سمير عطاالله/ريمون اده: “أيقونة”رسمها صاحبها

179

ريمون اده: “أيقونة”رسمها صاحبها

سمير عطاالله/موقع المرصد/26 تموز/2019

لا حاجة الى مناسبة كي نتذكر ريمون اده. فهو على جدار الذاكرة مثل الايقونات التي تعلّق للزينة بلا سبب محدد. وتظل معلّقة لأن أسباب صدارتها باقية، كمن يعلق لوحة لشروق، أو غياب، جميل الألوان.

أعادني كتاب الاستاذ شكري نصرالله “مذكرات قبل أوانها” (1) الى أيام عايشنا في باريس بهاء المنفيين الذين غابوا، وغاب معهم عطر الحرية وعبق الاستقلال: علياء الصلح وصائب سلام وريمون اده. وكانت الست عليا تسر إليّ في خليط من الحب والتشفي المحب: “ريمون معقد من قامته”! وكنت اقول لها “العميد عنده عقدة واحدة؟ إنه لا يرى أحداً في هامته”.

يروي شكري نصرالله ما سمعه من العميد العنيد مثل شجرة أرز، الإنسان الذي لم نشهده في لحظة خضوع، أو موقف تسوية: “لم أتزوج لأن الزواج فيه أولاد. وأنا لا احتمل مشهد ابني مريضاً يبكي. الأبوّة تحتاج الى قوة أقوى من قوتي”.

ذلك ما كان يقوله السياسي اللبناني الذي رفض كل ضغط سياسي، بما فيه محاولات الاغتيال، وكل اغراء مالي لا حدود له، وكل عرض سياسي قدم له على مر السنين، من القوى التي تملّكت في المراحل صوت الانتصار. ريمون اده كان يزدري الانتصار الوصولي ويقبل شيئاً واحداً: الفوز.

رسم طريقاً مستقيماً ومشى. مات وهو لم يسامح اميل اده، على قبوله الرئاسة على طبق فرنسي، وعاش وهو يرفض جميع الاطباق التي تلت، بينما كان المتدافعون يتنقلون من عتبة الى عتبة. قلة قليلة جداً دخلت السياسة في مثل قوته، وخرجت منها في مثل نصاعته. ولو استمرت شراكته في الحكم مع فؤاد شهاب، لكانا غيّرا حتى في النفس اللبنانية المسترخية. لكن واحداً كان يفضل الحرية بأي ثمن، وآخر كان يريد النظام ولو بالقليل منها.

لكن كلاهما تحدر من عائلة ذات إرث في التاريخ والبورجوازية العاملة: الأول أمير افتقر، والثاني نجل أمير حديث وأم سرسقية، كان يتحاشى الاشارة إليها. وكلاهما كان كاثوليكياً يسوعياً لا يطيق الخطايا الاصلية أو العرضية. ولا المخالفات الصغيرة أو الكبيرة، ويقدس المال العام، ويزكّي للفقراء والمحتاجين، ويكره العنف والقسوة، ويعتبر العمل واجباً: Devoir.

كان مستحيلاً أن يطلب أحد من ريمون اده، وخصوصاً محازبوه، “خدمة” أو غرضاً أو وساطة. وإذا حدث، فهو سوف يدقق في قانونية الطلب وشرعيته ومدى أهلية الطالب واستحقاقه. ولأنه ولد في بيت رئيس للجمهورية، حرص على ان يكون معارضاً، ومشككاً في المنافقين، ولم يسمح لنفسه مرة بانتهاز أي فرصة ولا سمح لأي انتهازي بالاقتراب منه. وكان شعاره الضاحك على الدوام “ليس هناك شيء اسمه نصف حبلى أو نصف عذراء”.

لا نعرف ماذا كان فعل لو أصبح رئيساً للجمهورية مثل فؤاد شهاب. لكن الأكيد أنه كان في داخله فرح بكونه اتخذ حجم الرئاسة، من دون الوصول الى ممالكها ومسالكها، كما في قول القزويني. كان يحبها ويخاف مهاويها، تماماً كما كانت علاقته بالنساء. اقترب منهن في المخادع، وابعدهن في الخدع. لا تسوية في شيء.

كانت عقدة حياته الديكتاتورية. بسببها اتخذ موقفاً من العسكر الذين سيطروا على السلطة في العالم العربي، وخشي أن يضموا لبنان إلى ما كان يسميه “ثقافة الديكتاتوريات”. آمن أن عدو لبنان الطبيعي الأول هو اسرائيل، لأنه ديموقراطية طبيعية لا تحتمل نظام الرجل الواحد، والرأي الواحد، والآمر الأعلى. فؤاد شهاب كان مقتنعاً بأن لبنان مجتمع فاسد ضعيف النفس، نفعي، وبلا قيم، ولذا، يجب مراقبته على الدوام. ليس بالعصا، بل بالجرس.

العميد كان مقتنعاً بأنه لكي يبقى لبنان في هذا الشرق المتهافت، لا بد من سر وجود مختلف: الحرية والديموقراطية والبرلمان والحياة الفكرية والفنية الخلاّقة، التي لا يمكن ان ينهض ويستمر بغيرها.

ولد ريمون اده أوائل القرن الماضي (1913) في الاسكندرية، يوم كانت أولى مدن المشرق المتألق، والتي سوف ترثها بيروت في تعددها وازدهارها وانفتاحها قبل أن يدخل الحكم العسكري الى مصر وتتقوقع المدينة على نفسها، وتقفل الجامعات الكبرى، ويخلو الميناء المزدحم إلا من السفن السوفياتية.

لم يكن يريد أن يفقد المدينة الكوزموبوليتية مرتين. وعندما أمضى 27 عاماً في باريس، كانت لا تزال النموذج الذي قلدته الاسكندرية وبيروت. لكنها لم تكن الاسكندرية، ولا بيروت. لا دفء المتوسط، ولا دفء المشارقة، ولا نسائم صوفر، حيث اعتاد العميد ان يمازح الضيوف ويسخر من السياسيين ويذكر العجائز بإناقتهن زمن الحرب العالمية، الثانية، على الأرجح.

يروي شكري نصرالله في مذكراته الممتعة كيف كان ريمون اده طوال ثلث قرن، يعيش وحيداً في جناح صغير (صغير جداً) على سطح فندق متواضع في حي الفنادق الفخمة، وحيداً. كان يطعم الطيور “المقيمة”، أو الطيور المهاجرة التي اعتادت المرور بشرفته كل عام والاستراحة هناك، وقد أمن لها الأكل والماء.

النسر المهاجر لم يفكر مرة في العودة الى مرابع شبابه وساحاته. كان الاكثر معرفة بالنفس البشرية. نقل صيفه من “الكوت دازور” إلى بلاد الباسك لئلا “يُحرج” اللبنانيين الذين لا يتجرأون على زيارته: “لست بطلاً شعبياً، ولا اريد أن اكون. الشعبوية لها طبع خاص”. لذلك، رفض ان يستغل منفاه وسيلة للعودة، الجميع استغلوا منافيهم، كان يقول. نابوليون في البا، وغريبالدي في اميركا اللاتينية، ولينين في سويسرا. ثم ينتفض ضاحكاً: “يا خيي شو بدك فيي. أنا مش نابوليون. أنا ريمون اده”.

لم يسامح لوالده خطأ قبول الرئاسة العاصفة، ولم يسامح نفسه على الدخول في حلف سياسي يتحدث لغة طائفية. في هذا أيضاً كان مثل فؤاد شهاب: الطائفية لغة الشارع، والشارع فوضى وغرائز ومصارعة ثيران: “لست مستعداً للمشاركة في أي عمل تسيل فيه نقطة دم”.

على رغم شخصيته البسيطة، المحببة، الضاحكة، الفوارة دائماً مثل نبع من علو النفس، كان يخفي وراء ذلك المظهر معرفة علمية بالناس. أدرك انه ليس في صف الجماهيريين المولعين بالذات، المنغلقي الأفق. ولا مرة خضع الناس للعادلين المتسامحين، بل دائماً لكبار المهووسين بالذات، الاحاديين الذين تجرأوا على اعتبار حقيقتهم الوحيدة الممكنة وارادتهم الصيغة الاساسية لقانون العالم (2).

طالما كانت معرفة الناس مواضيع الحوار مع العميد، قديس الطمأنينة والسكينة المذهل. قاس مع نفسه، صامد على الآخرين، كاثوليكي بلا قداديس. أحب في شبابه ممثلة مسرحية فرنسية، لكن امه عارضت الزواج، فظل يلتقيها سراً. لكن ليس في جناحه، يروي شكري نصرالله. لا يجوز أن يُرى وقد خرجت سيدة من عنده.

عندما عاد جثماناً الى كاتدرائية مار جريس، أخرج رأسه من نعشه لكي يتأمل معرفته بالناس. إنهم لا يحبون العادلين والمتسامحين وذوي النفوس العالية. خافوا حضور الجناز. وارسل حافظ الأسد وفداً عسكرياً يعزي بالرجل الوحيد الذي قال لا. وامتلأت الكنيسة بالدروز، جاءوا يودعون الشجاع الذي رفض الحرب. استراحة المحارب النبيل الذي ودعته الجمهورية، وودعها، فيما الشعب الأبي يؤلف حكومات وطاقة.

1 – شركة المطبوعات للتوزيع والنشر

2 – ستيفان زفايغ، “عنف الديكتاتورية”، دار الفرات

– يغيب “مقال الأربعاء” في اجازة الصيف من الاسبوع المقبل