شارل شرتوني/قراءة في البعد المديني لسياسات النفوذ في الأوساط الاسلامية، تداعيات مسألة الحدث

112

تشخيص للمرض ولكل أعراضه ووصف لسبل العلاج
الياس بجاني/22 حزيران/2019
المقالة موضوع تعليقنا المنشورة على هذه الصفحة هي أكثر من روعة بصدقها وجرأة وحرية وعمق معرفة وثقافة وخبرة كاتبها الإستاذ شارل الياس شرتوني لأنها بدقة وبخلفية علمية وبموضوعية تشخص العلة بدون قفازات وبالوقائع والإثباتات المعاشة على الأرض وتعطي الحلول.. كما أنها تعري كلياً نفاق واسخريوتية وسطحية ثقافة وفكر ورؤيا قادتنا الموارنة تحديداً اللاهثين على خلفية قلة الإيمان وخور الرجاء والجحود صوب المصالح الذاتية على حساب لبنان وأهله ونظامه والأخطر على حساب دماء الشهداء.  نعم نحن بحاجة إلى طروحات عملية وعقلانية وواضحة تحاكي الواقع المعاش على الأرض وتعمل على تحصين ليس فقط وجود وهوية ومعتقد المسيحيين، بل وجود وهويات ونمط حياة وثقافة وتاريخ وتميز كل الآخرين من الشرائح اللبنانية وذلك ليبق لبنان بلد الرسالة الحضارية والتعايش السلمي والإنساني المتميز.

قراءة في البعد المديني لسياسات النفوذ في الأوساط الاسلامية، تداعيات مسألة الحدث
شارل شرتوني/22 حزيران/2019

ان الجدالات الواسعة التي استحثتها السياسة المعتمدة من قبل بلدية الحدث من اجل حماية النسيج المديني القائم فيها منذ اكثر من مئة عام ، ودرءا لمتابعة سياسة القضم التي استأصلت الوجود المسيحي في كل ساحل بيروت الجنوبي، بدءاً من النطاقات العقارية لبلدات الشياح وحارة حريك والمريجة-الليلكي والحدث وكفرشيما ( من منطقة رمال بيروت الى نواحي الحدث وكفرشيما الحالية )، كجزء من استراتيجية التمدد والتواصل التي صاغتها سياسات النفوذ الشيعية على محاور مدينية متنوعة ( مسيحية وسنية ودرزية في بيروت وضواحيها الجنوبية وعلى مداخل الشوف الأوسع، وما استدعته من سياسات مضادة خلال المرحلة الفلسطينية وما بعدها )، تستدعي بعض التوضيحات ومواقف سياسية غير مبهمة لجهة مؤدياتها ومراميها :

أ- ان سياسة التمدد الديموغرافية والعقارية والاقتصادية التي تجري على مختلف أنحاء الجغرافيا البشرية اللبنانية، هي نتيجة لديناميكيات الحرب وما أدت اليه من تبدلات سكانية تتغذى من سياسات سيطرة شيعية وسنية ودرزية إرادية، ولاعلاقة لها البتة بديناميكيات التفاعل الفردي والإرادي. هذه ديناميكيات سياسية بامتياز ، تتوخى ضرب النسيج المدني التاريخي لحساب سياسات نفوذ إسلامية ودرزية متضاربة في مشاريعها الخاصة وتعمل على تقويض المرتكزات السكانية ذات الغالبية المسيحية، من خلال التمدد العقاري والعمراني، ومن خلال تمويل إقليمي متنوع المصادر وتوظيفات مناطقية هادفة، وهذا ما شهدناه في العاصمة من خلال مشاريع سوليدير، واليسار في الضاحية الجنوبية، والشوف الأوسع ، والجنوب والبقاعات وطرابلس وعكار. اذن نحن لسنا امام ظواهر فردية منعزلة، نحن امام سياسات منهجية تسعى لتقويض المرتكزات الانتروپولوجية للاجتماع السياسي اللبناني، ونتيجة للاختلالات البنيوية التي أدت اليها الحرب وسعت لتثبيتها جمهورية الطائف. ضف الى ذلك ان سياسات المضاربات العقارية، والتهرب الضريبي، والاستملاك الأجنبي المشرع والمقنع، والتوسط العقاري، وعودة المهجرين، واداءات القطاع المصرفي، ارتبطت وترتبط بشكل موارب ومباشر باستراتيجيات السيطرة في الأوساط الاسلامية والدرزية. لا بد من تقصي الوقائع الفعلية الجارية واقعيا قبل الاسترسال في الكلام الكاذب الذي يتوخى تمويه الحقائق، تحت ادعاءات مواطنية فارغة المضمون.

ب- لاسبيل لاحتواء ديناميكيات السيطرة في ظل اختلالات سياسية بنيوية، أطاحت بتماسك البنيان الدولاتي في لبنان واستقلاليته لحساب سياسات سيطرة في الأوساط الاسلامية والدرزية، التي حولته الى مجموعة مقاطعات نفوذ متنازعة، فيما أفردت للمسيحيين حيزا استنسابيا تابعا لمحاور النفوذ هذه بشقيها الداخلي والإقليمية. لقد سقطت الاعتبارات الميثاقية بفعل سقوط المبنى الدولاتي اللبناني وتحوله الى متغير تابع لسياسات النفوذ السنية والشيعية الإقليمية، وأضحى الاداء المؤسسي صوريا يستثمر في عملية تخريج سياسات السيطرة. هذا الواقع السياسي كان بأساس سياسات النهب المبرحة التي تقاسمت أعباءها مراكز النفوذ في الأوساط الاسلامية والدرزية، بالتكافل مع نظام الأسد حتى ٢٠٠٥، ومع إيران والسعودية في المرحلة اللاحقة.اما الملحقات السياسية في الأوساط المسيحية، فقد اصطنعت في المرحلة الأولى ( ١٩٩٠-٢٠٠٥ )، واستتبعت في المرحلة الثانية ( ٢٠٠٥-٢١١٩ ) ، ولم تعد سوى متغيرات تابعة وقاطرات لمشاريع السيطرة الشيعية والسنية القائمة. ان سياسة التقويض المدني والعقاري للاجتماع السياسي اللبناني قد بلغت مدى مهما يسمح بضرب التوازنات البنيوية، التي سوف تطيح ليس فقط بمرتكزات الحياة السياسية الداخلية ،بل بالوجود الوطني اللبناني عشية مئويته ( ١٩٢٠-٢٠٢٠ ).تستهدف سياسة التهميش الارادية للمسيحيين، التوازنات البنيوية والكيان الوطني اللبناني، فمع سقوط المسيحيين من المعادلات والمواثيق المؤسسة، تكتمل شروط إنهاء لبنان لحساب سياسات نزاعية إقليمية مفتوحة.

ج- لا خروج عن هذا السياق المدمر للمعادلات الناظمة للاجتماع السياسي اللبناني القائم ( التعددية الدينية المنشئة بمدلولاتها الانتروبولوجية والسياسية، والايكولوجية -بمعنييها الثقافي والطبيعي-، والاقتصادية، والاجتماعية والثقافية وما تمليه على صعيد الهندسة الدستورية وآليات صياغة السياسات العامة على تنوع مندرجاتها )، ما لم تستقم المعادلات السياسية التأسيسية من خلال اعادة صياغة العقد الاجتماعي المؤسس وملحقاته التطبيقية في كل المجالات السياسية العامة. الانقسام السياسي هو تعبير عن خلافات مبدئية تطال الاجتماع السياسي، تترواح بين السياسات الخارجية، والدفاعية، والاجتماعية والثقافية والتربوية، والمدينية التي لا بد من استجلائها، تقصيا للفروقات والاتفاقات وبحثا عن اواليات الصياغة المتوازنة للسياسات العامة، أو بدائل تطال البنية الاساسية للاجتماع السياسي.

د-لسنا بحاجة لأي وعظ في خصائص الاجتماع السياسي اللبناني، فهو الوحيد الذي حمى مبدأ التمييز بين المجتمع المدني والسلطة السياسية، وحال دون الوقوع في الدولة السلطانية السائدة في هذه المنطقة من العالم، وصان الحريات بمدلولاتها الوجودية والسياسية والحياتية، وركز الحياة السياسية على اسس إرادية وتوافقية وميثاقية، والتعددية بمختلف مدلولاتها وعلى اساس دولة القانون، وهذا ما أتى به مشروع دولة لبنان الكبير الماروني، وركزته الليبرالية في الأوساط المسيحية وردائفها في الأوساط الاسلامية والدرزية، هذا لن يبقى في حال تمادي سياسات القضم والتهميش التي تستهدف المسيحيين. هذا هو المدلول الحقيقي للتبدلات العقارية، وكل كلام اخر يندرج في باب التعمية الارادية، والكلام الإنشائي الذي يدعي العصمة الاخلاقية او الروح المدنية والليبرالية الكاذبة او الواهمة. اما سياسات ميشال عون وسمير جعجع وسامي الجميل فهي شخصية بامتياز ولا تتطرق للموضوع الأساس المتعلق بسياسات النفوذ الشيعية والسنية التي يشكلون احدى روافعها. ان استهداف قواعد الاجتماع السياسي اللبناني قد قضى على حيثية الكيان الدولاتي ومفهوم دولة القانون ، وسوف ينهي دولة لبنان الكبير عشية مئويتها وفي خضم انهيارات النظام الدولاتي الإقليمي وتداعياتها الدولية.