ أطلقته البارجة الأميركية “فينسينز” التي كانت تبحر في مياه الخليج. أربك الحادث إيران التي لم تعد تعرف ما عليها عمله، خصوصا بعد إغراق الأميركيين منشآت ومنصات نفطية في موانئها الخليجية ردّا على تهديدات صدرت عن مسؤوليها. في نهاية المطاف اضطر الخميني في 18 تموز – يوليو 1988، إلى الموافقة على مضض على قرار مجلس الأمن الرقم 598 قائلاً “كانت الموافقة على القرار مريرة حقاً ومسألة مأساوية للجميع، خصوصا بالنسبة إليّ. في هذه المرحلة، أرى أنّ ذلك يصبّ في مصلحة الثورة والنظام. الموت والشهادة أهون عليّ من ذلك. كم أنا حزين، لأنني تجرعت كأساً من السم حين وافقت على القرار”.
بين العقوبات الأميركية التي تزداد يوما بعد يوم وبين رفض العراقيين الانصياع لرغبات إيران، يبدو واضحا أنّ على “الجمهورية الإسلامية” تجرّع كأس أخرى من السمّ. هناك بكلّ بساطة مشروع توسّعي شارف على نهاياته. كانت تصفية قاسم سليماني بمثابة إشارة إلى أنّ هذا المشروع الإيراني الذي جدّد شبابه في العام 2003، بفضل الولايات المتحدة وليس بفضل أحد غيرها، اقترب من الإفلاس وأنّ لا مكان سوى لحال من الارتباك والضياع في طهران.
من الطبيعي في ظلّ هذه المعطيات أن يأخذ اللبنانيون الذين يعانون قبل غيرهم من السلوك الإيراني علما بذلك. صار لبنان على قاب قوس أو أدنى من الانتهاء من “عهد حزب الله” الذي بدأ في 31 تشرين الأوّل – أكتوبر من العام 2016. تبيّن أن التسوية التي جاءت بميشال عون رئيسا للجمهورية لم تكن تسوية بمقدار ما كانت انتصارا لـ”حزب الله”، أي لإيران. كانت انتصارا على لبنان واللبنانيين. لماذا لا يشمل التراجع الإيراني لبنان بعدما بلغ إيران نفسها وبعد ظهوره واضحا في العراق، فيما عرفت روسيا كيف تملأ الفراغ الإيراني في سوريا على وجه السرعة؟

ارتباك إيراني بعد مسرحية الرد على مقتل سليماني
د. خطار أبودياب/العرب/12 كانون الثاني/2020
إيحاء بالتماسك الوطني
باريس – تفادت طهران الذهاب نحو مجابهة شاملة مع واشنطن واختارت الرد المحدود والمقنّن على عملية قتل قاسم سليماني وأبومهدي المهندس. لكن تداعيات هذا التصعيد، أوائل هذا العام، لم تنته إن كان في الداخل الأميركي كما في الشرق الأوسط الملتهب وعلى الأخص في “الجمهورية الإسلامية” الإيرانية التي تواجه عدة تحدّيات بالنسبة لمشروعها الإمبراطوري وخصوصاً على الساحة العراقية التي لم تنطفئ فيها انتفاضة “النهوض الوطني” أو في بقية المشرق مع رد الفعل المتوقع من حزب الله في لبنان والتحركات الإسرائيلية.
وتبرز أمام الحكام في طهران تحديات ملحة أبرزها مصير الاتفاق النووي وتطور الوضع الداخلي لجهة الركود الحاد في الاقتصاد والخشية من تجدد الاحتجاجات بالرغم من الإيحاء بالتماسك الوطني واللحمة حيال سقوط قاسم سليماني بعد إبرازه “رمزاً وبطلاً قومياً”.
وسط هذه الملفات الشائكة يزداد الارتباك الإيراني ويطال دائرة صنع القرار لأن وصفة بعض العقلانية والمرونة تتعارض مع الغلبة الأيديولوجية حيث مصير نظام “الثورة” يطغى على الاستقرار الإقليمي وعلى مستقبل إيران بمكوّناتها ودولتها.
انتقل الاحتدام والصراع الإقليمي – الدولي انطلاقاً من العراق إلى مصاف أعلى بعد رحيل الجنرال سليماني منفذ التمدد وفق مبدأ “تصدير الثورة”، وصانع سياسات إيران في العراق وسوريا ولبنان، والمقرب جداً من المرشد علي خامنئي الذي ربّما راهن على قائد “فيلق القدس” كمرشح أساسي في الانتخابات الرئاسية القادمة في 2021.
هذه “الهزة الداخلية” متصلة أيضا بفقدان إيران مهندس وناظم علاقاتها مع موسكو كما مع الساسة العراقيين ونظام دمشق وقيادة حزب الله في لبنان.
بالفعل، يصعب تعويض هذا الفراغ وكان لا بد من رد إيراني لترميم الهيبة، بيد أن الاكتفاء بهجمة صاروخية محدودة يتم التركيز على أنها أولية، يترجم الارتباك في صعوبة أخذ القرار لأن خطأ الحسابات في تقدير ردة فعل الرئيس دونالد ترامب، حدا بالقيادة الإيرانية للقيام بردّ مدروس يتعمد عدم قتل أميركيين والتعويض عبر التسويق الإعلامي للردّ المزلزل ورفع السقف إلى حد طلب إنهاء الوجود الأميركي في غرب آسيا.
كما تريد القيادة الإيرانية إعطاء الانطباع عن متانة الوحدة الوطنية وراء سليماني الذي منح لقب “سيّد شهداء المقاومة الإسلامية العالمية”، والتركيز على احتمالية انتهاء انتفاضتي العراق ولبنان جراء “توحيد الصفوف بوجه العدوان”.
إلا أن الرهانات تكون على أرض الواقع، وهنا يبدو الارتباك جليّا بخصوص الإعلانات عن القصف الصاروخي ونتائجه الحقيقية أو عن الثأر المطلوب من قبل “الحلفاء” أو الشخصيات الموالية لطهران والذين عدّدتهم زينب ابنة قاسم سليماني حسب التسلسل الآتي: حسن نصرالله، بشار الأسد، هادي العامري، إسماعيل هنية، زياد نخالة وعبدالملك الحوثي.
وللتأكيد على ذلك وقف قائد القوة الجوفضائية في الحرس الثوري الإيراني ووراءه أعلام حزب الله والحشد الشعبي العراقي (المصنف رسميّا بمثابة تابع للجيش العراقي) وحماس والجهاد والحوثيين، ممّا يعني أن إيران تراهن على هذه الميليشيات ضمن “محور المقاومة والممانعة” كي تلعب أدوارها، ولو أن نائب الرئيس الأميركي يبدو مقتنعا بتقييم أجهزة استخباراته عن تعليمات أصدرتها طهران إلى “أدواتها” بعدم القيام بأي ردّ إضافي على ضربة قاعدتي “عين الأسد” و”حرير”.
ردّ لا يرتقي لحجم الخسارة
لكن نظرا إلى التداخل بين إسرائيل والولايات المتحدة حسب الرؤية الإيرانية، لا يستبعد أن تكون إسرائيل “الحلقة الضعيفة” التي يمكن أن تتعرض للثأر أو أن يحصل العكس بضربة إسرائيلية “استباقية” تأتي في وقت ملائم لحسابات نتنياهو الداخلية.
يتصل التحدي الخارجي أمام إيران بالملف النووي في أكثر من مجال. وليس من الصدَف تماماً أنه بعد يومين على قتل سليماني، في 5 يناير 2020، تقرر طهران اعتماد الخطوة الخامسة والأخيرة لتقليص وخفض الالتزامات المتعلقة بالاتفاق النووي، ووفقاً لذلك، يزيل النظام الإيراني البند الرئيسي والأخير من القيود التشغيلية المتعلقة بالاتفاق النووي، أي “القيود المفروضة على عدد أجهزة الطرد المركزي”، ولم يعد يعترف بأي قيود في المجال العمليّاتي والتشغيلي الذي يشمل “قدرة التخصيب، ونسبة التخصيب، وكمية المواد المخصبة، والبحث والتطوير”.
وبالرغم من أن هذه الخطوة الإيرانية كانت منتظرة قبل “عملية البرق الأزرق” (أطراف أوروبية كانت تعمل على تأجيل إعلان إيران عنها)، فإن الإصرار عليها في هذا الظرف يترجم المأزق وإغلاق نافذة الأمل الأخيرة المتعلقة بالأوروبيين لإحياء الاتفاق النووي. وهذه الملامسة للخط الأحمر مع الأوروبيين ردّا على الاستهداف الأميركي، أحرجت فرنسا ودورها الوسيط كما يمكن أن تدفع ببريطانيا بوريس جونسون للاقتراب من إدارة ترامب. وللتدليل على خطورة الموقف إعلان وزير الخارجية الفرنسي، جان إيف لو دريان، أنه إذا استمرت إيران في خرق الاتفاق النووي الموقع في العام 2015، فقد تتمكن من الحصول على قنبلة نووية خلال سنة أو اثنتين.
سيصعب على النظام في طهران قبول أي طرح للتفاوض قبل ظهور نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية، لأن ذلك يعني الاستسلام أو شرب “الكأس المرة”. ولذا يركز ترامب على منع إيران من إنتاج قنبلة نووية وتزداد الصعوبة في ظل ميزان القوى الحالي لأن الصين وروسيا لن تغطيا استمرار الخرق، ولأن الترويكا الأوروبية ستقترب من واشنطن.
وهذا الاستحقاق حول “الاتفاق النووي” وتحوله بشكل عملي إلى حرف ميت، يترافق مع استمرار العقوبات ممّا سيزيد من الاختناق الاقتصادي والتخوف من انفجار اجتماعي وهاجس عودة اندلاع الانتفاضة. وفي هذا الصدد، لا ترحم الأرقام، إذ أن الميزانية الإيرانية للعام 2020 التي طرحها الرئيس حسن روحاني لا تتجاوز ما يراوح 37 مليار دولار (أي ربع ميزانية العراق).
ترتسم هذه الاستحقاقات في السنة الانتخابية الأميركية ويظن البعض في طهران أن حرب استنزاف مع واشنطن في الإقليم ستكون لصالح طهران، لكن خلاصة مواجهة يناير تدل على تقدم أميركي في الردع وأن تحريك الأذرع يمكن أن يرتد على إيران. ولهذا تبدو 2020 سنة إيران بامتياز، ويتراوح الأمر بين بلورة الصفقة الجديدة مع واشنطن أو بدء أفول منظومة “ولاية الفقيه”.