د. منى فياض: شيعة “الكوميديا الإلهية”، والثورة كعلاج

111

شيعة “الكوميديا الإلهية”، والثورة كعلاج
د. منى فياض/الحرة/01 كانون الأول/2019

احتفل اللبنانيون لأول مرة بعيد الاستقلال وكأنهم اكتسبوه للتو. ماجت ساحة الشهداء باحتفال اكتسب طابعا أسطوريا مؤسسا تجاوز جميع ما عرفه لبنان من انقسامات. لم تبق نقابة أو مهنة أو مجموعة لم تشارك.

من أصحاب الحاجات الخاصة والطلاب والأساتذة والأطباء والمهندسين والصناعيين والنقابات إلى الامهات والآباء وأطفالهم. 42 فوجا ممثلا لمعظم القطاعات في لبنان؛ واكبهم المواطنون على جنبات الطرق والساحات التي ضاقت بهم. وحده العلم اللبناني رفرف عاليا فوق الهامات؛ في استعراض تم تجهيزه بثلاثة أيام. السلوك الحضاري السلمي والابتكار والذوق والفرح كان سيد الساحات.

يريدون لبنانهم وطنا سيدا مستقلا لجميع أبنائه بإرادتهم الحرة ولا عودة إلى الوراء.

استفزت هذه المشاهد على ما يبدو نادي السادة الحكام. فتتابعت الردود بشكل تصاعدي وانتهت باستخدام العنف العاري ضد محتجين عزّل.

فبعد فشل الخطابات الرادعة بدأت سلسلة هجمات زعران “الثنائي الشيعي” “العفوية”، من راكبي الدراجات النارية. ضاقوا ذرعا بقطع الطرق بعد أن قطّعوا أوصال الوطن، وبعد أن سدّ زعماؤهم الساحات والطرق بالدشم والمواكب.

الثورة جعلت من سيرورة شفاء الذاكرة المجروحة على المستوى

الجماعي عملا يوميا
هجموا بالهراوات والسكاكين والحجارة وأصابوا القوى الأمنية أحيانا. استفزهم نصب قبضة الثورة فأحرقوه. انزعجوا من شعارات وممارسات السلمية ولبنان وطنا للجميع بلا طائفة؛ فرددوا: “شيعة، شيعة، شيعة” مقترنة بالضرب والكسر والخلع لبشر وسيارات ومحال على تخوم خطوط التماس القديمة في محاولة لإحداث الفتنة دون أن يتم القبض على أي عنصر بينهم. ثم تبعتها غزوات الفتنة الليلية المتنقلة التي غطت المناطق اللبنانية بشكل متزامن، من صور إلى بعلبك ومن بيروت إلى بعبدا وبكفيا وصولا إلى طرابلس مرددين نريد 7 أيار (في تذكير باجتياح “حزب الله” لبيروت في مايو (أيار) 2008).

أخطر هذه الهجمات كان اعتداء صبيانهم من الشياح على حي عين الرمانة حيث كاد الوضع أن يتدهور. وكان الرد عليهم دائما بالاحتماء بالقوى الأمنية وعدم تبادل العنف.

ما الاستنتاج البديهي من كل تلك الممارسات؟!
“المقاومة” التي تهجم على الشعب وتجعل الجيش متراسا بينها وبينه؛ تظهر زيف الثلاثية الذهبية التي تغنت بها وفرضتها بالقوة في البيان الوزاري: “الشعب، الجيش، المقاومة”.

ثم ما الغاية من رفع شعار “شيعة شيعة” في بيروت وصور وبعلبك؟ ألا يعني عودوا إلى مذاهبكم وطوائفكم متناحرين متقاتلين كي نتحكم بكم؟ ألا يعني الخوف من “لا طائفية” المواطن اللبناني الجديد؟

أزعجت تعليقاتي على حسابي في موقع فيسبوك أحد أنصار “حزب الله”. فرد نافيا دور “الثنائية الشيعية” في مسلسل إثارة الفتنة الطائفية، وألغى انتمائي إلى الطائفة لأنهم يصادرونها ملكا حصريا لهم قائلا: “ما اختلفوا البارحة ببكفيا، ولا اندلعت مشكلة بين عين الرمانة والشياح، ولا تصادم المتظاهرين بطرابلس، ولا حصل اشتباك ببعبدا..

كل هذه الأحداث لا تخدم أهداف صاحبة البوست الذي أضحى ممجوجا لكثرة ما نشرته بصيغ متعددة. الهدف التصويب على الشيعة وتصويرهم كرعاع بعمومهم وليس بشرذمة صغيرة منهم استفزها قلة أدب وبذاءة من تدعم وتوالي. وهي ترسل رسائل براءتها من الشيعة الذين لا أعتقدهم سيكونون عليها بآسفين.. المأزومون نفسيا كثر وبالتالي أن تتخفف طائفة ما من حالة فصامية متفاقمة لهو شيء مفيد..

المهم أن تعفي الحالة المذكورة الطائفة التي تبادلت وإياها التبرؤ من مداخلاتها المسيئة وتفرغها للذم برموزها ومقاوميها من على شرفة المنزل الذي ما كانت لتحيا فيه حرة لولا أولئك الأشراف الذين حموا البلد من إسرائيل ومنعوا التكفيريين من اتخاذ نسائه سبايا”.

من ينتقد “حزب الله” يتبرأ من الشيعة! على كل سلوكهم السياسي والميداني بدا غريبا عن قيم التشيع.

إن تبرير الاعتداءات على المسالمين بأنها: مجرد استفزاز كرد على “قلة أدب وبذاءة”، غالبا ما يطلقها المندسون الذين يكتشفون يوميا، يظهر تناقض الخطاب وركاكته.

علّق أحدهم: “اعترضتم على بوسطة الثورة المسالمة لأنها تثير الفتنة أما الاعتداءات السافرة فهي مؤلفة للقلوب!”.

كم بدوا عراة هزلين هزليين في فيديو لقاسم جابر المعروف بنقده: “نحنا هيك دغري منتحمس، خدونا على قد عقلاتنا، بس ننزل عالأرض دغري منعربش عالعمدان ومنصرخ شيعة شيعة، اتركوها لإلنا ما تنزلوا تصرخوا، موارنة موارنة، دروز دروز…”.

لكن أفضل رد ممكن على ادعاءات أن الشارع منقسم، أتى من تظاهرة أمهات الشياح ـ عين الرمانة التي أدانت نزهة الفتنة الليلية التي قصدت استعادة الاقتتال الأهلي. رفعوا شعارات واضحة:
” نازلين ضد اللي صار مبارح
سكرنا الموضوع من الجهتين
اللي بيلعب عالوتر الطائفي يكت (يحل) عن كل لبنان… نحنا لبنانية
لا نريد زعماء، لا أحد يستحق دمنا، اللي بموت بتروح عليه، ولادنا بيفقروا وولادهم عايشين عحسابنا.. ما بدنا نخسر أولادنا
بلدنا حلو بدنا نعيش مع بعض
هيدا مشهد العيش المشترك اللي قال عنه سماحة موسى الصدر، ما عنا تفرقة. أولادنا بيتعلموا بعين الرمانة..

هيدي الثورة اجت لان كلنا عنا نفس المطالب ومنرفض يستغلونا. حبوا الزعيم بقلبكم بس ما تفترقوا عن بعض..

متنا من الجوع لوين سايقينا!”.
ما يقوم به الناس على الأرض هو أخذ مسافة من الأحداث الماضية بواسطة الرواية الجديدة: بوسطة الثورة مقابل بوسطة عين الرمانة، أمهات الشياح وعين الرمانة ضد عراضات الدراجات النارية الفتنوية. النقاشات والحوارات المفتوحة لجميع المواضيع في موقف اللعازرية… جميعها ممارسات علاجية للذاكرة المجروحة التي عجزت الطبقة السياسية عن القيام بها.

“المقاومة” التي تهجم على الشعب وتجعل الجيش متراسا بينها وبينه
فعلى مستوى الذاكرة، هناك الذكريات (souvenirs)، أي ما نذكره شخصيا من تجاربنا ولا يمكن إبعادها لأنها جزء من الفكر نفسه. وهناك الشكل الآخر، الذاكرة ( memoire)، خصوصا الذاكرة المصدومة، المصابة بالتروما (الصدمة). وهي أكثر من ذكريات، لأنها عقدة التوتر التي تظهر في ردود فعل انفعالية عنيفة وغير منضبطة. هذا ما يحاول “الثنائي الشيعي” زرعه في رؤوس من يرسلهم ليتصرفوا بحسب التشريط المنبعث من الماضي.

إن التجربة الحالية المعاشة بوعي تام تكون كالثلم الذي نخطّه على الماء سرعان ما يختفي كي تعود صفحة الماء رائقة مسطحة. لكن التجربة المسببة للتروما هي كمن يحفر علامة في الحجر فتظل آثارها واضحة.

هذه الذاكرة هي التي تحتاج إلى مرهم النسيان، وليس المقصود نسيان الذكرى نفسها. الأمر يفترض عملية خاصة على المستويين الفردي والجماعي. الثورة جعلت من سيرورة شفاء الذاكرة المجروحة على المستوى الجماعي عملا يوميا. استعادة التاريخ هنا هي إعادة إحياء الذاكرة والتموضع بعيدا عن الرواية المؤلمة المروية بالعذاب المؤذي لأنه مكبوت. الابتعاد عن التماهي معها وعن قبضة الماضي المؤلم بعملية لا-تماهي معاكسة. إنه إطلاق منظور جديد لذاكرة ماضية تتحرر من التروما التي أصابتها.

هذا ما يقوم به الشعب اللبناني بنفسه منذ بداية الثورة وما نفذته عمليا أمهات الشياح وعين الرمانة وقد رفدتهن أمهات لبنانيات من جميع مكونات الشعب اللبناني.
تحيا الثورة وتحيا نساء لبنان ويحيا رجاله.