المخرج يوسف ي. الخوري/إلى أهل السنّة في لبنان؛ لا تُعيدوا الكرّة

293

إلى أهل السنّة في لبنان؛ لا تُعيدوا الكرّة…
المخرج يوسف ي. الخوري/22 كانون الأول/2019

عام 1980 كان الرهبان اللبنانيّون الموارنة على موعدٍ مع انتخاب رئيس عام جديد لهم. كانت المنافسة على المنصب حامية بين المرشَّحين الآباتي شربل قسيس (لولاية ثانية) والأب بولس نعمان الذي حُسمت المعركة لصالحه وفاز بالمنصب.

حضر السفير الأميركي في لبنان آنذاك “جون غانتر دين” للتهنئة، ولم يستطع أن يخفيَ دهشته حين وجد الآباتي قسيس يتقبّل التهاني مبتسمًا إلى جانب الآباتي الجديد.

أنهى “غانتر دين” زيارته، وقبيل مغادرته همس في أذن قسيس قائلًا: “لم أشهد في حياتي مرشّحًا راسبًا في الانتخابات يتقبل التهاني إلى جانب منافسه الرابح”! فأجابه قسيس بصوته الجَهَر: “انتهت الانتخابات يا صاحب السعادة وتبدّلت الأدوار، فالآباتي نعمان هو رئيسي الآن وأنا أدين له بالطاعة كما كان هو يطيعني حين كنت رئيسه”. شدّ “غانتر دين” على يد الآباتي قسيس وودّعه قائلًا: “إن في سلوككم الرهباني ديمقراطيةً لأعظمُ من ديمقراطية أمريكا نفسها”!

رويدًا، أخوتي من أهل السنّة، فالقصّة لم تنتهِ بعد والعبرة لم تكتمل!
بعد ذلك انسحب الآباتي شربل قسيس من الحياة السياسيّة بعد الدور الكبير الذي لعبه في بداية حرب الـ 1975، وأنشأ مزرعة للأبقار ومعملًا لإنتاج الحليب ومشتقاته، وقد شهدته بأم العين يحلب البقرات وينظّف الأرض من الرَوث بتواضع جبّار… (انتهت القصّة)

عادت بيَ الذاكرة إلى القصّة أعلاه بينما كنت استمع البارحة إلى مداخلة الشيخ حسن مرعب في برنامج “يوميّات ثورة” على تلفزيون الجديد، حيث كان يصرّخ – كمن يشتم – رافضًا تكليف الدكتور حسّان دياب بتشكيل الحكومة الجديدة، وداعيًّا إيّاه إلى الاعتذار عن التشكيل، ومتمسّكًا بعودة الرئيس سعد الحريري إلى هذا المنصب الذي – على ما بدا – يعتبره شيخنا ملكًا للسنّة يتصرّف به كما يتصرّف بأوقاف دار الفتوى، ومتّهمًا المسيحيّين المنتفضين بوجه أرذال السلطة بالـ “خيانة” لعدم مجاراتهم بعض أهل السنّة في رفض تكليف دياب بقطع الطرقات. كان الشيخ مرعب يصرّخ ويثير النعرات الطائفية بينما اللبنانيون يتضرّعون إلى العناية الإلهية كي لا تتحوّل احتجاجات البعض من الشارع السني إلى مواجهات مع القوى الأمنية بسبب هذا التكليف. كان يصرّخ ولا يستمع إلى محدّثَيْه الإعلاميَّيْن نانسي السبع وفيراس حاطوم حتى وصل بنا الأمر إلى الاعتقاد بأنّنا داخل حمامٍ تركي قُطعت فيه المياه فجأة. كان يصرّخ متناسيًّا أن مَن يُطالب بعودته إلى الرئاسة الثالثة في البلاد هو ابن الحريري القائل “ما في حدا أكبر من بلدو”.

أيّها الشيخ “مُرعِب” غير العزيز عليّ،
جلّ ما أتمنّاه أن تكون العبرة قد وصلتك من روايتي في صدر هذه الرسالة، خصوصًا أنّه بدا لي وأنا أسمعك مساء أمس أن الجامعة التي ردتها، والأئمة التي تتلمذت عليهم، والمراكز التي شغلتها وتشغلها، لم يعلّموك شيئًا من معاني الديمقراطيّة التي هي ركن أساسي في الجمهوريّة اللبنانيّة، لاسيّما فيما يتعلّق بتداول السلطات.

قد لا تعني لك شيئًا الديمقراطيّة أيّها الشيخ لكونك رجل دين يتبع لدار دينيّة، لكن كرجل دين عليك أقلّه أن تتحلّى ببعض المناقب كالحكمة وحفظ الجميل!

لا أعتقد انّه يغيب عن بالك أنّ الجمهورية اللبنانية التي كنت بالأمس تستخدم ضدها خطابًا مذهبيًّا حاقدًا، هي وليّة نعمتك وتتقاضى مرتّبك ومخصصاتك من موازنتها المُنهِكة، وعليه أسمح لنفسي كمواطن لبناني أن أردّ عليك كون الضرائب التي أسدّدها تُساهم في معيشتك.

من كثرة صراخك أثناء المقابلة السالفة الذكر، اختلطت علينا الصفة التي كنت تتكلّم من خلالها، وما هو مؤكّد بحسب تصريحك أنك لا تتكلّم باسم دار الفتوى، فيبقى إمّا أنّك تتكلّم كشيخ سني وإمّا كلبناني منتفض في وجه الأرذال من سلطته الحاكمة على غرارنا.

أمّا وقد خوّنت الشارع المسيحي المنتفض، فهذا يعني أنّك من المنتفضين، وبحسب صفتك هذه سأتابع حديثي معك؛ من منتفض إلى منتفض آخر، ومن ههنا ينسحب كلامي على أهل السنّة عامةً في لبنان والغاضبين منهم بسبب إِبعاد سعد الحريري خاصة.

أنا مثلكم يُقلقني ويُحيّرني كيف هبط علينا حسّان دياب في هذه المرحلة الخطيرة من مصير وطننا، وإذ لا نملك المعطيات اللازمة لمعرفة خفايا وصوله إلى التكليف، لا يعود بوسعنا سوى الحكم على أفعاله.

أداء الرجل، نرسيسيّته الظاهرة، ثقته الزائدة بنجاح مهمّته، تجاهله لموقف طائفته منه، كلّها أمور تدل بأنّ وراءه اتفاق ما وتوليفة، لكن هل هذا يكفي لاستنهاض الشارع في وجهه، خصوصًا أنّه بالأقوال يؤكّد بأنّ حكومته ستتشكّل من خبراء ومستقلّين، وستقوم بانتخابات نيابية مبكرة؟!

هذه بالتحديد هي مطالب الانتفاضة التي حسم السيّد حسن نصرالله في خطابه الأخير بأنّها لن تتحقّق، وعليه أسأل كيف أن اليوم بعضًا من المنتفضين يؤججون الشارع في وجه دياب بينما مَن هم في خندق حزب الله لا نسمع لهم حسًّا ولا حسيس؟! هل نجحت السلطة باستغلالكم لتحقيق مآربها يا بعض أهل السنّة من المنتفضين؟! أرجو أن يكون لا، وأرجو أن توفروا غضبكم للوقت المناسب، فما تقومون به اليوم ليس في ظرفه المناسب ويُضعف الانتفاضة للأسباب التالية:

1 – في الجوهر
ترفضون حسّان دياب لأنّه أتى بتوليفة، بينما كل الحكومات الحريرية السابقة لم تتشكّل إلّا بهذا الشكل؟!

لماذا تُطالبون بعودة سعد الحريري بينما الانتفاضة تعتبره واحدًا من الطبقة الفاسدة؟! إذا كان على مبدأ أن الرئيس ميشال عون والرئيس نبيه برّي لم يتمّ اسقاطهما هما الاخران، فهذا مُعيب ومُخزي ويدل على قلّة خبرة في التعاطي مع تطوّر الأحداث، لاسيّما أن الانتفاضة تتحرّك على مبدأ خذ وطالب، وأن تفشل بأخذ جزء مما تُطالب به، لا يعني اطلاقًا أن تُعيد ما أخذت.

لماذا زجّ الانتفاضة بصراعات مذهبيّة كرمى لسعد الحريري الذي فشلت كل حكوماته السابقة، وعقَدَ التسويات مع مَن وصفه الشيخ حسن مرعب بـ “باش كاتب”؟ لماذا تستميتون في المطالبة بعودة سعد وهو الذي تخلّى عن حلفائه ومناصريه ليصل بالتركيبة الحاليّة المتعثّرة إلى السلطة؟!

إذا سبق وأن اعترف الحريري بأحقيّة مطالب المنتفضين، وهذا يعني اعترافًا ضمنيًّا منه بأنّه من ضمن مجموعة “كلن يعني كلّن”، فلماذا أنتم ملكيون أكثر من الملك وتودّون تنصيبه على الحلوة والمرّة؟!

أولم يكن هو شخصيًّا مَن سهّل وصول دياب؟ استقال، استسلم، رفض إعادة تكليفه ولم يسمِّ!

أَوَلَيس هكذا سلوك مدعاة للشكّ بتورّط الحريري بالتوليفة التي أتت بدياب، خصوصًا أنّه إذا قاطعنا بعض المعلومات يتبيّن بما لا يقبل الشك أن الحريري لم يستقل تلبيةً لمطالب المنتفضين، بل لتحسين مكاسبه داخل السلطة الحاكمة!

لا بدّ من التساؤل عمّا إذا كان حسّان دياب فعلًا هو خارج الحركة الأميركية التي يدور في فلكها الرئيس الحريري نفسه، ليصنَّف كمرشح لجبران باسيل وحزب الله!

فالرجل شغل منصب نائب رئيس الجامعة الأميركيّة في بيروت للبرامج الخارجية الإقليمية، فكيف يصل إلى هكذا مركز إذا كان يدور في الفلك الإيراني؟!

إذا كان يُرضيكم الإصرار على أنّه أتى من ضمن توليفة، أقول نعم، لكن سعد الحريري ومن لفّ لفيفه ليسوا بمنأى عن هذه التوليفة مثلهم مثل الثنائي الشيعي والتيار الوطني الحر، فاحذروا الانجرار إلى تذهيب الانتفاضة وطعنها من الخاصرة!

2- في الأداء
إذا كان الدكتور حسّان دياب لا يفي بما يُطالب به المنتفضون، كان يجب التعبير عن هذا الأمر بوضوح بمجرد أن خلت الساحة له قبل التكليف. أما وقد غُضّ النظر عن تكليفه، وهو تكنوقراط، ولا براهين قاطعة على فساده، فتقضي الحكمة التروّي وترك الأمور لمجراها خصوصًا أن الدكتور المكلّف يعد بالاستجابة لمطالب المنتفضين.

ما كان يجب المطالبة بعودة الحريري باحتجاجات ومواجهات في الشارع، مما سهّل مساعي المتربّصين بالانتفاضة لأخذها إلى قضيّة مصلحيّة مذهبيّة!

كان بالحري التركيز على اسقاط التوليفة التي أتت بدياب وانتظار الأخير أن يخطئ، ولن يصمد كثيرًا قبل ارتكاب الخطأ إذا كان يكذب.

كيف ينزلق البعض من أهل السنّة إلى الادعاء أن دياب لا يمثّل طائفتهم لأن نوابهم لم يسمّوه، في حين يُفترض أن النوّاب هم أيضًا من فصيل “كلّن يعني كلّن”.

على المنسّقين بين جماعات المنتفضين ألّا يغيب عن بالهم بعد اليوم أنّ السلطة وأجهزتها الاستخباراتية لا تجلس منتظرة أو مترقّبة، بل تسعى بكل قوّتها وعلى الدوام لتفكيك صمود الشارع المنتفض، وبأقلّ الإيمان كان على هؤلاء المنسّقين استباق خطوة التكليف وتعميم موقف موحّد على جماهيرهم في هذا الشأن تداركًا لانقسام الشارع.

آن الأوان لضبط من يتكلّمون على شاشات التلفزة بحجّة أنّهم من المنتفضين، وغالبًا ما لا يكون ظهورهم موفّقًا. كما يجب وقبل كل شيء تجنّب السجالات أمام الكاميرات في الشارع مع الأفراد الذين لا تصبّ آراؤهم في خطّ الانتفاضة، فهؤلاء في معظم الأحيان مندسّون كالذين زايدوا أول من أمس بالضغط على وسائل الإعلام لوقف تغطية احتجاجات أبناء طريق الجديدة، أو هؤلاء الذين راحوا يتفاصحون بالهتاف “الله – حريري – طريق جديدي”.

آن الأوان لتفعيل وسائل الاتصال بين مجموعات المنتفضين، فوسائل الإعلام اللبنانيّة – المشهود لدورها الإيجابي في توسّع الانتفاضة – باتت اليوم مقيّدة وتتعرّض لضغوط كبيرة لفتح أثيرها لأبواق السلطة من أصحاب الكلام المنمّق والبغيض في آن، فاقتضى التنويه لأخذ الحيطة.

أخوتي أهلُ السنّة،
بالأمس كان ياسر عرفات وكانت منظّمة التحرير الفلسطينيّة وكنتم نصيرًا لهما، مفتيكم اعتبر المنظمة جيش المسلمين في لبنان، ورؤساء وزراء سنّة كانوا يعطّلون البلد انتصارًا لقضيتهما، فانجررتم مع حلفائكم إلى محاولات اسقاط النظام تحت حجّة اسقاط المارونية السياسية، فأتيتم عليها عن غير تبرير حقّ، وقضمتم البلد بفكيّ رفيق الحريري الذي حالف السلاح والحزب بغطاء سوري، والذي أورث ابنه حملًا ثقيلًا رزح تحته وأرزح معه البلد، لكن، وبالرغم من كل ذلك، أن ترفعوا شعار “لبنان أولًا” كان أجمل هديّة نالها لبنان منذ استقلاله،
وعليه، أدعوكم ألّا تُرجعونا إلى الوراء.

في اليوم السادس والستّون لانبعاث الفينيق.