محمد أبي سمرا/من عبد الناصر إلى نصرالله: الخطابة المنتشية بأوهامها المدمرة

92

من عبد الناصر إلى نصرالله: الخطابة المنتشية بأوهامها المدمرة
محمد أبي سمرا/المدن/06 أيلول/2019

سكرت أجيال عربية من المحيط إلى الخليج بخطابة جمال عبد الناصر الإذاعية من “صوت العرب” في القاهرة، طوال عقدي الخمسينات والستينات من القرن العشرين تقريباً، وانتشت نشوةً عارمة بانبعاث الأمة وجماهيرها وشعوبها، التي أيقظها من سباتها الصوت الرخيم لقائدها الملهم، فسمّته “المارد العربي” وهامت به وذابت في كلماته هياماً وذوباناً خلاصيين من شتاتها وهوانها وخذلانها وعثراتها المديدة.

النشوة العمياء
واقعتان اثنتان أسّستا لذلك الانبعاث الهيامي والهوامي العروبي المنتشي بالصوت والكلمات: واقعة تأميم قناة السويس وحربها أو  “العدوان الثلاثي” الإسرائيلي والبريطاني والفرنسي على مصر، والذي ما كان مقدّراً له أن ينقلب من هزيمة عسكرية مدمرة إلى نصرٍ سياسي لمصر الناصرية، لولا التدخل الدولي، وخصوصاً الأميركي، في إطار الحرب الباردة الدولية التي قسّمت العالم مناطق نفوذ بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، بعد الحرب العالمية الثانية.

أما الواقعة الثانية التي استتبعها، بل ولّدها ذاك “النصر” السياسي الذي طوى الهزيمة العسكرية وأزاحها جانباً، فكانت نشوة جماهير العروبة التواقة توقاً خلاصياً إلى نصر، أي نصر، من دون أي تقدير لحدوده الظرفية وملابساته الدولية، والتعامي عنهما وعن الهزيمة العسكرية التي لابسته.

كانت تلك النشوة العمياء وليدة نكبات العروبة منذ الحرب العالمية الأولى التي أدت إلى نكبتها الكبرى في فلسطين. وتجلّت النشوة بأبهى قوتها وصورها في “قلب العروبة النابض”، دمشق التواقة، جماهيرَ وساسةً وجيشاً، إلى انبعاث “مارد عربي” يخلّصها من نفسها ومن السياسة والسياسيين، ومن سوريتها وحدودها، ويأخذها إلى رحاب عروبة خلاصية بلا حدود ولا سياسة ولا أوطان. وهكذا تحولت سوريا إلى “الإقليم الشمالي” في “الجمهورية العربية المتحدة” الناصرية الدكتاتورية العسكرية والأمنية، ما بين 1958 و1961.

وزحفت جماهير العروبة من لبنان إلى دمشق منتشية في مبايعتها الزعيم المخلص، ودعته إلى ضم “الكيان اللبناني المسخ” إلى دكتاتورية الوحدة العربية، فنشبت في ربيع 1958 وصيفها الحرب الأهلية الصغيرة الملبننة. أما سوريا التي اختبرت الدكتاتورية الناصرية الوحدوية، فأخذت تتوق إلى الانفصال، وغرقت بعد انفصالها في انقلابات عسكرية متتالية، أدت إلى استسلامها لدكتاتورية البعث الأعتى والأشد وطأة، وصولاً إلى دكتاتورية الأسد العائلية والأمنية التي دمرت، أخيراً، عمران سوريا واجتماعها تدميراً كاملاً.

ناصرية المشرق
لم يكن إسهام الناصرية الوحدوية في “تعريب” العراق وتوقه إلى الوحدة قليلاً، فانقلب من ملكية دستورية إلى جمهورية انقلابات عسكرية استولى عليها البعث الصدامي، أخيراً، فمزّقها بعدما أغرقها في حروب إقليمية وأهلية مديدة ومدمرة.

واليمن الشمالي انقلب ضابط ناصري على إماميّتها المتوكليّة المغلقة والمنكفئة، فقامت عليه القبائل رافضة حكمه، فأرسل عبد الناصر جيشه إلى صنعاء لتثبيت الانقلابيين. وفي المقابل نصرت السعودية القبائل الإمامية بالمال والسلاح، فدارت في اليمن الشمالي حرب أهلية – إقليمية، استعمل فيها الجيش المصري الناصري السلاح الكيميائي ضد مسلحي القبائل.

ووصل الإلهام الناصري إلى ليبيا والسودان أخيراً، فقام كل من الضابطين الناصريين، معمر القذافي وجعفر النميري السوداني، بانقلابين عسكريين في بلديهما، فأسسا دكتاتوريتين عسكريتين على المنوال الناصري.

كان هذا كله مبعث نشوة مستمرة لعبد الناصر ورهطه العسكري والأمني القابع في الظل والخفاء، فيما استمر هو بخطابته الجماهيرية الطروب بصوته الرخيم الذي جعل الجماهير الفقيرة والأمية الزاحفة إلى القاهرة والاسكندرية تنتشي بفقرها نشوة خلاصية سادرة في دكتاتورية دمرت المجتمع ومراتبه، وأفقرت النخبة المصرية وكتمت أنفاسها، وهجّرت جالياتها الكوزموبوليتية المدينية، وأمّمت الصحافة والثقافة والإعلام والتفكير.

واللغة، حتى اللغة العربية، أفقرتها وحطمتها، وجعلتها لغة شفوية جرداء. ولم تستفق الدكتاتورية الناصرية من نشوتها الخطابية الانتصارية إلا مساء 5 حزيران 1967 على هزيمة ساحقة مدوية.

أمّة المستضعفين
السيد حسن نصرالله، منذ انسحاب الجيش الإسرائيلي في صيف العام 2000 من شريط جنوب لبنان الحدودي المحتل، استرسل في نشوته الخطابية التلفزيونية المقاوِمة المنتصرة. وكان قد ورث احتلال ذاك الشريط عن مقاومة سابقة تحدرت من الإرث الناصري المجيد، وبعثت مع توأمها اللبناني “الحركة الوطنية والتقدمية”، شِقاقاً عمودياً في لبنان وحروباً أهلية – إقليمية بين جماعاته. لكن العالم والتاريخ كانا غارقين في سبات سديمي قبل أن يذيع حزب الحركة الإسلامية الخمينيّة بيانه التأسيسي الأول، أو رسالته الخلاصيّة من مسجد الغبيري إلى “أمة المستضعفين في الأرض” في نهار من العام 1985.

آنذاك كانت الغبيري وضاحية بيروت الجنوبية وكان لبنان كله في دوّامة تلك الحروب الأهلية – الإقليمية التي مضت سنوات عشر على بدئها وتناسلها المدمر للعمران والاجتماع والجماعات، وولّدت الحركة الإسلامية وحزبها الخميني من رحم دمارها وتهجيرها وحطام اجتماعها.

فخاض ذاك الحزب حروبه الأهلية انشقاقات وتمزقات أهلية وعائلية وقتلاً واغتيالاً ومطاردات وغارات دموية في قلب الطائفة الشيعية، وعلى منظماتها الحربية العروبية واليسارية.

ومن قلب تلك العمليات وسواها من عمليات انتحارية ضد القوات الدولية وسفاراتها واختطاف الأجانب وترويع بيروت، وُلِد حزب أمة المستضعفين في قلب حطام مجتمع التهجير والخراب الشيعي تحديداً، على إيقاع السيرة الكربلائية الحسينية الأسطورية ومثالها الخميني الإيراني.

وحدها تلك الولادة أذنت بانطلاق مسيرة التاريخ الملحمية الذي لم يكن تاريخ ولا مجتمعات قبلها. فأثمر وعد تلك المسيرة الحسيني الأول في صيف العام 2000: النصر والتحرير اللذان نُسبا إلى المقاومة الإسلامية الخمينية وحدها، مجرّدين من أية ملابسات ظرفية لبنانية وإسرائيلية وإقليمية ودولية، فيما كانت دكتاتورية الأسد السورية قد أتمت سيطرتها على لبنان برضى شطر من جماعاته، وراحت تدير شؤونه بالشراكة والتراضي وتقاسم الأدوار بينها  وبين الدكتاتورية الإسلامية الخمينية الإيرانية التي رعت، بل انشأت على مثالها حزب أمة المستضعفين المقاوم في لبنان، وجعلته درّة تاجها وشطراً من حرسها الثوري.

من انسحاب الجيش الإسرائيلي من الشريط الحدودي الجنوبي اللبناني المحتل، صنع حزب المقاومة نشوة نصره الأسطوري الأول، فبلغت تلك النشوة المتلفزة أرجاء بلدان عربية كثيرة كانت لا تزال مهانتها فاغرة منذ الخطابة الناصرية وهزائمها في حزيران 1967، وتتوق إلى أي نصر.

حروب الثأر
مع بلوغ التململ اللبناني من سيطرة الدكتاتورية الأمنية الأسدية على لبنان ذروته بين العام 2000 والعام 2004، بذل حزب التحرير والنصر الخميني جهده كله لاستمرار تلك السيطرة وتمكينها.

لكن اغتيال رفيق الحريري الذي كان هدفه تحقيق ذلك التمكين إلى الأبد، انقلب إلى عكسه في العام 2005 بفعل يقظة لبنانية ظرفية مفاجئة ساعدتها ظروف إقليمية ودولية على إجلاء جيش الدكتاتورية الأسدية وأجهزة مخابراتها عن لبنان.

لذا هبّ الحزب الخميني حائراً ماذا يفعل، فلم يجد لتقويض الحركة الاستقلالية اللبنانية الشديدة الهشاشة سوى افتعال حرب مع إسرائيل في تموز 2006.

دامت تلك الحرب المدمرة أكثر من شهر، خرج الحزب الخميني من ركامها في دياره بنصر إلهي وزّع عائده الإيراني المالي على رهطه الجماهيري.

ومذاك تعملق ذاك الحزب واختفى خطيبه، وراح يبثّ خطابته التلفزيونية الانتصارية والحربية، وحوّل نصره المدمر قوةً ثأرية من الدولة اللبنانية المفككة والمهيضة الجناح، وبدأ بالتهامها، فاحتل مع رهطه وأتباعه وسط بيروت وعسكر فيه نحو سنتين، وأغار على أحيائها وعلى الشوف في حملة تأديبية أدت إلى ترويع كل من لا يدين بالولاء لسيطرته وحروبه وانتصاراته المدمرة.

مذاك، أي من العام 2008، يعيش لبنان في دوامة من التفكك والتفسخ والانهيار، فيما يسترسل خطيب حزب النصر الإلهي والوعد الصادق في خطابته الانتصارية من دون توقف.

وسمّى مساهماته في قتل الشعب السوري المنتفض على الدكتاتورية الأسدية وتدمير عمرانه، حرباً على الإرهاب والإرهابيين منذ العام 2012 وحتى الساعة.

وها نحن نعيش على ايقاع خطابة النصر الإلهي ومواعيدها المتلفزة، كما عاشت الجماهير العربية الناصرية على النشوة الخطابية المنتصرة طوال أقل من عقدين بقليل، لتستفيق من نشوتها على هزيمة مدوية.

ومن طهران إلى بيروت تغرق البلدان العربية إما في شقاق أهلي مذهبي وإما في حروب أهلية يساهم فيها حزب الله، ويسميها خطيبه التلفزيوني انتصارات يَمنُّ بها الله عليه، ويهتف: لقد ولى زمن الهزائم وجاء زمن الانتصارات.

هل من نهاية في يوم ما من هذه النشوة المدمرة؟

 

The Egyptian Prime Minister Gamal Nasser is cheered by a huge crowd on his arrival back in Cairo from Alexandria, where he announced he had taken over the Suez Canal Company. (Photo by © Hulton-Deutsch Collection/CORBIS/Corbis via Getty Images)