شارل الياس شرتوني/الجمهورية المتداعية وتحلل الرباطات المواطنية

69

الجمهورية المتداعية وتحلل الرباطات المواطنية
شارل الياس شرتوني/04 آب/2019

الامر الملفت في الأزمات السياسية والمالية والحياتية التي تعصف بالبلاد هو تحلل الرباطات المدنية والمواطنية الى حد جعل من الخطاب السياسي خطابا تكفيريا واستهدافيا وتعبويا وعلى قاعدة انتظامات سياسية صدامية، تذكر ببداية الحرب في لبنان حيث انتفاء اللغة المدنية والسياسية المشتركة، مهد للنزاعات المديدة التي كوتنا لمدة ١٥ عاما، ولم نقو حتى الساعة معالجة نتائجها.

ان مجرد تحول أي خلاف حول اشكالية سياسية او فنية الى حرب كلامية مفتوحة، لا وازع لها ولا حدود، سوف يحيلنا الى بلقنة مضطردة للحياة السياسية في وقت حيث المنطقة تعيش حالة تفجر سياسي، في ظل ديناميكيات عنف مفتوحة ومرتبطة بالواقع اللبناني على قاعدة استواءات جيوبوليتيكية (جبل عامل-جبال العلويين، التخوم السنية في البقاع والشمال)، ومناطق نفوذ محكومة باقفالات ومنازعات سياسية وفئوية (الشوف، الجنوب، بيروت، جبل لبنان، البقاعات، الشمال)، وانقسامات ايديولوجية تتدرج بين متغيرات الاسلام السلفي، والثورة الاسلامية الإيرانية، وترسبات الايديولوجيات القومية البائدة (البعث، القوميين العرب والسوريين )، وبقايا اليسار السوڤييتي (الحزب الشيوعي)، واليسارات الهجينة الناشئة، والتيارات السيادية والأحزاب التاريخية في الاوساط المسيحية، والاتجاهات الليبرالية المتنوعة في اوساط مختلفة، الطائفية منها والعابرة للطوائف.

ان مجرد نظرة اجمالية للواقع السياسي القائم تكفي للتثبت من واقع التفتت السياسي القائم وتردداته على واقع وطني رث في متكاءاته المواطنية (الشعور بالانتماء) والقيم السياسية والمدنية الجامعة.

السؤال المطروح اليوم، يدور حول إمكانية تحصين كيان وطني متداع، وترميم جمهورية مشلعة، واصلاح مؤسسات حكومية غير قادرة على معالجة اي من الملفات البنيوية العامة (بنيات تحتية، تربية، صحة عامة واستشفاء، المسائل البيئية والمناخية، الفساد…) بغياب الحد الأدنى من التوافق الميثاقي، والوطني والمدني والسياسي. اريد ان استعيد هذه الإشكاليات من خلال محاور ثلاثة :

أ- المحور الوطني والدولاتي: ان التبدد الفعلي للاعتبارات الميثاقية لجهة الالتزام بموجابتها المبدئية (التوارد الاخلاقي والمدني والسياسي بين المسيحيين والمسلمين، Moral Reciprocity، احترام الحرية الدينية والحريات العامة والفردية، الحوار الحياتي والمسكوني بين اركان التعددية الدينية، الخيارات الثقافية والحياتية التعددية …) ينعكس تجاذبا مدمرا بين سياسات سيطرة ودفاعات مستنفرة، تحفز الاقفالات الاوليغارشية التي تحكم اللعبة السياسية.

ان اي جدال حول آلية المشاركة السياسية يفترض تسليما بمبدأي التوارد الاخلاقي والمساواة المبدئية والبحث الخلاق عن الصيغ السياسية التي تضمنها، وتساعد على تطوير آلية حكومية تداخلية قادرة على حماية حق المشاركة، والحؤول دون تحول الإدارات العامة الى اليات تصريف للزبائيات الفئوية، وإرهاق المالية العامة بمصاريف غير منتجة، وتثبيت الاختلالات البنيوية للاقتصاد اللبناني المثقل بأعباء الدولة الريعية ونظام محسوبياتها، والتضخم السرطاني للقطاع العام.

يجب ان نخرج من دائرة المحاصصة الريعية ونظام الحيازات، الى دائرة فصل العمل الإداري عن سياسات النفوذ، وتحفيز السياسات الاستثمارية كمصدر اساس من اجل توسيع قاعدة فرص العمل، وتقليص حجم القطاع العام، وهذا لن يتم خارجا عن نظام لامركزي ينهي واقع التداخل بين سياسات النفوذ وعمل التدبير الحكومي.

ان الجدال القائم حول المادة ٩٥ والمناصفة الوظيفية عقيم ونزاعي لانه ينطلق من واقع التداخل بين سياسات النفوذ والعمل التدبيري، وهذا ما عبر عنه خلدون الشريف (المستشار السياسي لنجيب ميقاتي ) عندما صرح بضرورة جمع المبدأين كأساس للمحاصصة الوظيفية.

ب- محور النزاعات القيمية ( Cultural Wars )
ان النزاع المحموم الذي نشأ حول الحفلة الموسيقية لفرقة “مشروع ليلى” قد ظهر النزاعات المستترة التي لم تلق علاجا او تسوية حتى الساعة، والتي تطال على وجه الإجمال حقوق المسيحيين وحرياتهم في جمهورية الطائف؛ والنزاعات التي تستحثها الخلافات حول الأنظمة القيمية والأساليب الحياتية.

ان الصدام الفج بين الأطراف المتعارضة وما ادى اليه من تنابذ وتحقير وتنكر متبادل، واستثمار الخلاف الظرفي لاستهداف المسيحيين اللبنانيين دون تمييز وانطلاقا من حسابات سياسية كيدية، قد ظهر التناقضات السياسية المتوارية، والترسبات النزاعية الراكدة، وعدم وجود نظام قيم سياسي جامع يساعد في تسوية النزاعات حول القيم والمناهج الحياتية، وفراغات العمل التشريعي.

هذه الفجوات تفسر الى حد بعيد هذا التفلت النزاعي، وغياب التحكيم الدولاتي والاكتفاء بإلغاء الحفلة تلافيا للاضطرابات الاهلية.

علينا الخروج من دائرة النزاعات المستشرية الى الحيز القانوني والمدني الذي يحمي الحق بالاختلاف، ويضمن الحريات الدستورية ويحول دون الاستطرادات النزاعية…ان المبالغات التي شهدناها لدى الطرفين تضعنا امام هشاشة السلم الأهلي، وفقدان اللحمة المدنية التي تظلل الحياة الاجتماعية والسياسية، وتوسع دوائر الصدامات الاهلية.

كما ظهر هذا الحادث الطابع الطبقي للنزاعات القيمية، ومفارقات النخبوية التمييزية، والتناظم الصدامي لزمنيات مختلفة.

ج-خلاصة مرحلية: ان واقع التآكل المديد والمتشعب الذي يعيشه لبنان يعود بمعظمه الى ارتباط توازناته الداخلية بديناميكيات الصراع السني – الشيعي (السعودية، إيران وتركيا)، وانكشافه على مجملها، سواء على المستوى الاستراتيجي او الايديولوجي.

ان التسمر على خطوط النزاعات الإقليمية سوف يحول دون استقرار البلاد، وإصلاح البنية الدولاتية المتهالكة.

كما ان تثبيت الاستقرار الداخلي يرتبط بمعادلات جيوپوليتيكية جديدة، فان اصلاح الدولة يتطلب تجديدا للمواثيق السياسية والافتصادية والاجتماعية، والبيئية والتربوية