رغيد الصلح/الغياب العربي عن المفاوضات الأميركية – الإيرانية

313

الغياب العربي عن المفاوضات الأميركية – الإيرانية

رغيد الصلح/الحياة/13 تشرين الثاني/14

يترقب المجتمع الدولي باهتمام نتائج المفاوضات حول البرنامج النووي الإيراني المتوقع التوصل إليها خلال الأسبوع الأخير من شهر تشرين الثاني (نوفمبر) الحالي. فهذه النتائج جديرة بأن تؤثر على أشياء كثيرة، مثل أسعار النفط في العالم، والحرب العالمية على الإرهاب وعلى الاستقرار في المنطقة العربية. وتتفاوت النظرة إلى هذه المفاوضات من منطقة إلى أخرى، ومن بلد إلى آخر. ولقد نشرت مؤسسة الزغبي الأميركية نتائج استفتاء نظمته في عدد من الدول العربية تناول العلاقات الأميركية العربية والشرق أوسطية وتطرق إلى مسألة الموقف من المفاوضات. ولقد جرى هذا الاستفتاء في مطلع الصيف المنصرم، ولكنه مع ذلك لم يفقد أهميته، إذ إن الأوضاع العامة التي تؤثر عادة على مثل هذه الاستفتاءات لا تتبدل تبدلاً جذرياً على المستوى الدولي ولا على المستوى الإقليمي.

في ذلك الاستفتاء، عبَّر أكثر المستفتين الذين جاؤوا من عدة دول عربية، منها مصر والمغرب والإمارات وفلسطين ولبنان، عن نظرة متفائلة إلى المفاوضات، إذ أعلنوا تأييدهم لها وقالوا إنهم يتمنون نجاحها. ولكن عندما سئل أولئك المستفتون عن احتمال نجاح المفاوضات، تحول التفاؤل إلى تشاؤم وشك، إذ توقعوا لها الفشل، وتراجع التأييد والتجاوب معها، إذ ارتأت الأكثرية منهم أنه لا يتوقع أن تستفيد بلاده منها.

قد يكون من السهل أن يعثر المرء على الأسباب التي تجعل المواطنين العرب يفضلون خيار التفاوض على خيارات المجابهة، ففي منطقة تعاني التدمير الفعلي، المنهجي واليومي لمظاهر العمران كافة، تكتسب مشاريع التفاوض والتسوية والمصالحة شعبية غير مألوفة. وفي الوقت ذاته، وفي منطقة شهدت وتشهد عدداً لا حصر له من المحاولات والمبادرات التفاوضية التي لم يكتب لها النجاح، فإنه ليس غريباً أن ترافق هذه المحاولات الشكوك والنظرات المتشائمة. هذا قد يفسر الشك تجاه أي مشروع تفاوضي في المنطقة. ولكن فضلاً عن ذلك سوف نعثر على أسباب إضافية وعينية لنظرات الحذر والشك التي تحيط بالمفاوضات حول البرنامج النووي الإيراني والتي لا تزال تفعل فعلها حتى تاريخنا هذا، أي بعد أشهر من استفتاء مؤسسة الزغبي.

لعل أهم الأسباب التي تؤثر على النظرة العربية تجاه المفاوضات هو غياب المفاوض العربي عنها. إن هذا الشعور قد يكون في غير محله على الإطلاق، فالبرنامج النووي هو إيراني الهوية والانتماء والصناعة والتشغيل والنتائج، وهو يثير القلق في دول الغرب وأعضاء مجلس الأمن الدائمين المولجين بحماية المجتمع الدولي من أخطار انتشار الأسلحة النووية. وهذه الدول تخشى على أمنها الذاتي وعلى أمن المجتمع الدولي نتيجة الانتشار النووي، لذلك تحركت للحد منه وللحيلولة دون ولادة القنبلة الذرية الإيرانية إذا كان هذا الأمر هو ما تسعى إليه طهران. إذاً ما دخل العرب في هذه المسألة؟ ولماذا يكون لهم أي مكان أو دور في المفاوضات ولو بصفة مراقب؟

يجيب متابعون للمفاوضات أنها في الحقيقة ليست واحدة، بل اثنتان، واحدة في جنيف، الطرف الآخر فيها في مواجهة إيران هو مجموعة 5+1 (الدول الخمس الكبرى زائد ألمانيا) وموضوعها البرنامج النووي الإيراني، والثانية في واشنطن وهي مفاوضات أميركية- إيرانية، وتركز فضلاً عن النووي الإيراني على مستقبل المنطقة. يقول البعض استطراداً وفي معرض شرح معاني هذه المفاوضات ومغزاها، إنها تشبه المفاوضات التي جرت بين فرنسا وبريطانيا قبل التوصل إلى التفاهم الودي عام 1904. لقد سبقت هذا التفاهم صراعات قوية بين البلدين وكان مسرحها الولايات العربية في الإمبراطورية العثمانية، حتى إذا تم التوصل إلى الاتفاق، أمكن التنسيق بين المواقف والسياسات الفرنسية والبريطانية في هذه المنطقة.

جرت تلك المفاوضات، بالطبع، في غياب العرب. وإذا صحت الأنباء عن موضوع مفاوضات واشنطن فلعله من المستطاع القول إن الدول العربية ليست غائبة تماماً عن هذه المفاوضات. إن الأميركيين على صلة مستمرة بدول المنطقة، وهم على اطلاع على وجهات نظر النخب السياسية واتجاهات الرأي العام فيها. وهم يتعاطفون مع العديد من المشاعر والاتجاهات السائدة في هذه الدول. كذلك فإن الأميركيين يرتبطون بمعاهدات واتفاقات عقدتها الإدارات الأميركية المتعاقبة مع هذه الدول. وفي الآونة الأخيرة، وعندما اتجهت إدارة الرئيس أوباما إلى ترجيح كفة الخيار الدبلوماسي مع إيران، قدم المسؤولون الأميركيون، وعلى رأسهم أوباما، تطمينات وضمانات مباشرة إلى الزعماء العرب بصدد تمسك واشنطن بموجبات التعاون الأمني مع الحلفاء العرب.

قبل ذلك يمكن القول إن للقيادة الإيرانية صلات قوية مع النخب السياسية وشرائح واسعة من الرأي العام في عدد من الدول العربية المهمة. وهم أيضاً على بينة من آراء هؤلاء ومواقفهم، ومن مصالحهم وتطلعاتهم، ويتجاوبون معها وصولاً إلى خوض المعارك المشتركة ضد خصوم وأعداء للجهتين، وفي مقدمم الجماعات التي تعمل على تغيير الأوضاع بالقوة في هذه الدول.

تأسيساً على ذلك، يمكن القول إن الجانب العربي ليس مستبعداً من محادثات واشنطن، وإنه ممثل عبر الحليفين المتفاوضين وإن وجهة النظر العربية لن تكون حاضرة فحسب في المفاوضات، ولكن سوف تفرض نفسها بقوة على المتفاوضين. فلكل من الأميركيين والإيرانيين الأسباب الموجبة للدفاع عن مصالح وتطلعات الحلفاء والأصدقاء العرب، وللسعي إلى الخروج من المفاوضات بما يرضي ويفيد أولئك الحلفاء والأصدقاء ويعزز دورهم ومصداقيتهم في بلادهم. فإذا أفضت المفاوضات إلى مثل هذه النتائج استفاد منها المتفاوضون في واشنطن أيضاً، أي الإيرانيين والأميركيين، إذ ستتعزز مكانة الولايات المتحدة وإيران في الدول العربية بمقدار ما تترسخ مكانة الحلفاء والأصدقاء فيها. إذاً، ما المشكلة في غياب العرب عن هذه المفاوضات؟ وما الضرر في أن تترك الدول العربية للأصدقاء وللحلفاء أن يعبروا عن آراء العرب ومطالبهم؟ ولماذا نتوقع أن يكون العرب حاضرين في قضية لا تخصهم ولا تعنيهم، ألا وهي قضية البرنامج النووي الإيراني؟

لئن اقتصرت المفاوضات فعلاً على البرنامج النووي، فإن من البديهي ألا يكون للدول العربية أي مسوغ للمطالبة بأن تتمثل في المفاوضات. ولكن لهذه الدول كل المبررات لمتابعة هذه المفاوضات بدقة، وتوظيف جهود دبلوماسية في متابعة تطوراتها، وفي السعي حتى تكون نتائجها متوافقة إلى أبعد ممكن مع المصالح العربية.

أما إذا صح ما قيل في مفاوضات واشنطن وفي ما يمكن أن تسفر عنه من نتائج تؤثر على المنطقة العربية، فإن من حق الدول العربية ولأسباب بديهية أن تمثل فيها. وكما قلنا أعلاه، فقد يشعر كلا الطرفين أو واحد منهما على الأقل بأنه قريب من الدول العربية إلى درجة أنه قادر على التعبير عن مصالحها. لكن هذا الشعور ليس في محله. وفي مطلق الحالات، فإنه لن يحظى بالترحيب في الأوساط الحريصة على المصلحة العربية. وفي أحسن الحالات سوف ينظر إليه على أنه نوع من ممارسة الوصاية الفكرية والسياسية على العرب. فضلاً عن ذلك، فإنه مهما تطابقت وجهات النظر بين الدول العربية وحلفائها الدوليين، فإن هناك فوارق مهمة بين العرب والفرقاء الآخرين على أكثر من صعيد استراتيجي.

إن العرب ما زالوا حتى هذا التاريخ، وعلى رغم كل التطورات التي ألمَّت بالمنطقة، والتراجعات التي حلت بالعلاقات العربية- العربية، متمسكين بالنظام الإقليمي العربي. وتختلف هذه النظرة عن نظرة كل من النخب الحاكمة في الولايات المتحدة وإيران حول هذه المسألة، إذ يرغب الطرفان في قيام نظام إقليمي جديد. الولايات المتحدة لا تقبل باستمرار قيام أي نظام إقليمي جديد إلا إذا ضم إسرائيل. أما إيران، فإن مصلحتها تتناقض مع استمرار ونمو النظام الإقليمي العربي طالما أنها لن تكون جزءاً منه وقطباً له. من هنا شهدنا الطرفين يؤيدان لمدة سنوات حكومة نوري المالكي المعادية للفكرة العربية، ولم يغير الطرفان موقفهما من هذه الحكومة إلا بعد وصول العراق إلى شفير حرب أهلية.

إن الموقف تجاه التعاون الإقليمي العربي هو مثال على فوارق المصالح والمواقف بين الدول العربية من جهة، وبين كل من الولايات المتحدة وإيران من جهة أخرى. إن هذه الفوارق لا تمنع تعاون المجموعة العربية مع الإيرانيين والأميركيين. بالعكس، إنها في بعض الأحيان يمكن أن تشكل حافزاً للتعاون حتى لا تتفاقم الفوارق وتتعطل معها فرص بناء علاقات مثمرة بين الأطراف الثلاثة. ولكن حتى يتوافر أساس معقول للتفاهم المثلث أو الثنائي، فمن الضروري أن تعمل الدول العربية نفسها على التوصل إلى تحديد لمصالحها ومواقفها المشتركة تمهيداً لطرحها على الآخرين والسعي للحصول على تأييدهم لها.