مقالات 6 من جريدة الشرق الأوسط تنقل وضع لبنان الإحتلالي ومأساة شعب لبنان المسروق والمنهوب من طاقمه السياسي/الكتاب هم: نديم قطيش/أمل عبد العزيز الهزاني/عبد الرحمن الراشد/سمير عطا الله/يوسف الديني/د. حسن أبو طالب/د. شمسان بن عبد الله المناعي

137

مقالات وتحليلات وأراء 6 من جريدة الشرق الأوسط تنقل وضع لبنان الإحتلالي ومأساة شعب لبنان المسروق والمنهوب من طاقمه السياسي الإسخريوتي والطروادي الفاجر

انتفاضة ضد الفشل قبل الفساد
نديم قطيش/الشرق الأوسط/22 تشرين الأول/2019

لماذا لم ينزل نصر الله إلى الشارع؟
أمل عبد العزيز الهزاني/الشرق الأوسط/22 تشرين الأول/2019

لبنان وسقوط الرموز المقدسة
عبد الرحمن الراشد/الشرق الأوسط/22 تشرين الأول/2019

هل يستحق كل هذه العزلة؟
سمير عطا الله/الشرق الأوسط/22 تشرين الأول/2019

من سوريا والعراق إلى لبنان: جدران الملالي المنهارة
يوسف الديني/الشرق الأوسط/22 تشرين الأول/2019

حراك الجماهير الغاضب والبدائل «المرتبكة»
د. حسن أبو طالب/الشرق الأوسط/22 تشرين الأول/2019

هل يستعيد «حراك الأرز» الكرامة والأمان لشعب لبنان؟
د. شمسان بن عبد الله المناعي/الشرق الأوسط/22 تشرين الأول/2019

=================

انتفاضة ضد الفشل قبل الفساد
نديم قطيش/الشرق الأوسط/22 تشرين الأول/2019
ليس الفساد وحده ما فجّر في لبنان ثورة 17 أكتوبر (تشرين الأول). ما تخطئه عين المراقب أن الفساد كان من أسباب نهضة البلد بعد الحرب الأهلية، وقد وظّفه الراحل رفيق الحريري، توظيفاً عبقرياً لتسريع مشروع الإعمار والنهوض. جاء الحريري إلى بلاد من خراب، تحكمها نخبة من أمراء الحرب الممسكة بأجزاء كبيرة من قرارات طوائفها، وإلى بلاد فوّض أمر رعايتها عربياً إلى نظام حافظ الأسد، الذي أسس، بحسب عبارة الكاتب جهاد الزين، شفاه الله، نظاماً واحداً في بلدين. وقد شكّل لبنان بورشته الإعمارية وبالفساد، حلاً جزئياً لأزمات نظام البعث الاقتصادية. قرر الحريري الأب شراء الوقت من خصومه ومن حلفائه اللبنانيين والسوريين، ورفع سقف المزاد العلني على الذمم كي لا يزعجه مضارب آخر… لولا هذا لما تيسّر لأسطورة مشروع الإنماء والإعمار أن تتحقق. لم يعترض كثيرون على الفساد يومها، لأن وهج النجاح كان أكثر إشعاعاً، كما أن معظم الاعتراضات كانت تأتي من ثقافة يسارية قديمة، لا مكان لها في مناخ التسعينات؛ لا في لبنان ولا في العالم المتأهب لفجر جديد بعد سقوط الاتحاد السوفياتي.
على النقيض من ذاك، انطلقت ثورة 17 أكتوبر من تلاحم الفساد والفشل معاً. فقرار وزير الاتصالات محمد شقير (من فريق الحريري) فرض ضريبة 6 دولارات على استخدام تطبيق «واتساب»، مثّل النقطة التي فاضت بها كأس الناس، من مجموعة سياسية عديمة المخيلة، وفي الحد الأدنى، تحوم حولها شبهات التورط في الفساد. الضريبة شكلت إهانة للناس، وقدمت لهم دليلاً على فشل المجموعة الحاكمة في اجتراح أي حل جدي لأي من مشكلاتهم، التي لو قمنا بتعدادها اليوم لظنّ القارئ أننا نتحدث عن بلد أفريقي أصيب بلعنة التخلف وليس عن لبنان الذي وصف ذات يوم بأنه سويسرا الشرق. ففي لبنان يدفع الناس أعلى فاتورة هاتف في المنطقة العربية، ومقابل خدمات أقل من عادية، دعك من سوء الإنترنت، وتردي الكهرباء والبنية التحتية والمياه والتلوث والنفايات والبطالة… الفشل قبل الفساد. الفشل مقروناً بالفساد. الفشل الموصوف في كل تفصيل من تفاصيل المشهد اللبناني، لا سيما منذ اجتراح التسوية الرئاسية التي جاءت بميشال عون رئيساً «قوياً» للجمهورية وبسعد الحريري رئيساً للحكومة، برعاية مباشرة من «حزب الله» الذي نجح، تحت ستار التسوية، في تغييب الانقسام السياسي حول دوره وسلاحه وموقعه في خراب لبنان. مع ذلك، وبعد ثلاث سنوات من التسوية، فشل أطرافها في مغادرة مربع الخلاف على الحصص، والسمسرات، والتلزيمات المتبادلة، إلى ملف الإنجاز… فشلوا وهم في عزّ هيمنتهم على القضاء، وعز قدرتهم على تحييد الإعلام، وعز قدرتهم على تهميش المعترضين حتى من القوى السياسية؛ أكانت تلك المشاركة في الحكومة كحزب «القوات اللبنانية»، أم تلك الموجودة خارجها كحزب «الكتائب»… فشلوا وهم في عزّ تنظيمهم مافيا الاحتكار التي لا تتجاوز أربع أو خمس عائلات تملك شركات في كل الميادين؛ من النفايات إلى النفط، وما بينهما، ويُدير أركانها بعض الطبقة السياسية، بالتنسيق والتفاهم مع «حزب الله» المتروكة له القرارات السياسية الكبرى.
هي انتفاضة ضد الفشل قبل أي شيء. انتفاضة جيل يعرف الأهمية المركزية للنجاح. متطلب؛ اعتاد الجودة التي يسهل الاطلاع عليها عبر الشاشات المسطحة لألواحهم وهواتفهم الذكية. انتفاضة ضد مجموعة من الفاشلين، والمدعين والمنتفخين، هم جل أركان السلطة الحالية في لبنان، وأركان التسوية.
صحيح أن الربط بين الفشل وسلاح «حزب الله» لم يتبلور بشكل واضح في المظاهرات، لكن هذا ما سمح للشيعة بأن ينتفضوا من دون عقد. يعرف المنتفضون في كل لبنان في العمق أن هذه التركيبة يديرها «حزب الله» ويحميها «حزب الله» وبالتالي هو قائدها الأول وليس ضحيتها أو العاجز أمام جشعها. فما كان للعهد وجبران باسيل، الذي بات العدو الشعبي رقم واحد، أن يتمادى في استعراض القوة لولا «حزب الله»، ولا كان سعد الحريري ليخضع لمزاج عون وسادية باسيل تجاهه، بعد أن فقد كل شيء. يكفي للتدليل على ذلك أن يقرأ المرء خطاب حسن نصر الله الأخير، ويلمس مدى الحرص على التركيبة القائمة. فهو رفض إسقاط العهد، ورفض إسقاط الحكومة، بحجة أنه لا يريد الفراغ. الحقيقة في مكان آخر. هو يدافع تماماً عن الفراغ الذي يُعبَّر عنه بامتلاء المناصب بهذا النوع من السياسيين، الذين باتوا عبئاً على البلاد وناسها. سقطت في الشارع الورقة الإصلاحية التي ابتكرتها الحكومة المترنحة، من دون أن يقرأ منها المتظاهرون حرفاً واحداً. لأن المشكلة في مَن يطرح الحلول، قبل أن تكون في طبيعة الحلول نفسها. المشكلة في فجوة الثقة التي باتت ثقباً أسود يبتلع كل التركيبة الحالية، ولو بالتدرج. ما عادت الناس تخاف من سؤال: «من البديل»… البديل هو الناس نفسها التي استردت ثقتها واحترامها لذاتها، وتعززت قناعتها بأنها تستحق أفضل، وستجد الأفضل… البديل هو أن نرفض الفشل والفاشلين… فلا شيء أسوأ من الفراغ.

لماذا لم ينزل نصر الله إلى الشارع؟
أمل عبد العزيز الهزاني/الشرق الأوسط/22 تشرين الأول/2019
خرج مهدداً ومتوعداً من مكانه المجهول، وقتما كان اللبنانيون في الشوارع والميادين يهتفون بمعاناتهم، ويشكون أنهم بلا كهرباء، وبعضهم لم يستطع الاستحمام لأيام لانعدام الماء، وبطالة قضت على ما تبقَّى لهم من أمل. لم يخرج مطمئناً وداعماً للثورة السلمية التي حافظ فيها اللبنانيون على حمل علم واحد وهو العلم اللبناني، بعيداً عن تلونات أعلام الأحزاب والطوائف، في مشهد لم يكن له مثيل. كان خوف أمين عام حزب الله أن تستقيل الحكومة ويخسر المعادلة التي مكَّنته من تحويل لبنان إلى بلد مشلول، وجسر للعبور إلى دمشق.
لأول مرة في التاريخ الحديث، يتجرَّد اللبنانيون من انتماءاتهم السياسية، ويشكِّلون وحدة واحدة بالمطالبات نفسها والصوت نفسه. فرقتهم السياسة وجمعهم الفقر. ولأن الفساد هو المتهم الأول، كما هو حال احتجاجات العراق، فإن من الفاسدين من لا يستطيع أحد أن يحاسبهم أو يقاضيهم أو يفضح أسماءهم لأنهم تحت حماية نظام الولي الفقيه. نصر الله لم يستطع أن يعيد سيناريو 8 مايو (أيار) 2007 وينزل لاحتلال بيروت وإخماد المعارضين، لأنه سمع بأذنيه أنه حتى من يحبونه ويناصرونه كزعيم شيعي مقاوم للاحتلال الإسرائيلي، على حد قوله، اتهموه علناً وعلى شاشات التلفزة بالفساد، وأن وزراءه ونوابه من الحزب وأتباعهم سرقوا قوت الناس، وأثروا على حسابهم.
وحتى لا يكون لحكومة سعد الحريري تأثير في حل جزء من أزمات لبنان، تلكأ جماعة نصر الله في الحكومة في الالتزام والإقرار بالإصلاحات التي تعهد بها رئيس الحكومة دولياً، ليتمكن من الحصول على دعم الصندوق الدولي. المواطن اللبناني الذي اكتشف أن قوته تنبع من ذاته وليس من انتمائه، أجبر كل أعضاء الحكومة على الموافقة على ورقة الإصلاحات الاقتصادية بالأمس، ولا يزال السياسيون أصحاب النفوذ والتأثير قلقين من أن هذه الخطوة قد لا ترضي الشارع. وإن رضي اللبنانيون بورقة الحريري الاقتصادية، وهدأ الشارع، وفتحت الطرقات، وسكن الغضب، فإن ما تغير في لبنان أكبر من الإصلاح الاقتصادي.
وأنا هنا لا أعني الثقة بالسياسيين، لأن حتى بعض أتباع نصر الله لم يكونوا راضين باحتلاله بيروت وإرعاب الناس، ويعرف الجميع أن سبب إشهاره سلاحه في وجه المواطن اللبناني كان بسبب نفوذه الطاغي الذي وصل حد التجسس على المطار الدولي والتحكم في حمولة الطائرات. أتباعه أيضاً لم يكونوا فخورين عندما خرج يناشد حلفاء أميركا بالتوسط لوقف القصف الإسرائيلي على لبنان في صيف 2006، وهم اليوم يرونه يطلب معونات من الناس بعد الحصار الاقتصادي الأميركي على إيران. الثقة أيضاً تأرجحت في الرئيس اللبناني ميشال عون الذي وقف عاجزاً أمام كل مشكلات لبنان منذ صار رئيساً، وسلم واجهة الرئاسة وهيبتها إلى جبران باسيل وزير الخارجية بكل ما تتميز شخصيته من استعلاء. إذن هي ليست فقط الثقة التي فقدت في الفريق «المقاوم» لاستقرار لبنان، بل التحول العميق في موقف الناس وجرأتهم على التحرر والصراخ في وجه زعمائهم الذين تركوهم للعوز، واتهام من كانوا أصناماً يُعبدون بأنهم سبب كل بلاء.
ليعلم اللبنانيون أنهم سطروا مشهداً حضارياً غير مسبوق، ببسالتهم، وإصرارهم، ورفع صوتهم ضد أصحاب السلطة الظالمة، حتى إنهم بدأوا الاحتجاجات مقنعين بأقنعة لإخفاء هويتهم ثم ألقوا بها وتوجهوا للقنوات التلفزيونية لتنفيس غضبهم، وقول الحقيقة التي كانوا يعلمونها منذ عقود؛ وهي أن زعامات لبنانية انتفعت من مراكزهم لأنفسهم وأسرهم، غير عابئين بلبنان واحد يضم الجميع. بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري استمرت سلسلة من الاغتيالات، التي وجهت أصابع الاتهام فيها لحزب الله ضد خصومه، رغم أنهم خصوم نافذون، فكيف بالمواطن العادي الذي وجد نفسه أسيراً لحكم ديكتاتوري بغطاء ديمقراطي مرقع.
من كان يستطيع أن يحمل مكبراً للصوت ليقول: «إننا كنا معك يا حسن نصر الله، لكن نوابك ووزراءك سرقونا». منذ 2005، كنا نسمع مظاهرات الناس واجتهادهم للدعاية لأحزابهم بكل ألوانها، وتصريحات قياداتها تهتف بالعزة والكرامة، لكن الحقيقة أن العزة والكرامة ليستا في الرايات الصفراء أو البرتقالية أو الزرقاء، بل في علم لبنان وحده. العزة والكرامة هما ما قدمه اللبنانيون خلال الأيام الماضية. حاجز الخوف من سلاح نصر الله قفز فوقه المتظاهرون، هم لم يبدلوا مواقفهم السياسية بل اكتشفوا أخيراً أن السياسة الحزبية لا تؤكل عيشاً إلا للطبقة العليا، وأن أتباعهم والمؤمنين بهم عقدياً وسياسياً هم أرقام تنزل للشارع حينما تؤمر بذلك، أداة من أدوات التنافس ضد الخصوم. أجزم بأن اللبنانيين يعرفون من هم الفاسدون الذين نهبوا مقدرات البلاد، رغم أن لبنان من أكثر الدول التي تتلقى دعماً خليجياً ودولياً مستمراً. هذه تجربة خاضها اللبنانيون بإرادتهم، لم يملِ عليهم أحد النزول للشارع. إن لم يكتمل عندهم الوعي بأن لهم حق المواطنة على الزعيم السياسي الذي يتبعونه فإن خسائرهم ستتضاعف، وسيكون مستقبلهم مخيفاً. المواطن اللبناني قوي رغم ما تلقنه منذ سنوات بأنه مجرد بوق ورجع صدى، لكن اليوم هو صاحب القرار. هذه لحظات لا تنسى، فليحافظ عليها اللبنانيون مهما كانت انتماءاتهم، وحتى لو عادوا لبيوتهم من الشارع ووجدوا كهرباء وماء.

لبنان وسقوط الرموز المقدسة
عبد الرحمن الراشد/الشرق الأوسط/22 تشرين الأول/2019
أزمة لبنان قديمة، والكيل فاض عند أهله منذ زمن؛ لكن للشجاعة ثمن، وقد دفعه بالدم عشرات ومئات من الذين تجرأوا على المطالبة بالتغيير. إنما هذه الجولة الاحتجاجية التي عمت أنحاء البلاد مختلفة، لم تعد فيها مقدسات سياسية، بما فيهم حسن نصر الله، مع بقية القيادات الحكومية. ميزها، أيضاً، أن المناطق التقليدية التي تحت سلطة «حزب الله» انتفضت ضده، وجاهرت بتحديه ورفض سلطته. الأمر الذي اضطره إلى الخروج على التلفزيون وتهديد الجميع بمن فيهم وزراء الحكومة، محذراً بأن من سيستجيب لمطالب المتظاهرين ويستقيل فسيحاسب. عموم الشارع اللبناني أجمع على التغيير؛ لكن أي تغيير؟ حتى أن وزير السياحة استنكر مطلبهم قائلاً: «إن أردتم التغيير فانتظروا الانتخابات المقبلة، مارسوا حقكم وصوتوا بمن تريدونه يمثلكم». كلام سياسي مفذلك، يبدو منطقياً، فالنظام السياسي في لبنان ظاهره ديمقراطي، كما يبدو من الانتخابات وتوازنات السلطات، والرئاسات الثلاث: الرئيس، ورئيس الوزراء، ورئيس البرلمان، إنما تنظمه نواميس اتفاق الطائف المبنية على المحاصصة والمحافظة على القوى السياسية من دون تغيير، مهما تبدل المرشحون وتكررت الانتخابات. والأسوأ من ذلك، فإن البلد كله رهينة «حزب الله»، الميليشيا الأقوى من الجيش، والتي تزرع الرعب في قلوب السياسيين ورجال الأعمال والمجتمع، وتعلو كلمتها على الجيش والأمن. وبالتالي فإن الاحتكام إلى صندوق الانتخابات لا يمكن أن يجيب مطالب اللبنانيين الذين أجمعوا على المطالبة بتغيير الوضع، وأنه لم يعد يطاق معيشياً وسياسياً. اللبنانيون في هذا الحراك الأوسع، منذ استقلال البلاد في عام 1943، يبحثون عن صيغة للدولة الوطنية تجمعهم، بين سكانه الذين ينتمون إلى 18 طائفة، وتنهي التدخلات الخارجية التي تستخدم القوى المحلية لتنفيذ أجنداتها. مطالب الشارع تدعو إلى نظام انتخابي جديد غير طائفي وخالٍ من السلاح. البحث عن دولة وطنية جامعة، مطلب نراه يتكرر في عدد من دول المنطقة التي تعاني من التشرذم السياسي، كما هو الحال في العراق، الذي شهد حراكاً شعبياً واسعاً مماثلاً يدعو إلى الدولة الوطنية؛ لا الدولة الدينية التي تحاول بعض القوى المسلحة فرضها بالقوة. الأمل يحدو كثيرين أن تفرز الانتفاضة اللبنانية السلمية حلولاً تنهي الفساد السياسي والتسلط المسلح، وتضع البلاد على طريق التنمية والاستقرار. والأخطار الكثيرة تهدد هذا الحراك، وتختفي وراء كل شجرة هناك.
فهل يسمح «حزب الله» بالتغيير الذي يطالب به الشارع في لبنان؟ الحزب الذي ضحى بآلاف من الشباب اللبناني قتلوا دفاعاً عن الأنظمة في سوريا والعراق واليمن، وحتى داخل الأقاليم الإيرانية التي شهدت انتفاضات ضد السلطة، هل يتربص بدعاة التغيير في لبنان أم يسمح به؟ مهما يكن، فإن العالم يعرف اليوم أن في لبنان إجماعاً ضد نظام المحاصصة والفساد والسلاح.

هل يستحق كل هذه العزلة؟
سمير عطا الله/الشرق الأوسط/22 تشرين الأول/2019
تحول كل لبناني خلال الأيام الماضية إلى مراقب ومحلل، وهذه حرفته الأولى في الأساس. غير أنه الآن أصبح متفرغاً، وقد وفرت له التجمعات ظواهر كثيرة؛ إحداها وأهمها موقف الجيش ودوره، فكان السائد بين اللبنانيين أن الجيش يؤيد الجنرال ميشال عون بصفته قائداً سابقاً له، وعدّ البعض أن تعيين العماد جوزيف عون قائداً هو في جملة التعيينات التي تحمل مباشرة اسم العائلة، وليس فقط الأنسباء. لكن منذ اللحظة الأولى للانتفاضة على النظام، تصرف العماد جوزيف عون على أن جيشه هو جيش الشعب. وتعامل الجيش مع المتظاهرين مثل أرقى جيوش العالم، وتلقى منهم التحيات والعناق والورود، وحافظ على صمت نبيل يفرضه انضباطه العسكري، وأزاح مصفحاته جانباً لكي يمر المحتجون إلى مواضع التجمع. أما الضباط المتقاعدون، فقد أعفتهم نهاية الخدمة من الصمت، وهؤلاء انضموا إلى الناس يطلبون إسقاط النظام، ويشتركون في الحملة على العهد، ولا شك في أن موقف الجيش وصراخ المعارضين كانا الصدمة الكبرى للعهد في كل ما حدث. كل شيء آخر أصبح متوقعاً رغم حالة الإنكار والمكابرة. الصرخة في وجه الفساد والنعوت التي أطلقت على رمز «العهد القوي» جبران باسيل، والتخلي الذي أظهره الحلفاء والمناصرون الذين اختبأوا، أو لاذوا بصمت المقابر، فيما العهد يتلقى كل هذه الهجمات.
حتى بيان من جمعية أهلية لم يصدر في دعم العهد المحاصر، وظل وزير الخارجية جبران باسيل مصراً على استغباء الناس والتظاهر بأنه مع مطالبهم. أليس هو بطل المغتربين الذين يجول عليهم كل بضعة أسابيع للاحتفال؟ وكان الرد أن المغتربين عقدوا حلقات الدبكة من سان فرنسيسكو إلى أستراليا تضامناً مع أهاليهم في طرابلس وجبيل وقضاء البترون، الذي فاز بمقعده النيابي بعد ثلاث محاولات، بل إنه أصبح زعيماً على سياسته الخارجية، قبل الفوز بالمقعد المتوج بزمن طويل. تصرف جبران باسيل مع لبنان كأنه جل من جلول مزرعته… تعامل مع رئيس مجلس النواب بغطرسة غير لائقة، وتعامل مع الرئيس سعد الحريري كأنه موظف في انتظار أفكاره العظيمة، وعامل الدول العربية كأنها قطيع في خراجه، وجاء أمين الجامعة العربية إلى بيروت مرتين فلم يلقَ الوقت لاستقباله. كان في غنى عن أن يسمع النعوت التي أطلقت عليه في ساحات لبنان، والرئيس عون كان في غنى عن أن يتسبب له هذا الرجل فيما جرى، حتى رئاسة الجمهوريات لا تستحق هذا الثمن.

من سوريا والعراق إلى لبنان: جدران الملالي المنهارة
يوسف الديني/الشرق الأوسط/22 تشرين الأول/2019
لا يمكن عزل الإجراءات العقابية التي وقعها الرئيس ترمب على طهران عن واقع جديد يتكشف الآن، وتظهر انعكاساته العميقة بوتيرة متسارعة: اندلاع احتجاجات العراق، والاجتياح التركي لسوريا وسط تململ الملالي وسخطهم، وصولاً إلى ما يحدث في لبنان اليوم، من التصعيد في الشارع اللبناني بكل مكوناته، دون اكتراث بصيحات نصر الله وتهديداته التي أكدت عمق «أزمة» دولة الميليشيا التي يحاول حمايتها، ولو على حساب لبنان الدولة التي لم يعد أهلها يحتملون تلك الازدواجية، وحالة العسكرة المديدة التي ساهمت في تردي الاقتصاد، وهروب رؤوس الأموال والمستثمرين والسياح.
ورغم الانتقادات الواسعة المبرّرة تجاه حالة الارتباك في الاستراتيجية الأميركية في المنطقة، من داخل الولايات المتحدة وخارجها، فإن ترمب لا يزال مصراً على أن سياسات واستراتيجية الإرغام عبر العقوبات والانسحاب العسكري ستؤتي أكلها، وتحتاج إلى مزيد من الوقت لتثبت فعاليتها. هذه الاستراتيجية لم تكن وليدة لحظة ترمبية متعجلة، وإن كان سلوكه في التعبير عنها عبر منصة «تويتر» يوحي بذلك، فما يفعله هو جزء من روزنامة طويلة تعود خلفياتها إلى طروحات فكرية وفلسفية لتيار المحافظين لتأسيس «المصلحة الوطنية» التي نظّر لها منذ ما يزيد على ثلاثة عقود إريفينغ كريستول، والتي من بين مرتكزاتها الالتفات إلى الداخل، والتحلّي بالواقعية والبراغماتية فيما يخص الشؤون الخارجية. وقد ازدادت لاحقاً الطروحات الداعمة لتلك الاستراتيجية، مع شخصيات ورجال دولة مؤثرين كديسيلي وبسمارك وكيسنجر، وغيرهم من الذين ساهموا بالتمهيد لصعود الذاتية السياسية التي كان لها دور كبير في تعزيز شعبوية ترمب السجالية وصعودها. تلك الرؤية الواقعية كانت تؤكد عدم فاعلية استخدام القوة الأميركية خارج الولايات المتحدة، وأن المثالية والتفرّد والعصر الأميركي لم تكن سوى شعارات مهّدت لفشل كبير في الشرق الأوسط، لا سيما بعد ملف أسلحة الدمار الشامل في العراق، الذي كان بداية لتطوير سردية فشل استراتيجية العسكرة، ونهاية عصر السيادة.
وفقاً لذلك، فإن كل ما يدور حول استفادة إيران من الانسحاب الأميركي، وصعود مشاريع رغبوية في السيطرة على المنطقة، كالمشروع التركي، واحتمالية عودة انبعاث الإرهاب من قبل تنظيم داعش، هو وجهات نظر لا تقدم سوى نصف الحقيقة المتصل بدوافع تلك الأطراف التي تحاول أن تملأ الفراغ الأميركي ما بعد الانسحاب، لكنها تتجاهل النصف الآخر الأكثر تأثيراً، وهو أن تلك القوى مهما حاولت جاهدة لن تستطيع سوى خلق المزيد من دوامة الفوضى، والغرق في دوامة من الفشل في إدارة الأوضاع، كما رأينا في سوريا التي استباحها الملالي لتثبيت نظام الأسد، لكن ذلك، بعد مضي كل هذه السنوات، وتراجع حضور «داعش»، لم يكن إلا شعاراً براقاً وغير واقعي على المدى القريب المنظور. فكل ما يملكه النظام اليوم هو محاولة التفاوض مع الأكراد، والحد من توسع تركيا، وإيجاد حالة من التوازن داخل مساحة الأراضي التي يسيطر عليها، دون التفكير في توسيع دائرة الحرب للحصول على ما يزيد على 40 في المائة من البلاد، في ظل شحّ الموارد واختناق الاقتصاد الإيراني. وهو ما أطلق نذر الهلع في الداخل الإيراني، الذي ربما كثفته عبارة أحمد خاتمي في واحدة من خطبه، حين حذر روحاني من التعثر في الفخّ الأميركي، وهو ما يعني أن ليس أمام إيران الكثير لتفعله في ردع شره إردوغان الذي يشعر بكثير من جنون العظمة، المتمثل في تصريحاته اللفظية التي يحاول عبرها خلق شعور قومي في الداخل الذي خذله منذ وقت ليس ببعيد في أهم المدن التركية.
الهيمنة الإيرانية المتخيّلة لا تجد ما يشفع لها على الأرض والواقع في العراق واليمن وسوريا ولبنان، لذلك تعمل على محاولة نقل الصراع إلى مدى أوسع عبر إشعال المنطقة، وهو ما يفسر الدوافع الأساسية لتهور الملالي باستهداف خطوط الملاحة الدولية، ومنشآت النفط في السعودية، كمحاولة لتغطية الفشل في تسيير الأوضاع رغم تجليات الهيمنة السياسية التي تقودها في العراق، والتي آلت إلى حكومة فساد انتفض عليها بالأمس القريب الشارع العراقي، وفي مقدمته المكوّن الشيعي غير المسيّس. وهي النتيجة ذاتها في احتجاجات لبنان اليوم، الذي يحاول الخروج من تبعات تلك الهيمنة الإيرانية، لكن عبر ترحيل المشكلة، وإلقاء الاتهامات الصبيانية على السعودية وحلفاء الولايات المتحدة، أو من خلال إطلاق الشعارات التي لم تعد تخدع أحداً.
وفي الشأن اللبناني، تتكرر القصة بشكل أكثر مأساوية منذ أن هيمن «حزب الله»، وكيل طهران، على الحالة السياسية، أو ما سمّي بـ«العهد القوي» الذي بلغ مداه في اللامبالاة بالسيادة الوطنية، بفرض تشريحاته السياسية، وعرقلة تشكيل الحكومة، وصياغة القانون الانتخابي بهدف السيطرة على الأصوات الشيعية، والتحالف مع الكتل المسيحية، في مقابل إضعاف وتهميش كل القوى اللبنانية التي لم تزل تعاني منذ أن تسبب «حزب الله» في تحويل لبنان من مشروع إنمائي واعد في 2005، قبل اغتيال الرئيس الحريري، اللحظة الفارقة في تاريخ لبنان المستقل، إلى عاصمة يخرج أهلها للتظاهر من أجل «النفايات»، كنتيجة حتمية لمسلسل طويل من العبث الإيراني الذي لم تمتد أصابعه إلى أي من البلدان العربية إلا وكانت النتيجة صعود منطق الميليشيا والعسكرة، وتدريب وتسليح ورعاية توائمه الآيديولوجية كالحوثيين، على أي أصوات للاعتدال والرفاه والبناء والمستقبل.
ومهما بدا أن دورات اقتصاديات الميليشيا تسعى إلى استقلال ذاتي، ومحاولة الخروج من دورة الحياة الطبيعية للاقتصاد، فإن فشلها وانكساراتها سريعة وكارثية مع أي اختبار حقيقي، كالعقوبات التي فرضتها إدارة ترمب، وفق استراتيجية الإرغام التي تظهر آثارها. فهيكلية بناء الميليشيات على المستوى الاقتصادي ليست بأقل فشلاً من رؤيتها السياسية، حيث تقوم على الصفقات المشبوهة والفساد وعرقلة كل مشروعات لا يمكن السيطرة عليها، لا سيما بعد تعثر مداخيلها المباشرة من قبل داعميها من طهران.
وبحسب إحصاءات التقارير الدولية، فقد «حزب الله» جزءاً كبيراً من منح الملالي التي كانت تبلغ مليار دولار سنوياً، تقدم بشكل مباشر، ومن خلال التبادل والاستثمارات الدولية الملتوية، وشبكة واسعة من المانحين السريين، وأنشطة تبييض الأموال. وتلك المسارات باتت اليوم، مع الإجراءات الصارمة تجاه الدول المتساهلة مع إيران بشكل انتفاعي، أكثر عسراً، حتى من محاولة إقناع الجماهير الغاضبة بالكلمات!

حراك الجماهير الغاضب والبدائل «المرتبكة»
د. حسن أبو طالب/الشرق الأوسط/22 تشرين الأول/2019
لم يعد الحراك الشعبي الغاضب قاصراً على بلداننا العربية، كما يجري في لبنان والجزائر والعراق، ومن قبل السودان؛ بل أصبح ظاهرة دولية تمتد من هونغ كونغ في أقصى شرق آسيا، إلى عمق أوروبا في إسبانيا، وتحديداً في إقليم كاتالونيا. الشائع أن نزول الجماهير إلى الشوارع له ثمن واحد، هو أن تُلبَّى مطالبها قبل أن تعود مرة أخرى إلى حياتها العادية. ويتوقف الأمر على طبيعة تلك المطالب وحدودها، وكيفية تنفيذها، والعائد المرجو منها. في لحظات الغضب الجماهيري، تصعب التفرقة لدى المحتجين بين الأشخاص الحاكمين وبين نظام الحكم نفسه. وحين يشتد الحماس العام تعلو المطالب إلى حد السماء. بعض الشعارات تُطلق ويجري ترديدها من دون أن يدرك بعض مردديها أنها مطالب تفتح أبواب المجهول، ولا تنهي الأزمة؛ بل غالباً ما تفتح أبواب أزمة من نوع مختلف.
رغم اختلاف التفاصيل وتباين الشعارات التي يرفعها المحتجون بين بلد وآخر، هناك قواسم مشتركة، منها أولاً عدم الرضاء الممزوج بالغضب، والرغبة العارمة في التغيير الشامل والجذري، وهو ما يظهر في شعارات، مثل «إسقاط النظام»، كما في حراك لبنان الأخير، والعراق والسودان من قبل، و«التخلص من الرموز السياسية القديمة»، كما هو الحال في حراك الجزائر الممتد لمدة 35 أسبوعاً متتالياً. وفي السياق ذاته، تبدو مطالب ترسيخ الديمقراطية والحريات في هونغ كونغ، شبيهة بمطلب إسقاط النظام، إذ تعني فعلياً ترسيخ التباعد بين نظامي الحكم في هونغ كونغ والصين الأم، والتملص من صيغة «بلد واحد ونظامين».
المطالبة بالانفصال عن الدولة، وهو المطلب الغالب على حراك مواطني إقليم كاتالونيا في إسبانيا، يمثل صورة أخرى من مطلب إسقاط النظام، والإطاحة به، ومن ثم البدء من نقطة جديدة، وهي الاستقلال.
ثانياً، ارتباط بداية الاحتجاج بحدث عابر، أو تغير ملموس، ولكنه يأتي أقل من توقعات الجماهير أو صادماً لها. فبداية الاحتجاجات في هونغ كونغ كانت لرفض قانون تسليم المجرمين للصين، ما اعتبرته الجماهير الغاضبة إضاعة لاستقلالية القضاء، وباباً لتدخلات بكين في الشأن الداخلي، ما يلغي عملياً مساحة الحريات التي يتمتعون بها، مقارنة بما عليه الحال في الصين الأم. في حالة لبنان شيء من هذا، فقد تحركت الجماهير رفضاً لقرار فرض رسوم شهرية على مستخدمي تطبيق «واتساب» الشهير، الذي ييسر تواصل الناس بكلفة محدودة للغاية. في الجزائر كانت البداية الصادمة هي قرار الرئيس السابق بوتفليقة الترشح لعهدة خامسة رغم أحواله الصحية المتدهورة، ما اعتبر مصادرة على احتمال التغيير من خلال الانتخابات الرئاسية التي كانت مقررة في أبريل (نيسان) الماضي، ومن ثم خرجت الجموع لترفض هذه العهدة المحتملة، ونادت بالتغيير الجذري. وخروج السودانيين في ديسمبر (كانون الأول) الماضي لرفض ترشح الرئيس السابق البشير، حالة أخرى. في إسبانيا جاء الحدث العابر في صورة صدور أحكام قضائية قاسية في حق الزعماء المحليين المنادين بالانفصال، ما دفع الجماهير إلى الخروج لرفض الأحكام، واستعادة المطالبة بالانفصال.
ثالثاً، استمرار الاحتجاجات مع رفع سقف المطالب، فمع نزول المواطنين إلى الشوارع تبدأ فعلياً عملية رفع المطالب، وعدم الاكتفاء بالسبب المباشر لتدافع الناس إلى الشوارع، والسر يكمن في وجود تراكمات صبر عليها الناس من قبل، فالعراقيون الذين ثاروا على غلاء الأسعار، وتغلغل الفساد، وسطوة إيران على الأداء الحكومي، وضعف الأمن، واختفاء الوظائف وفرص العمل، بدأت مطالبهم بمواجهة أوجه الفساد، ثم تطورت لإسقاط حكومة عادل عبد المهدي، وإبعاد الوجوه النافذة سياسياً وطائفياً، باعتبارهم حماة الفساد بأشكاله المختلفة. اللبنانيون فعلوا الشيء ذاته، رفضوا أولاً ضريبة الـ«واتساب» وارتفعت المطالب تدريجياً لتشمل تنحي الرموز السياسية والحزبية والتنفيذية، وإسقاط الحكومة والنظام معاً، وأصبح تعبير الطبقة السياسية المطلوب اختفاؤها هو الأبرز، باعتبارهم السبب الجوهري وراء أزمة لبنان وشعبها. حراك الجزائر بدوره، بات النموذج الأبرز على الدعوة لتغيير شامل للنظام، وإقصاء كل من كانوا على صلة بنظام الرئيس بوتفليقة، باعتبارهم «العصابة» التي نهبت البلاد لعقدين متتاليين.
رابعاً، تدرج رد فعل السلطة من الإنكار وتهميش المطالب الشعبية، ثم التحول إلى الوعود بتنفيذ بعض المطلوب شعبياً ولكن بالتدريج. حالات السودان والجزائر والعراق تبرز مسار الإنكار ثم الانصياع للمطالب الجماهيرية، مع اختلاف في الدرجة، لا سيما في الجزائر؛ حيث الأمور ما زالت معلقة سياسياً، رغم تبني بعض الخطوات التي تعكس استجابة جزئية، كاعتقال بعض النافذين من «العصابة»، وإخضاعهم لمحاكمات بدعوى التورط في فساد. حالة لبنان أخذت شكل الإسراع بالاعتراف بحق الجماهير في الاحتجاج والتعبير عن الرأي، مع وعود بالإصلاح، شريطة أن يلتزم كل الفرقاء السياسيين رؤية جديدة يُتفق عليها، أو يدخل لبنان نفقاً لا مخرج منه. حالتا هونغ كونغ وانفصال كاتالونيا ما زالتا تتفاعلان في مرحلة إنكار مطالب الاحتجاجات؛ خصوصاً إسبانيا، مع استجابة جزئية من السلطة في هونغ كونغ، تمثلت في سحب مشروع قانون تسليم المجرمين لبكين.
خامساً، في كل الحالات، تسود حالة اللايقين عند الجميع. في حالة السودان لعبت الوساطة الأفريقية دوراً رئيسياً في الحوار بين «قوى الحرية والتغيير» والمجلس العسكري الذي أطاح بالبشير؛ لكن في حالات أخرى فإن فكرة الوساطة أو دور الطرف الثالث الوسيط، إما ليس مقبولاً كما هو الحال في الجزائر، وإما غير مطروح كما هو في لبنان وهونغ كونغ وإسبانيا، على الأقل حتى اللحظة.
سادساً، بعض المطالب تضيف إرباكاً أكبر للمشهد العام. فإسقاط الحكومة في لبنان يعني مروحة كبيرة جداً من احتمالات عدم الاستقرار، بداية من الدخول في انتخابات جديدة، والفراغ الحكومي لمدد لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى. كما أن تغيير النظام يعني الإطاحة كلية بنظام المحاصصة الطائفية السياسية، وهو ما يصعب التوصل إلى بديل له إلا في ظروف طبيعية يقبلها الجميع، لإعادة تأسيس لبنان من جديد.
حالة الجزائر بدورها تماثل الوضع اللبناني، فإذا استقالت حكومة بدوي فمن سيدير البلاد؟ وإذ تأجلت الانتخابات الرئاسية فمتى يمكن انتخاب رئيس جديد؟ وإذا اتفق على تغيير الدستور، فمن لهم شرعية صياغة دستور جديد؟ الأمر يمتد إلى مطلب الانفصال في كاتالونيا الإسبانية، فإن أصر عليه المحتجون فمن سيقبل بذلك؟ سواء في إسبانيا أو في الاتحاد الأوروبي. أما هونغ كونغ فيبدو المتاح في حدود التعايش في صيغة بلد واحد ونظامين، وحكومة محلية مرنة، وإلا سيجد جيش الشعب الصيني نفسه مضطراً إلى السيطرة على الوضع العام، ما يؤدي إلى بدء مرحلة جديدة من العنف غير المسبوق، والتوتر الدولي غير المحسوب.

هل يستعيد «حراك الأرز» الكرامة والأمان لشعب لبنان؟
د. شمسان بن عبد الله المناعي/الشرق الأوسط/22 تشرين الأول/2019
تحرَّك المقهورون في لبنان ضد السلطة بكافة مكوناتها وأركانها، مثلما تحرك إخوتهم في مظاهرات العراق، حيث ذراع «الحشد الشعبي» التابع لإيران، طالب الشعبُ بخروجه، وحُرقت صور خامنئي، واليوم في لبنان، حيث «حزب الله» الخارج عن القوانين الدولية، والمصنف عالمياً كحزب إرهابي، وهو سبب لكل ما حدث ويحدث للبنان، خرجت ضده وضد غيره جماهير «حراك الأرز»، لكي تطالب برفض تدخل النظام الإيراني، في الشؤون الداخلية في لبنان. نعم أخيراً انتفض الشعب المهمش في لبنان، سنة وشيعة، مسلمين ومسيحيين، الذين لا حول لهم ولا قوة؛ انتفضوا في وجه أحزاب ومنظمات تتصارع فيما بينها للحصول على المزيد من المكاسب على حساب لبنان الذي كان في يوم ما وجهة للشعوب العربية وغير العربية، وكان تحفة بالنسبة للمدن العربية وواحة الديمقراطية والعلم والتمدن في الوطن العربي.
هذا الحراك الشعبي جاء بفعل تراكمات كثيرة على لبنان، وبسبب الصراع بين الأحزاب، وفي حرب عام 2006 دفع الثمن شعب لبنان بأكمله، إذ دمر البلد، وتشتت أسر، وخاض لبنان دورة أخرى من البناء والتعمير نتيجة ما حل ببنيته التحتية من دمار.
إن ما أشعل الثورة تصريح وزير الاتصالات عندما أعلن عن الزيادة التي سوف تفرض رسم 20 سنتاً على كل اتصال عبر «واتساب»، أو أشكال التخابر الأخرى عبر الإنترنت، بما يعادل 6 دولارات شهرياً، فهذا ليس إلا الفتيل الذي أشعل الثورة الشعبية ضد أمراء الطوائف؛ الذين عاشوا حياة الترف والرفاهية والبذخ، وغالبية الشعب، إما أنهم هاجروا، أو رضوا بمستوى معيشي متدنٍ،
إن حرائق الاحتجاج لم تكن في الواقع على فرض الضرائب، بقدر كانت سبباً في خروج الناس للمطالبة بوضع حد للفساد الكبير التي عمَّ البلد، وعطل الخدمات، وطال أرزاق الناس جميعاً، إنها ستستمر هذه المرة حتى تحقيق المطالب الشعبية. إن دخان هذه الحرائق الذي كشف مستور السلطة الحاكمة حجب أيضاً ستر السلطة الفعلية المتمثلة بـ«حزب الله». هذا الحزب الذي أقحم لبنان في قضايا لا ناقة لهم فيها ولا جمل، ففي سوريا دافع عن نظام بشار، وأخذ يدرب الميليشيات، ويزج بهم إلى كل بؤرة توتر في العالم العربي، إلى اليمن والعراق وسوريا، ومن هنا لا أتصور أن هناك شعباً عانى من الحروب والاغتيالات كشعب لبنان، ولذلك لا نلوم شعب لبنان، ولا نستغرب إذا ما رأينا هذه الأعداد الهائلة من المتظاهرين، من مختلف الأعمار، رجالاً ونساءً، وهو اليوم بحاجة لمساعدة العرب. المعركة طويلة أمام اللبنانيين، ولكن البلد الذي يزخر بنماذج ثقافية حُرة وله تاريخ حضاري كبير، قادر على خوض غمار التحدي، وقادر على كسر قوقعة الطائفية والنظام السياسي المُتفكِّك، وقادر على أن يُعيد للبنان صوت الدولة والشعب. إنها لحظات حاسمة في تاريخ هذا البلد العربي، الذي أكله الفساد، وخربته المحاصصة، وأفقره التدخل الإيراني الذي بلع البلد وأقصى أهلها.