شارل الياس شرتوني/الصاعق الفلسطيني والجمهورية المتداعية

58

الصاعق الفلسطيني والجمهورية المتداعية
شارل الياس شرتوني/20 تموز/2019

تحيلنا متابعة التطورات السياسية اليومية في البلاد الى الاستحالات المتجددة دوما في بلادنا، وتعيدنا الى قراءات قديمة عبر عنها في أواخر الستينات علماء سياسة اميركيون، “الجمهورية المتسكعة ” (مايكل هدسون)، “الأمة غير المحتملة” ليلا مايو.

لقد استدعت مبادرة وزير العمل، كميل ابو سليمان، الى مراجعة قوانين العمل وتنظيم اوضاع العمالة بشقيها الداخلي والخارجي، في ظل اوضاع الفوضى المعممة، والانهيارات المالية، والأزمات الاجتماعية والاقتصادية والتربوية المتكاثفة، ردود فعل خارجية وداخلية ذكرتنا ببدايات الحرب الاهلية سنة ١٩٧٥.

الدولة اللبنانية محكومة بفعل المفارقات السياسية بالتعطيل الذاتي والاستنكاف عن اي عمل سيادي تحت طائلة تجدد النزاعات على ارضها.

ان مجرد تباين في وجهات النظر حول تنظيم العمالة الفلسطينية يؤدي الى خروج المخيمات من تخومها بالسلاح تحت عنوان “ثورة حتى النصر”، وكلنا يعرف ما كلفته هذه الشعارات من نزاعات، متنوعة المصادر، احتجزتنا على مدى ٥٤ عاما (١٩٦٥-٢٠١٩).

ان مجرد الإعلان عن سياسات تنظيمية ،خاضعة باي حال للمسارات التفاوضية بين الأطراف المعنية بالملفات المثارة، يضع السلم الأهلي موضع المساءلة ويدفع بكل شعارات الكره الدفين الى السطح. تقودنا هذه الملاحظات الأولية الى الخلاصات التالية:

أ- ان الخلافات في الثقافة السياسية في الاوساط الاسلامية والمسيحية على تنوع تصريفاتها السياسية، لا تزال فاعلة الى حد يستحيل معه تخريج توافقات تدبيرية تسمح للدولة القيام بمهماتها السيادية ولو بحدها الأدنى . كل قرار او عمل تدبيري مرتبط بموافقات او ممانعات سياسات النفوذ الاسلامية والعربية، والتوافق الوحيد الممكن هو، انكفاء الدولة اللبنانية والتسليم بالأمر الواقع وباملاءات سياسات النفوذ.

ب- ان إلقاء اللوم على الدولة اللبنانية فيما يعود الى الأحوال الحياتية في المخيمات الفلسطينية، هو أمر خاطىء لسبب أساسي يتعلق بواقع الاستثناء السيادي (Extraterritoriality) الذي يحكم أوضاعها ويجعل منها واقعا خارجا عن النطاق الدولاتي اللبناني، والأسوأ من كل ذلك، انه يحولها مساحات مشرعة لكل سياسات النفوذ الفلسطينية والإسلامية والعربية، ومنطلقا لكل المشاريع الانقلابية، أنى كانت توجهاتها. العلاقة مع الدولة اللبنانية استنسابية، ومخارجة، ونزاعية بالمبدأ، وخارجة عن أعراف القانون الدولي والموجبات الدستورية . نحن امام امر واقع يرتبط بديناميكيات نزاعية مديدة ومفتوحة، وفاعلين إقليميين وغير دولاتيين. ان حروب المخيمات الداخلية والخارجية مضافة الى ارث دولة منظمة التحرير الفلسطينية وأجنحتها (علينا تذكر ما قاله عرفات ذات يوم، [انا حكمت لبنان]، كافية للتدليل على واقع المخارجات السرطانية (Ectoplasm) التي تحكم آلية العلاقات مع المخيمات الفلسطينية والتي تحيلها الى ازمات بنيوية ومقفلة.

ج/ اما المؤشر الاسوأ فهو الموقف الدائم لسياسات النفوذ الاسلامية والدرزية في لبنان، على تنوعها، تجاه الإبقاء على الفراغات السيادية فيما يخص الواقع الفلسطيني، واستثماره انطلاقا من اعتباراتها وأولوياتها الاستراتيجية المخصصة، الخارجة بالمبدأ عن الاعتبارات السيادية اللبنانية (الانعزالية، تذكروا مقولة “من هم الغرباء أيها الغرباء” وتصريحات بعض المسؤولين السياسيين والدينيين السنة الراهنة ).  نحن امام معميات الثقافة السياسية في الاوساط الاسلامية ومحرماتها، وبالتالي نحن امام خيارات مبدئية غير متآلفة ونزاعية في مؤدياتها. ضف الى ذلك مخزون الأحقاد ومشاعر الكره والمحاذرة، والأفكار المسبقة، وغياب القراءة النقدية لمجريات الحرب في لبنان التي تحكم التواصل بين الجماعات. لم أفاجأ عند سماعي مواقف لأجيال جديدة تستعيد مواقف سمعتها في أواسط السبعينات عندما كنت في العشرينات. ان مدلولات الخطاب القائم على منازعة شرعية الكيان الوطني اللبناني، ومبادىء التعددية والتوافق، وصيانة حريات وحقوق المجتمع المدني تجاه نماذج الحكم السلطانية والإسلامية والدفع بمنطق النزاعات المفتوحة، لسببب او لغير سبب، هي احدى مظاهر الحالات الذهنية العدمية والتوتاليتارية المنحى التي تستحوذ على المتخيل الجماعي في هذه المنطقة من العالم، وتحكم اطباقات المخيمات الفلسطينية وآفاقها المسدودة.

د/ لا خروج عن هذا الواقع المأزوم واستثماراته المتوالية على غير انقطاع، ما دامت المنطقة في حال تفجر مفتوحة على كل التداعيات الإقليمية ومتغيراتها، وما لم نجتمع حول ثقافة سياسية جامعة، وما لم نعد صياغة العقود الاجتماعية على تنوع مندرجاتها في بلد يعيش حالة تعطيل بنيوية، وما لم ينته واقع الاستثناءات السيادية والمقاطعات السياسية والأقفالات الاوليغارشية التي تحول دون اعادة بناء الحيثية الدولاتية بمكوناتها المؤسسية والقيمية والادائية. ان المبالغات التي نشأت عن هذا التدبير الحكومي هي صورة عن واقع نزاعي مفتوح ولا علاقة لها بالأسباب المهنية المثارة. خارجا عن الاعتبارات الإصلاحية التي اوردت، لا ارى منفذا باتجاه أفق سياسي او وطني جديد: ان الخروج عن القواعد الميثاقية والديموقراطية الليبرالية المؤسسة سوف يكون بمثابة اعلان لموت دولة لبنان الكبير عشية مئويتها.