أحمد عبد العزيز الجارالله: ريش طواويس إيران يُنتف في العراق ولبنان/محمد أبي سمرا: لبنان في مخاض الخروج على أمير الحرب؟/سام منسى: الحراك اللبناني والصمت الدولي المريب

121

ريش طواويس إيران يُنتف في العراق ولبنان
أحمد عبد العزيز الجارالله/السياسة/27 تشرين الأول/2019

لبنان في مخاض الخروج على أمير الحرب؟
محمد أبي سمرا/المدن/الإثنين 28 تشرين الأول/2019

الحراك اللبناني والصمت الدولي المريب
سام منسى/الشرق الأوسط/27 تشرين الأول/2019

=================

ريش طواويس إيران يُنتف في العراق ولبنان
أحمد عبد العزيز الجارالله/السياسة/27 تشرين الأول/2019
لم يعد خافياً على أحد أنَّ نظام الملالي لا يفهم غير لغة الدم والعنف، ولذلك يقابل كل احتجاج بالرصاص، ليس فقط في إيران، بل خارجها أيضاً.
هذا ما شاهدناه في العراق منذ بداية الاحتجاج قبل نحو شهر، فالقتلى الابرياء الذين تساقطوا ويتساقطون اليوم بأيدي الميليشيات الطائفية، وقوات الأمن المأمورة من عملاء قاسم سليماني، سبقهم آخرون طوال الانتفاضة على الأوضاع المعيشية المزرية. حين اندلعت الاحتجاجات الشهر الماضي، كانت المقرات الحزبية، والقنصليات الإيرانية هدف الناس المكتوين بجمر الحرمان نتيجة الهيمنة الفارسية على كل مقدرات البلاد، فيما للأسباب ذاتها اندلعت الثورة اللبنانية، حيث حاول حسن نصرالله قائد حزب تهريب الأفيون ومصانع الكبتاغون وغسل الأموال غيرالنظيفة، المتوهم نفسه مرشدا للنظام السياسي الحالي، إجهاضها بشتى الطرق غير أنه أصيب بخيبة أمل حين وجد نفسه معلقاً على خشبة الاتهامات التي كالها للمتظاهرين السلميين. ثورة اللبنانيين امتازت بسلميتها، بسبب تعدد أطياف التركيبة الاجتماعية والسياسية، فيما الأمر يختلف في العراق الذي تعتبره إيران بوابتها إلى العالم العربي، سياسياً ودينياً واقتصادياً، وأي خلل في المنظومة القائمة في بغداد يعني اضمحلال الهلال الفارسي في الإقليم ككل. هذه الدموية العراقية تعني صراحة أن نظام طواويس طهران لن يوفر أي وسيلة للحفاظ على مكتسباته التي حققها في السنوات الماضية، فيما العواصم الأربعة المتسلط عليها، لم تعد ضمن دائرة الهيمنة، لا سيما أن محاولة حسن نصرالله إجهاض الثورة الشعبية بشتى الطرق فشلت، بعدما جاءه الرد من بيئته التي كان يعتبرها حتى الأمس القريب “خزان المقاومة”، على غير ما توقع، رفضاً لدفاعه الوقح عن نظام سياسي فاسد متهالك يشارك أركانه في تقاسم المغانم الحرام وتجويع اللبنانيين. ما يجري في العراق ولبنان اليوم هو نَتْفٌ لريش الطاووس الفارسي، فإذا كانت التعددية اللبنانية تفرض عدم اللجوء إلى العنف، وتجعل من سلاح “حزب الله” نقطة ضعفه لاستحالة استخدامه أو حتى التهديد به، فإن الأمر يختلف في العراق، لأن المنقلبين على الطاقم السياسي الحاكم هم بيئته الطبيعية، وبالتالي أي اهتزاز لقبضة هؤلاء تعني خسارته كل ما حققه خلال 16 سنة، وتاليا سقوط الحصن الأخير الذي سيؤدي لاحقا إلى تأجيج الثورة في إيران حيث الجمر تحت الرماد والاحتجاجات مستمرة منذ بداية العام الحالي. الدماء البريئة التي سالت في العراق، وبهذه الغزارة تدل على انسداد أفق المشروع الفارسي، وهشاشته، وهي لا شك ترجمة حرفية لقصيدة أمير الشعراء أحمد شوقي:
“فَفي القَتلى لِأَجيــــالٍ حَياةٌ
وَفي الأَسرى فِدًى لَهُمُ وَعِتقُ
وَلِلحُرِّيَّةِ الحَمــراءِ بابٌ
بِكُلِّ يَدٍ مُضَــــرَّجَةٍ يُدَقُّ”.
أما الثمن الذي يدفعه العراق في مواجهة التوسع الفارسي، فسيكون له كبير الأثر مستقبلاً على المنطقة العربية ككل، إذ حين تثور بيروت التي كانت تطبع، وتقابلها بالثورة بغداد التي كانت تقرأ، فإن ذلك يعني بدايةً لعصر عربيٍّ لا وجود فيه لكل خائنٍ ركب قطار العمالة لإيران، كي يستقوي على أبناء شعبه.

لبنان في مخاض الخروج على أمير الحرب؟
محمد أبي سمرا/المدن/الإثنين 28 تشرين الأول/2019
هل وضعت انتفاضة 17 تشرين الأول المستمرة لبنانَ في مخاض خروجه على تاريخ حروبه الأهلية الدامية والباردة، وعلى سلطان أمير الحرب الذي يعتقله اليوم، ويحوّله إمارة حربية؟
أظهرت انتفاضة اللبنانيين الراهنة – انتفاضة 17 تشرين الأول 2019 الجاري، الشبابية والشعبية – أن المسافة قصيرة بين وقائع يومياتها، قولها ولغتها ونبضها في الشوارع والساحات، وبين شاشات التلفزيون التي ساهمت بقوة وفاعلية في دبيبها وتوسعها وانتشارها وصناعتها في الأماكن والعلنية العامة والبيوت. فالانتفاضة شدّت الناس إلى الشاشات التلفزيونية، وأجلستهم أمامها ساعات وساعات في البيوت، بقدر إسهام الشاشات في إخراج الناس من بيوتهم إلى الساحات والشوارع، للتجمهر والاعتصام والاحتفال فيها، ولطلب الوقوف والكلام والظهور على الشاشات التلفزيونية، بحميّة واندفاع لافتين ومحمومين.
الحريري وأمير الحرب
وقد يكون لبنان واللبنانيون بلداً وشعباً تلفزيونيين، ولا شيء يوحّدهما أكثر من التلفزيون الذي يشكل مرآة أساسية لوقائع حياتهم اليومية، حوادثها والخبر عنها ولغتها، ويتدخل في صناعتها. وهذا أقله بعد الحرب (1975-1990)، ومنذ بداية زمن رفيق الحريري اللبناني في مطالع التسعينات من القرن الماضي. وهو زمن اختُتِم باغتياله المدوي، وبمساهمة التلفزيون الفاعلة والقوية في تأجيج “انتفاضة الاستقلال” أو “ثورة الأرز”، الوليدة من حادثة الاغتيال، والمستمرة ما بين 14 شباط و14 آذار 2005. وقد تكون تلك الانتفاضة والانتفاضة الحالية أقوى أوقات توحيدهم التلفزيوني.
وبعد انتفاضة 2005، سرعان ما بدأ زمن السيد حسن نصرالله التلفزيوني، منذ اختبائه بعد حرب تموز – آب 2006، وعدم ظهوره مذّاك وحتى اليوم، إلا في خطبه الدورية المشهودة المتلفزة، التي صنعت هالته المقدسة. ولما كان لهذه الهالة أن تبلغ هذا القدر من السطوة، لولا إيران الخمينية ومالها وسلاحها وعقيدتها الشيعية الحسينية الكربلائية، وصناعتها المقاومة الشيعية للاحتلال الإسرائيلي في جنوب لبنان، وحروب حزبها في الداخل اللبناني، وفي حرب أو مقتلة ومجازر النظام الأسدي للشعب السوري الثائر وتشريده وتدمير سوريا.. ولولا الإطلالات التلفزيونية الدورية لأمير الحروب الإيرانية الدائمة في لبنان وسائر المشرق، منذ اختبائه بعد حرب 2006.
اختفاء المهرجين
لا شك في أن انتفاضة 17 تشرين الأول المستمرة في لبنان، قوضت مسرح التهريج اليومي للزعماء السياسيين اللبنانيين ومهاتراتهم وفضائحهم، وكشفت ضحالتهم، ومزقت الشرنقة الخانقة والموبوءة والقميئة التي سُجنت فيها حياة اللبنانيين السياسية. أقلَّه منذ حاصرت انتفاضة 14 آذار أمير الحرب، فحاصرت الاغتيالاتُ والتفجيرات زعماءَها وقادتها، ورماها الأمير إياه بـ”النصر الالهي” الذي حوّل لبنان “جمهورية خوف”، وراح يخاطبها تلفزيونياً من مخبئه السري، مهدداً متوعداً نيابة عن سيده الإيراني وجيشه السري في لبنان.
أما النواب والوزراء اللبنانيون الذين يعيّنهم ويديرهم الزعماء “الكبار” الخمسة أو الستة (حسن نصرالله، نبيه بري، ميشال عون، سعد الحريري، وليد جنبلاط، وسمير جعجع)، فقد غيبتهم انتفاضة 17 تشرين، وأسدلت عليهم يومياتها، موقتاً على الأقل، ستاراً، فبدوا من ورائه كما صورتهم كلمات المنتفضين في الشوارع والساحات وشهاداتهم المتلفزة: زمرة من الدهاقنة النّهابين المتسلقين والدجالين، الذين أفقروا البلاد وتسلطوا عليها، وتركوا أهلها يتخبطون في الذل والمهانة والقهر.
ولم يكذّب الزعماء ونوابهم ووزراؤهم وبطاناتهم وحاشياتهم ما ذهبت إليه الانتفاضة، فسكتوا واختفوا بعدما انهار مسرحهم، وعجزوا عن أي قول يرد عنهم سيل التهم المنهالة عليهم كعاصفة مفاجئة انفجرت في وجوههم وأخرستهم، بعدما كان هذرهم الفضائحي يملأ الشاشات التلفزيونية ويشغل الناس.
وبعد الأيام الأولى من انتفاضتهم، انتقل ناس الانتفاضة في الشوارع والساحات وعلى الشاشات، من شتم زعمائهم إلى التظلم منهم، وصوّرُوهم وباءً سمّم حياتهم ونكبها وجعلها لا تطاق، ولم يترك لهم خلاصاً من الوباء ومنهم سوى الخروج إلى الشوارع والانتفاض عليهم وشتمهم بلا هوادة، وعرض مظالمهم الشخصية، فرداً فرداً، أمام الكاميرات التلفزيونية. أما زعماؤهم الثلاثة الأساسيين والمتصدرين بتفاوت المشهد السياسي والحكومي (حسن نصرالله، ميشال عون وظله جبران باسيل أو العكس، وسعد الحريري)، فخرجوا عليهم في إطلالات تلفزيونية ثلاث، ووافقوا على أقوالهم ومظالمهم، وكالوا لها ولهم المدائح والنصائح، لتكون انتفاضاتهم مقبولة وفاعلة. ورمى كل من هؤلاء الزعماء المسؤولية عما آلت إليه أحوال البلاد وأهلها، على سواه، متبرئاً هو ورهطه منها. والحق أن تقاذف المسؤولية والتبرّؤ منها، هو لب السياسة اللبنانية ومركبها الديموقراطي الطائفي.
الإرث والثورات المضادة
وجعل المنتفضون انتفاضتهم وانفجارها، منصة تلفزيونية لتبرُّئهم من زعمائهم وأفعالهم المديدة، ومن سكوتهم المديد عليهم وعلى تلك الأفعال. وهم في هذا قسروا الانتفاضة كلها، كلاماً وصوراً وكرنفالات، على ذلك التبرّؤ، على مسرح سيال يعرض أحوالهم ومظالمهم، مبتهجين بخروجهم من شرانقهم وولاءاتهم التي سجنهم الزعماء فيها، وسجنوا أنفسهم، أقله منذ تسعينات القرن الماضي. وذلك بعدما خرجوا خروجاً منقوصاً وموقوفاً من حروبهم الأهلية أولاً، ومن قمقم الوصاية والسيطرة والولاية الأسدية عليهم وعلى بلادهم وزعمائهم، وإرادتها وإدارتهم على مثال حرب أهلية باردة، صدعوا واستجابوا إليها صاغرين، وأخرجهم منها وعليها اغتيالُ رفيق الحريري، خروجاً منقوصاً ومعلقاً.
لكن انتفاضة 17 تشرين الأول المستمرة سكتت سكوتاً تاماً عن ذلك الإرث المديد الذي يشكل مسار تاريخ لبنان السياسي ومداره، منذ بدايات حروبه في العام 1975. وهذا ما فعلته انتفاضة الاستقلال سنة 2005، بسكوتها عن التاريخ والإرث الذين سبقاها. وفي الانتفاضتين هاتين، كانت الكرنفالات الآنية في الشوارع والساحات وعلى الشاشات التلفزيونية، هي الفعل السياسي المشهدي الأساسي، والذي طغى على القول والعمل السياسيين. وحده أمير الحرب التلفزيوني وجيشه السري وجمهوره المرصوص المطواع، كانوا متهيئين على الدوام للقيام بانتفاضات أو ثورات مضادة، تستعمل التلفزيون ومشهدياته أدوات سياسية حربية واقعية، وغير آنية، بل معدّة ومبرمجة ومخطط لها في السر والخفاء. لذا حطم أمير الحروب ورهطه، بثورتهم المضادة المبرمجة خطوة خطوة، انتفاضة استقلال 2005 التي عجزت مشهديتها الكرنفالية الديموقراطية والآنية، عن القول والفعل السياسيين اللذين يحوّلان مراجعةَ التاريخ الكئيب السابق عليها والمفضي إليها، عملاً سياسياً ديموقراطياً، فاعلاً ومستمراً في دوائر العلانية العامة ومنابرها.
ولم تستفد انتفاضة 17 تشرين الأول الراهنة من انتفاضة الاستقلال المحبطة والمهزومة، والتي حولها زعماء السياسة والجماعات ورهطهم دوائر ومنصات وشرانق لتمتين زعاماتهم وأجهزتها الحزبية المغلقة على الولاءات والإعالة والتصدر والمكانات، وتقاسم المغانم.
بل قد تكون الانتفاضة الجديدة قد استفادت من انتفاضة 2005، بخروجها الصريح من شرانق الزعماء وأجهزتهم الحزبية والسياسية، وعليها، قولاً وفعلاً وعملاً، بعدما نضبت مصادر الإعالة وتقاسم المغانم في إدارة الدولة ومؤسساتها وأجهزتها، وأشرفت على الانهيار والإفلاس.
العونية المتأخرة
وقد يكون التيار أو الشيعة السياسية العونية هي الأشد جوعاً ونهماً إلى المغانم والإعالة والتسلق والتصدر والمكانة، لأنها وصلت متأخرة إلى نادي قدامى زعماء الحروب والمغانم وشرانقهم، وأرادت إحداث انقلاب فيها، وخصوصاً على الحريرية التي تصدرت على نحو هادئ ومديد المشهد السياسي في دولة ما بعد الحرب، باسم الإعمار والبناء، في ظل الوصاية الأسدية على لبنان، وتقسيمها السياسة والحكم والدولة والبلاد والجماعات إلى دوائر واختصاصات متفرقة متباينة، وتابعة كلها لها وتديرها: حذف المسيحيين عموماً من المعادلة اللبنانية وتهميشهم، ونفي زعمائهم، لقلة عدائهم للغرب وإسرائيل، وعدم حربهم عليها بوكالة أسدية ونيابة عن ديكتاتورية في سوريا. واستعمال الحريري لإدارة الإعمار والبناء وتوزيع المغانم على أمراء الحرب والطوائف. واستعمال الشيعية أهل حرب وإمارة حربية على إسرائيل، بوكالة أسدية – إيرانية مزدوجة.
وبعد حرب 2006، والثورة السورية القتيلة والمغدورة منذ 2011، راحت الإمارة الحربية الشيعية وأميرها يتسلطان على لبنان تسلطاً كاملاً لتحويله كله إمارة حرب أمنية وسياسية إيرانية. وبعد مخاض عسير أوكلت إلى الحريرية الجديدة المنهكة إدارة الشؤون الحياتية والمعيشية في هذه الإمارة، بالتقاسم مع الشيعة العونية الجائعة والنهمة الى المغانم والتصدر، والى الثأر من الحريرية التي أرسى ركائزها رفيق الحريري.
معجزة سياسية
هذا الإرث الثقيل والمديد هو الذي تحاول انتفاضة 17 تشرين الأول المستمرة الخروج منه وعليه، بشتيمة الزعماء أولاً، وبالتظلم منهم ثانياً، وبإحيائها كرنفالات يومية في الشوارع والساحات، احتفالاً بهذا الخروج الآني الكبير. وهو خروج كبير بقدر ما ضاق به صدر أمير إمارة الحرب اللبنانية، الخبير بالتحضير للانتفاضات أو الثورات المضادة، في لبنان وسوريا والعراق واليمن، والتي باشرها في ساحتي رياض الصلح والشهداء، قبل بدئه بخطبته الأخيرة وفي ختامها. وأشد ما يضيق به صدر أمير الحرب وجيشه السري ورهطه الجماهيري، هو نزع القداسة عنه.
وكم تبدو صعبة ومريرة وغامضة، وتحتاج إلى جهد جبار متصل، مغادرة انتفاضة 17 تشرين الأول الراهنة، الشتيمة والتظلم وعرض الحال أمام عدسات الكاميرات التلفزيونية؟ وذلك لاجتراح قول وفعل سياسيين صريحين يراجع ذلك الإرث المديد والثقيل، للبدء في محاكمة إمارة الحرب وسلطان أميرها على لبنان واللبنانيين. وكذلك أسراه ومواليه من الزعماء والسياسيين الذين أسدلت الانتفاضة الراهنة الستار عليهم آنياً، فغابوا غيبته في انتظار الترويع الذي قد ترتكبه ثورته المضادة، ليعودوا الى مسرحهم الموبوء في رعايته وحمايته.

الحراك اللبناني والصمت الدولي المريب
سام منسى/الشرق الأوسط/27 تشرين الأول/2019
يشهد لبنان منذ أكثر من عشرة أيام حراكاً شعبياً، غير مسبوق منذ نشأة الكيان عام 1920، في انتفاضة شعبية عفوية عابرة للطوائف والمناطق والطبقات الاجتماعية والانتماءات السياسية والحزبية. انتفاضة امتدت على مساحته، شارك فيها أكثر من مليون ونصف مليون متظاهر، رفعوا شعارات اعتاد اللبنانيون تجنبها واعتبارها من المحرمات، وتخطوا عوائق وهمية ومفتعلة أغلبها طائفي ومذهبي، أبعدت اللبنانيين بعضهم عن بعضهم، وأوهنت حسهم الوطني.
انتفض الناس العاديون من نساء ورجال وشباب محبط، على تراكمات من الفساد والتسويات الكاذبة وأوهام فاقدة الصلاحية عمرها عقود، ساعين إلى الإمساك بزمام التغيير والمصير نحو مستقبل أفضل، يتجاوز إخفاقات جرَّت مآسي في ماضٍ قريب وبعيد، وإلى استعادة الوطن كمساحة عيش مستقر لجميع أبنائه.
لا شك في أن هذا الحراك يشبه ثورات الربيع العربي، كما يشبه ثورة الأرز التي اندلعت في لبنان عام 2005 ومهَّدت لهذا الربيع، إنما يمتاز أيضاً بخصوصية وفرادة، لما أحدثه من تغيير بنيوي في جسم المجتمع اللبناني، مشكلاً مرحلة مفصلية ومؤسسة في مسار انتقال اللبنانيين من مجموعات طائفية الانتماء تتشارك العيش في مساحة جغرافية، إلى مواطنين تخطوا بما يشبه الأعجوبة طوائفهم وزعاماتهم وانتماءاتهم الفرعية كافة، لينصهروا معاً تحت مظلة الانتماء إلى الوطن.
سيكتب الكثير في تفنيد أسباب انتفاضة 17 أكتوبر (تشرين الأول) اللبنانية ونتائجها المحتملة، إنما ما يستوقفنا اليوم هو موقف الدول الغربية المتجاهل لها، وهي حاملة لواء قيم الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، أقله مقارنة مع موقفها من ثورة الأرز عام 2005. فحتى كتابة هذه السطور، يلف صمت مريب هذه الدول إزاء الانتفاضة، وكأن تظاهر أكثر من مليون مواطن في وطن لا يتجاوز عدد سكانه الملايين الأربعة لا يستأهل التوقف عنده.
للموضوعية، نستطيع رصد بيانات خجولة بعبارات مواربة وعناوين عامة، نوَّهت بورقة الإصلاحات الاقتصادية التي أعلنها رئيس الحكومة سعد الحريري، متجاهلة في الوقت عينه دلالات خروج هذا العدد من المحتجين وأبعاده، تخطت مطالبهم الحقوق الاجتماعية والاقتصادية، لتصل إلى المطالبة باستعادة وطنهم ممن خطفه سياسياً وسيادياً وإدارياً.
عام 2005، رمت إدارة الرئيس جورج بوش الابن بثقلها إلى جانب ثورة الأرز التي اندلعت شرارتها إثر زلزال اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية آنذاك رفيق الحريري. وكذلك فعل نظيره الفرنسي جاك شيراك، الذي حتى قبل ثورة الأرز وفَّر حاضنة خارجية سمحت بصدور القرار الأممي رقم 1559، الذي نص على خروج جميع القوات الأجنبية من لبنان، وحل جميع الميليشيات. وكذلك فعل كثير من العواصم الأوروبية. فلماذا هذا الصمت اليوم، وما يجري قد يكون في وجدان اللبنانيين أكثر أهمية من ثورة الأرز؟!
فثورة 14 مارس (آذار) 2005، جاءت من جهة كردة فعل شعبية على اغتيال الرئيس الحريري، وكرفض للوصاية السورية التي أرهقت كاهل الوطن طوال ثلاثين عاماً، ومن جهة أخرى رداً صارخاً على مظاهرة نظمها «حزب الله» في ساحة رياض الصلح يوم 8 مارس (آذار) 2005، تحت شعار «شكراً سوريا»، التي وجهت إليها أصابع الاتهام بارتكاب جريمة الاغتيال. كان التجاذب بين اللبنانيين آنذاك واضحاً، وضعهم وجهاً لوجه في معسكرين متحاربين.
أما انتفاضة 17 أكتوبر، فهي جمعت أكثر من مليون ونصف مليون لبناني من أقصى شماله إلى أقصى جنوبه ومن غربه إلى شرقه، افترشوا خلال 12 يوماً الساحات، جامعين في حراكهم البعد الاجتماعي – الاقتصادي إلى البعد السياسي – السيادي، ضمن قاسم مشترك واحد، هو رفض الطائفية بأبعادها السياسية والحزبية والاجتماعية. ولا نبالغ إذ نقول إنه إذا كان عام 1920 قد شهد قيام الدولة اللبنانية، فعام 2019 قد شهد قيام المواطن اللبناني لتعزيز لهذه الدولة، عبر إرادة شعبية جامعة عابرة للطوائف والمناطق والطبقات الاجتماعية كافة.
هذه الانتفاضة فاجأت كثيرين، كما الطبقة السياسية، وكشفت أكثر من حقيقة، أولها أن «حزب الله» خطف فعلاً الطائفة الشيعية وانتفاضة صور والنبطية وكفرمان وبعلبك، على واقع من الهيمنة عمره ثلاثون سنة، أربكت الثنائي الشيعي من تفلت قواعدهم. وثانيها أن سنة لبنان متمسكون بلبنانيتهم، وبشعار «لبنان أولاً»، وأن اتهامهم بالاستكانة والرضوخ غير صحيح، كما اتهامهم بالتطرف والتشدد، وطرابلس عروس الثورة خير مثال. فالمكوِّن اللبناني المسلم بشقيه السني والشيعي شكَّل عماد هذه الانتفاضة إلى جانب المسيحيين، وجميعهم يتحركون كلبنانيين، مدركين أن مصيرهم رهن وحدتهم. وثالثها أهمية العامل السيادي في هذا الحراك، وأن الأزمة في لبنان هي أزمة بنيوية وسياسية وسيادية، سببها هيمنة «حزب الله» وحلفائه من كل الطوائف على القرار السياسي والدبلوماسي والأمني. فالقهر لا يولد فقط من الفقر والجوع، وإنما أيضاً من الاستضعاف والاستعلاء. و«حزب الله» استضعف شركاءه في الوطن، واستعلى عليهم في سياسة «الأمر لي». وأخيراً، أظهرت الانتفاضة مدى انعدام الثقة بين المواطن والسلطة، وأن اللبنانيين، لا سيما جمهور «14 آذار»، تعلموا من الماضي، حين نزلوا عام 2005 إلى الشارع مطالبين بالحرية والسيادة والاستقلال، على أمل أن تتحمل القيادة السياسية المسؤولية، ففشلت، ومني المواطن بخيبات متلاحقة.
لكن السؤال هو: لماذا صمتت الدول الغربية؟
لا بد من التسليم بأن من لا يساعد نفسه لن يساعده الآخرون! فعندما قرر قادة ثورة الأرز في الانتخابات التي تلتها التحالف مع «حزب الله»، ورفض بعضهم إقالة الرئيس إميل لحود، خذلوا من وقف إلى جانبهم من الدول الغربية، وخذلوهم ثانية عندما وقَّعوا اتفاق الدوحة، وثالثة عندما دخلوا في تسوية جاءت بحليف «حزب الله» المسيحي رئيساً للجمهورية.
ولا بد من التسليم أيضاً بانسحاب الإدارة الأميركية الحالية من مشكلات المنطقة ونزاعاتها، ومستوى الاهتمام المتدني الذي تعطيه للديمقراطية ونشر قيمها في العالم. وبحقيقة أخرى هي تحول العلاقات الدولية من علاقات بين مؤسسات إلى علاقات بين أشخاص. ومن هنا نفهم تعويم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورقة الرئيس الحريري الإصلاحية، بحكم الصداقة بينهما.
ومع ذلك، يجب ألا تغيب عن المتابع أسباب أخرى أكثر أهمية، يمكن إيجازها في ثلاثة:
أولاً، عدم الرغبة الدولية في إعطاء انطباع خاطئ دون أدنى شك، بأنها وراء الحراك الشعبي، خشية إجهاضه باعتباره نتيجة لدعم سفارات وقوى أجنبية، كما قالها صراحة حسن نصر الله.
ثانياً، خشية انزلاق لبنان إلى قتال داخلي، يضاف إلى صراعات المنطقة التي ضاق بها العالم ذرعاً.
ثالثاً، قد تكون الدول الغربية، لا سيما الولايات المتحدة وفرنسا، تتجنب حالياً إغضاب الجانب الإيراني. فقد سبق لواشنطن أن تخلت في الحرب السورية عن حلفاء بسبب التخوف من إجهاض مفاوضات الاتفاق النووي الجارية آنذاك، أو أن تتملص إيران من تنفيذه بعد توقيعه.
الخيبات العربية من الغرب الديمقراطي أصبحت مألوفة، لا سيما من سياساته قصيرة النظر، والتي تعمل على إخفاء المشكلات تحت السجادة بدلاً من حلها جذرياً. لكن التجارب على مدى العقود الماضية غرباً وشرقاً، أثبتت أن ما يخفى تحت السجادة يتآكل ويتعفن ويهترئ، وتفوح رائحته النتنة، ولا يلبث أن ينفجر، والحروب والنزاعات الدائرة في المنطقة في أسبابها وتداعياتها ليست استثناء لهذه القاعدة.