من أرشيف عام 2006/شارل شرتوني: حرب الأوهام القاتلة… من دولة التخوم المدمِّرة إلى سياسة الأرض المحروقة

415

حرب الأوهام القاتلة/من دولة التخوم المدمِّرة إلى سياسة الأرض المحروقة
بقلم/شارل شرتوني

هذه الدراسة كانت نشرت في جريدة النهار بتاريخ 11 أيلول/2006

ها نحن مرّة أخرى نشهد تدمير لبنان من البّوابة الجنوبية ونسأل أنفسنا للمرّة الألف لما نحن أسرى هذه الدّوامة الجهنمية التي تسبّبت بما تسبّبت به من خراب ودمار. لكنّ المزعج في ردود الفعل التي تتردّد في أوساط لبنانية مختلفة، هو عدم قدرة اللبنانيين على وضع تشخيص موضوعي وسياسات ملائمة في هذا الشأن. المقلق في الأمر هو طبيعة ردود الفعل التي تنّم بالفعل عن تراوح بين القصور النفسي والسياسي والتواطؤ الفعلي مع سياسات النفوذ الاقليمية التي تتوسل لبنان كما في العقود الأربعة الماضية أرض مواجهات بديلة ونزاعات مفتوحة. لا تزال هنالك ردود فعل من نوع من التعّجب والاستهجان وكأن ما يجري هو من نوع المفاجاءات والأحداث غير المتوقّعة. لقد آن الأوان لأن نخرج من حالة القصور النفسي الذي نقابل به الأحداث وأن نتحّمل تبعات ما صنعته سياسات رسمية وسياسات النفوذ السورية والايرانية في ال ۱۵ سنة الماضية والتي أدّت إلى ما نشهده اليوم من انفجار لمشاكل أساسية راكمناها دونما أي حساب لمؤدّياتها.

إن ما يجري اليوم هو حصيلة لسياسات متنوعة المصادر أمعنت في تثبيت لبنان على خط تقاطع سياسات النفوذ الاقليمية، وتحويل أراضيه ومشاكله ومختلف فاعليه إلى أدوات يتوسّلونها دون أي مراعاة لسيادة البلد وتوازناته ومستلزمات إعادة بنائه بعد الحروب المديدة.

السيادة المعلّقة والنزاعات المفتوحة
تثبيت وضعية جنوب لبنان كأرض مواجهة بديلة تستعملها سوريا وإيران وملحقاتها اللبنانية والفلسطينية من أجل نسف مشاريع التسوية الاقليمية على مستوى النزاع العربي­الاسرائيلي بشقيه الشامل والثنائي. إن تسليم “دولة الطائف” بمبدأ الثنائية بين الدولة والمقاومة، قد أعادنا إلى المعادلة القديمة التي دمّرت لبنان بالسابق عندما سلّمت الدولة آنذاك بمبدأ السيادة المعلّقة على أرض الجنوب لحساب منظمة التحرير الفلسطينية. إن تنازل الدولة عن سيادتها على أرض الجنوب لحساب حزب الله، قد أدخل لبنان في دائرة الفراغ الدستوري والأمني الذي يسبّبه تعليق السيادة.

لقد عرفنا بالسابق كلفة هذه السياسة التي قضت بتجزئة مبدأ السيادة وما أدّت إليه من تقاسم الأرض الوطنية بين سياسات النفوذ المحلّية والاقليمية والدولية. إن ما يجري اليوم ليس بمفاجئ، بل هو تكملة لنهج سياسي خبرناه بكلّ سلبياته، ولم نستطع حتى اليوم تجاوزه، لا بل أضحى مرتكزاً لثقافة سياسية عبثية قائمة على تكريس واقع الازدواجية السلوكية، وثقافة عدم تحمّل التبعات والأداء غير المسؤول الذي ينشأ عنها (Culture de l’impunité)، وإزاحة المسؤولية باتجاه الآخرين وتحديداً اسرائيل. إن سيادة الدولة اللبنانية إسمية، أما الواقع الفعلي فيشير إلى تقاسم الحيّز اللبناني من قبل سياسات انقلابية ذات امتدادات إقليمية وأبعاد ايديولوجية لا تقيم للفواصل الدولاتية والوطنية أي اعتبار.

إن تجاهل اتفاقية الهدنة بين لبنان واسرائيل، وتجاهل انسحابها إلى ما وراء الحدود المعترف بها دولياً، والإبقاء على سياسة المناوشات الخفيفة الوتيرة والخطف الدوري، والتعبئة المستمِّرة، والتسّلح التصاعدي، والدعم الفعلي للإنتفاضات في الأراضي الفلسطينية، وإحياء دور لبنان كإطار لتنسيق العمل الإرهابي داخل اسرائيل كما ظهّره اغتيال الأخوين مجذوب في صيدا، والارتباط العضوي بالسياسة الإيرانية التي تدعو علانية على لسان الرئيس الإيراني أحمدي نجاد إلى تدمير دولة اسرائيل، قد أدّوا مجتمعين إلى تكوين المفاعلات النزاعية المطلوبة التي أدّت إلى الانفجار الحالي. إن مبدأ “تناسل الأزمات” القاضي بالافتعال الدائم للأزمات الذي ابتدعه حزب الله، هو مفهوم تأليفي يسمح لنا بفهم هذا الأداء المنهجي والدؤوب والمهووس في آن معاً.

لقد أساء حزب الله ووصياه الإيراني والسوري تخمين قدرته عندما دفعوا بسياسة تسّلح تصاعدية رفعت المواجهة من مستوى حرب العصابات إلى مستوى المواجهة الكلاسيكية بين جيشين نظاميين، والحال أن حزب الله ليس بجيش نظامي وهنا مكمن الوهم القاتل الأول. إن سياسة التسليم بالأمر الواقع من قبل الاسرائيليين قد أدّت إلى تبلور حالة نفسية مُكابرة عند حزب الله، جعلته يتوهّم بأنه بصدد إقامة سياسة تكافؤ فعلي مع اسرائيل وصّفها على أنها “توازن رعب” فعلي. إن ردة الفعل الاسرائيلية الحاضرة ومفاعيلها التدميرية، ما هي إلا خروج صاخب على واقع التعايش مع الأمر الواقع في الجنوب وإفهام الحكم اللبناني بأن اسرائيل غير مستعّدة بعد اليوم للقبول بالتباساته وفراغاته السيادية والتسليم بواقع السياسات الانقلابية التي توسّلت أرض الجنوب منطلقاً لها على مدى أربعة عقود. لن يستطيع لبنان بعد اليوم أن يؤالف بين وضعيته الدولاتية المبدئية والفراغات السيادية الفعلية. يقودنا هذا الاستنتاج الأول إلى تقصّي واقع الجنوب اللبناني الذي يشكّل الإطار الجغرافي­السياسي للنزاعات المتكرّرة والمفتوحة ومدلولاتها السياسية.

لقد خرجت الأراضي الجنوبية من إطار السيادة اللبنانية وما تمحضه من حصانات قانونية وسياسية ومعنوية منذ زمن بعيد، يعود في بداياته إلى العام ۱٩٦٥ عندما أطلقت منظمة التحرير الفلسطينية الناشئة أول صاروخ من منطقة العرقوب باتجاه الأراضي الإسرائيلية. من ذلك الحين، دخل الجنوب اللبناني في سياق أدّى تدريجاً إلى انخراطه في دائرة نزاعية مفتوحة ومتشعّبة المفاعيل، ابتدأت مع تدمير أسطول طيران الشرق الأوسط سنة ۱٩٦٨، وتمدّدت مع الاشتباكات بين الجيش اللبناني والفصائل الفلسطينية وأجرامها في السنة ۱٩٦٩، وصولاً إلى انقسامات سياسية حادّة بين المسلمين والمسيحيين حول مفاعيل العمل الفلسطيني، أدّت إلى تسوية سياسية مدّمرة مع اتفاقية القاهرة التي كرّست عجز الدولة عن إنفاذ سيادتها على أرضها وتسليمها بواقع المداخلات الإقليمية والدولية كجزء لا يتجزأ من الواقع السياسي اللبناني. إن التواصل بين السياسات الفاعلة في الأوساط الإسلامية وسياسات الفصائل الفلسطينية قد أدّت إلى تفتّت الكيان الدولاتي اللبناني وتوزّعه بين مختلف قوى الأمر الواقع على طول الجغرافيا اللبنانية وعرضها في المنتصف الأول من السبعينات. إن حرب ١٩٧٥ لم تكن إلا النتيجة المنطقية لواقع التآكل التدريجي الذي أدّى في خواتمه إلى تحلّل الواقع الدولاتي على مدى عقد تمادى بين ١٩٦٥ و ١٩٧٥.

إن التآكل التدريجي للكيان الدولاتي قد أدّى بحكم الواقع إلى توزّع المناطق على دوائر النفوذ القائمة وذلك انطلاقاً من اعتبارات أمنية وطوائفية وإيديولوجية وسياسية ظرفية. إن استهداف القرى والبلدات المسيحية في جنوب لبنان من قبل الفصائل الفلسطينية وحلفائها في “الحركة الوطنية” وجيش لبنان العربي، قد حدا بقيادة الجيش المركزية إلى إيكال مهمّة الدفاع عنها للضابطين سعد حدّاد وسامي الشدياق، اللذين دُفعا بحكم تمدّد النزاعات بكل اتجاه وتزايد الخطر على سلامة هذه المناطق، إلى طلب مساعدة الدولة الاسرائيلية. لقد تطوّر هذا الواقع بحكم ترسّخه إلى نشوء حزام أمني استفاد منه كلّ من الدولة الاسرائيلية ومسيحيي وشيعة الجنوب الأعلى وبعض الجنوب الأوسط انطلاقاً من أولويات أمنية ومعيشية ظرفية خاصة بكل منهم.

لا بدّ في هذا السياق من الإشارة إلى أن سياسات النفوذ الفلسطينية وممارساتها على غير مستوى قد أدّت إلى تباعد مضطّرد بين شيعة الجنوب الذين احتضنوهم وتماهوا معهم في البداية لاعتبارات دينية وإيديولوجية؛ وما لبثوا أن اخذوا بعدهم عنهم ودخلوا في منازعات معلنة ومفتوحة معهم، خاصة مع ترّكز أطرهم التنظيمية والعقائدية على أسس طائفية بديلة تمنع توظيف الواقع الشيعي في خدمة أهداف لا تمت بصلة إلى مصالحهم الحيوية في مرحلة نزاعات مفتوحة. إن الترحيب الشيعي الصاخب بالاسرائيليين سنة ١٩٨٢، كان مؤشّراً واضحاً لرفض الشيعة المبرم في أن يكونوا أدوات لسياسات ونزاعات إتخذت منهم ومن أرضهم منطلقاً لأهداف لا علاقة لهم بها.

ان نشأة حزب الله تتقاطع مع تبلور ارادة شيعية تهدف الى الخروج من واقع التبعية لدوائر إيديولوجية وسياسية باتت لا تعنيهم، وارساء قواعد لسياسة شيعية في مرجعياتها الايديولوجية وأهدافها العملية. لقد تغذّى هذا النزوع من حركة التمكين التي دفع بها الإمام الصدر منذ بداية السبعينات ومن الأفق الذي دفعت به الثورة الاسلامية في إيران.

إن العمل الحثيث لمنظمات كحركة أمل وحزب الله من أجل إيجاد استوائية جيوبوليتكية شيعية وذلك عبر توسيع وربط نقاط التواجد الشيعي في الجنوب والبقاع والشوف الساحلي والغربي وجرود جبيل وبيروت، هو المؤشر الأبرز الى أن سياسة النفوذ الشيعية، لم تعد بفكرة بل أصبحت واقعاً فعلياً علينا الأخذ به عند تقديرنا للموازين الجيوبوليتكية في البلاد. إن المعارك المتواترة مع المنّظمات الفلسطينية، والمواجهات مع السّنة والدروز في بيروت والشوف الساحلي زمن الحرب، وعمليات السيطرة التدريجية والهادفة على ضاحية بيروت الجنوبية وذلك عبر التهجير المنهجي للسكان الأصليين الموارنة، هي المؤشّر لسياسة تثبيت التمدّد الشيعي. إن سياسة المواجهة مع اسرائيل التي خاضها حزب الله بعد فترة الودّ القصيرة المدى التي سادت بين الشيعة والدولة الاسرائيلية، قد انطلقت من اعتبارات جيو­استراتيجية وإيديولوجية تهدف إلى استكمال لملمة التواجد الشيعي كمنطلق لسياسة نفوذ شيعية محلّية، باتت ترتبط بشكل عضوي مع الأفق الإيديولوجي والاستراتيجي الذي دفعت به الثورة الإيرانية منذ سنة ١٩٧٩.

يضاف إلى ذلك تقاطع مصالح النظام السوري وحزب الله في مجال صياغة تحالفات لبنانية رديفة لسياسة نفوذه داخل لبنان، تؤازره في مجال الممانعة والتخريب على سياسات التسوية السلمية للنزاع العربي­الاسرائيلي التي يخشاها، وتساعد الشيعة في تثبيت مكاسب سياسة نفوذهم داخل البلاد. إن العمليتين الإرهابيتين ضد القوات الأميركية والفرنسية اللتين نفذهما حزب الله الناشئ، وعمليات الخطف المنهجي للأوروبيين والأميركيين في الثمانينات، قد ساهمت في خدمة أهداف الفريقين لجهة مساعدة سوريا على استعادة نفوذها بعد إقصائها سنة ١٩٨٢، وفي مجال إطلاق الحزب كفاعل عسكري وسياسي يسعى لإيجاد حيّز مستقل وفاعل له داخل الساحة اللبنانية. لقد استكملت هذه العلاقة التعاونية في التسعينات من القرن الماضي على مستوى مساعدة حزب الله في مجال تكوين قوته العسكرية واستعمال أرض الجنوب والبقاع الغربي كأرض مواجهات بديلة ومنطلقاً لاستهداف محاولات التسوية السلمية على المستوى الاقليمي وتفكيك ما تبقّى من مقوّمات السيادة اللبنانية في مختلف مواضعها.

أمّا حرب تموز ٢٠٠٦، فتندرج ضمن السياق ذاته، استعمال حزب الله وأرض الجنوب من أجل استعادة واقع الهيمنة على لبنان وتقويض إمكانيات إعادة بناء الدولة اللبنانية على قواعد استقلالية وتصفية الحسابات مع فريق واسع من اللبنانيين توحّدوا للمرّة الأولى حول ضرورة إخراج سوريا من المعادلة الوطنية وإنهاء واقع السيادة المعطّلة والمحدودة الذي طبع العلاقات اللبنانية-السورية على مدى ٣٥ سنة. إن الخطاب الأخير الذي ألقاه الرئيس السوري بعد إصدار قرار مجلس الأمن ١٧٠١، ينبئ عن عدم تبدّل النوايا وإصرار النظام السوري على التصرّف بلبنان وشعبه كامتداد جيوبوليتيكي وكأدوات يتوسّلها من أجل رفد سياسات نفوذه واسترجاع واقع الدولة اللبنانية التابعة. لم يساعد الانسحاب الاسرائيلي من جنوب لبنان في العام ٢٠٠٠ إلى ما وراء الخطوط الدولية في تجميد التفاعلات النزاعية ريثما تتبلور إمكانيات الحلّ السلمي في المنطقة.

إن سياسة التسّلح التصاعدي التي دفع بها النظام الإيراني والتي أسّست لدور جديد لحزب الله قضى بتحويل الجيوبوليتيكية الشيعية في لبنان، إلى منطلق لسياسة النفوذ الإيرانية في منطقة الشرق الأدنى. إن افتعال المجابهات الخفيفة الوتيرة مع اسرائيل على طول الحدود الجنوبية، وسياسة التعبئة المتعدّدة الأوجه، تنطلق من اعتبارات دفعت بها سياسة النفوذ الإيرانية، التي تحاول من خلال استراتيجية ممانعة واستهداف منهجي للتسوية السلمية للنزاع العربي­الاسرائيلي، أن تؤكد على مركزية والطبيعة المباشرة لنفوذها في منطقة الشرق الأدنى، وعلى تنمية رصيدها في العالم الإسلامي من خلال تزخيم النزعات الراديكالية، والخوض في مواجهة مع الولايات المتحدة الأميركية والديموقراطيات الغربية التي تسعى على اختلاف مفكراتها وأولوياتها إلى الدفع بتسويات ديموقراطية للنزاعات المسلّحة في المنطقة، واحتواء سياسة التسّلح النووي الإيراني التي يعمل لها النظام الإيراني بشكل حثيث، وكجزء من عملية احتواء ديناميكيات التسّلح الكلاسيكي والنووي في المنطقة. وهنا مكمن الوهم القاتل الثاني الذي دفع بحزب الله إلى تحمّل تبعات سياسة النفوذ الإيرانية ومحاولة تصويرها على أنها تتطابق مع مصالح شيعية عليا في لبنان ومع أهداف بنّاءة تتعلق بمسار النزاع العربي­الاسرائيلي، أو مع مقتضيات الأمن الوطني اللبناني.

إن عمل التعبئة الإيديولوجية الذي اعتمده حزب الله من خلال إيجاد منعزلات دينية وحياتية ونفسية واستعدادات عدائية ونزاعية مغلقة؛ وسياسة العسكرة المتشعّبة التي فرضها الحزب على أوساطه؛ والعمل الدؤوب على ترسيخ المناخات العدائية للتسوية السلمية على المستوى اللبناني الأشمل؛ والسعي إلى دفع مكانته داخل الحركات الراديكالية الإسلامية السّنية من خلال تزخيم العداء مع اسرائيل… قد أسّسوا مجتمعين لديناميكيات نزاعية جديدة أدغمت مع الديناميكيات السابقة من أجل إغراق إمكانيات التسوية السلمية في وحول العدائية المطلقة والمجابهات المفتعلة لسبب وغير سبب، وتفعيل ذهنية “العدوانية المتباكية على ذاتها” (Belligerent Self Pity) وهو المفهوم الذي وضعه فؤاد عجمي لتوصيف التبريرات التي يُلجأ إليها في العالم العربي والإسلامي من أجل تشريع حركات الغضب والعنف وخطابات الكراهية المستشرية فيه.

لقد أخطأ حزب الله عندما جعل من أرض الجنوب ومن الشيعة مرّة أخرى قاطرات لإشكاليات وفاعلين ونزاعات ومصالح تتجاوزهم. فشيعة لبنان وبالتالي لبنان كلّه هم في حالة توظيف فعلي في خدمة سياسات النفوذ الإيرانية. إن الوعي الخاطئ (Conscience fausse) الذي توّلده المناخات الإيديولوجية التي بثّها الحزب بشكل خانق، لن يلغي خطأ الحسابات الاستراتيجية والمفاعيل التدميرية التي خلّفتها هذه الحرب. آمل أن تخوض الأوساط الشيعية وأعضاء حزب الله في قراءة نقدية لأدائهم وأن تقف الهلوسة الإيديولوجية عند حدود الواقع، فلديه الكثير من الأمثولات التي ينبغي الأخذ بها. إن سياسة التسّلح التصاعدية (١٢٠٠٠ إلى ١٥٠٠٠ صاروخ حسب تقديرات متنوّعة،تحصينات تقدّر ب11 مليون متر مكعّب كلفتها 4 مليارات دولار) قد جعلت من هذه الحرب أمراً محتوماً ولا سبيل إلى التستّر وراء حجج واهية غذّتها سياسة ردود الفعل المحدودة التي مارستها اسرائيل في السنوات الماضية والتي عزّزت الشعور عند حزب الله بأن اسرائيل هي في حالة تراجع فعلي؛ وسياسات الدولة اللبنانية التي بقيت بحكم الانقسامات السياسية في البلاد في وضعية تعطيل ذاتي أضعفت كيانها المعنوي والحقوقي والسياسي وألغت صدقيتها كفاعل في المجموعة الدولية؛ وتشريع الأمم المتحدّة منذ تفاهم نيسان لواقع السيادة المعلّقة على أرض الجنوب عبر التسليم بدور حزب الله كفاعل على حساب الدولة اللبنانية.

إن الكارثة التي حلّت بالجنوب وسائر المناطق على درجات متفاوتةٍ، لا يمكن معالجتها بذهنية انتصارية فارغة وبعمليات تعويض تدفعها إيران كمقابل لسياسة نفوذها في لبنان. على الشيعة خاصة واللبنانيين عموماً الإجابة دون مواربة عن سؤال لا مفرّ منه بعد اليوم، هل هم قابلون بتحّول أرضهم إلى فسحة لنزاعات بديلة ومفتوحة مقابل تعويضات تدفع لهم دورياً عند نهاية كل مرحلة من مراحل المنازلات المفتوحة على أرضهم ام لا؟ هل أن الشيعة مرتبطون من الآن فصاعداً بسياسة النفوذ الإيرانية وموجباتها وأولوياتها وأدواتها، أم أنهم لا زالوا مرتبطين بقواعد الشراكة والمواطنية اللبنانية التي تملي عليهم بالتالي الالتزام بموجبات الميثاق الوطني والشراكة الدولاتية والعمل المشترك في سبيل صيانة الحقوق الوطنية؟ هذه أسئلة لم تعد تحمل التأجيل والمماطلة إذا ما أردنا أن تبقى لنا حيثية دولاتية وأن نردّ عن أنفسنا المفاعيل التدميرية التي تتأتّى عن سقوطها.

دولة التخوم المدمّرة
هذه الملاحظات سوف تقودنا في هذه المرحلة من النقاش إلى استعادة نقدية للواقع السياسي اللبناني ولدور الدولة في مجال إقفال الدورة النزاعية المفتوحة على كل الاحتمالات وعلى أي أسس.

لم يعد من الممكن القبول بفراغات وفاقية والمضي بالحياة السياسية وكأنه لا ثغرات أساسية في مجال تعزيز السلم الأهلي وإنجاز البناء الدولاتي. لا يزال اللبنانيون قاصرين في مواجهتهم لمشاكلهم المحورية وغير راغبين في معالجتها على نحوٍ ناجز لسبب أساسي، وهو عدم التزامهم الفعلي بموجبات الشراكة الميثاقية وقواعد الإجماع الديموقراطي وكأنهم بذلك يؤشّرون لذواتهم وللآخرين، بأنهم معنيون باعتبارات إيديولوجية وجيواستراتيجية أكثر ارتباطاً بحقيقة خياراتهم الوجودية والسياسية. السؤال المطروح هو هل أن هذا البلد هو مرتكز لولاءات مؤسِّسة ولازمة أم مِعبَرٌ لخيارات والتزامات ذات أبعاد تتجاوز موجبات وواقع الدولة–الأمّة (Etat-Nation) الذي تبنى على أساسه الكيانات السياسية الحديثة. لن نستطيع بعد اليوم التموضع على تخوم (Interfaces) الأمّة العربية والإسلامية بمتغيراتها ومفارقاتها السنية والشيعية وواقع لبنان “الدولة–الأمّة”.

لن نستطيع بعد اليوم أن نعيش على المفارقات التي تستحثّها هذه التخوم، فالأولى تنفي الثانية وتجعل منها وهماً قانونياً ومعنوياً. سوف يبقى لبنان وهماً قانونياً ومعنوياً وسياسياً ما لم تستعيد الدولة اللبنانية حيثيتها الكيانية وتصبح مصدراً لولاءات فعلية وحصانات سيادية نافذة وفاعلاً مكتمل المواصفات في المجموعة الاقليمية والدولية. أما تسمّرنا في قلب مفارقات سياسية مدّمرة كما هو الحال اليوم، فسوف يجعل من أرضنا أرضاً محروقة تستعملها سياسات النفوذ الإقليمية معبراً لأغراضها الموهومة أم الفعلية.

هذه الاعتبارات أساسية إذا ما أردنا التأسيس لحالة سياسية جديدة تنهي واقع التسيب الأمني والسياسي الذي تعيشه البلاد منذ أربعة عقود، وإلاّ فلا يتعجب اللبنانيون من تحوّل ذواتهم وأرضهم وحقوقهم ومصالحهم إلى طعم لنار سياسات النفوذ الاقليمية. هذا السؤال مطروح على الشيعة في هذه المرحلة وعلى المسلمين على وجه الإجمال، لأنهم لم يستطيعوا حتى اليوم- وعلى الرغم من كل ما جرى منذ سنة حتى اليوم على مستوى وعي معنى وأهمية التجربة الوطنية اللبنانية-، من تجاوز الانفصام النفسي والسياسي الذي يستحثه الولاء لمتخّيل الأمّة وكيان “الدولة- الأمّة” من حيث هو كيان فعلي مؤسِّس لولاءات ورباطات تعاقدية قائمة على خيارات ميثاقية ملزمة ومصالح مشتركة وفهم للحقوق الأساسية المنشئة للكيان الوطني والدولة.

لقد عرفت الجماعات اللبنانية كلّها تجربة الخروج على الحدود الميثاقية ودفعوا ثمنها حروباً مفتوحة على عقود. المسلمون خرجوا بحكم اعتبارات ايديولوجية دينية المصدر، جعلتهم في حالة تجاذب بين ولاءات متنافرة استخدمتها سياسات النفوذ العربية من مصرية وسورية وعراقية وليبية وفلسطينية وسعودية وإيرانية… أما المسيحيون فقد لجأوا إلى الخيار الإسرائيلي في الثمانينات لأسباب قصوى أملتها السياسات الداخلية والعربية التي استهدفتهم في أمنهم الوجودي وحقوقهم وحرّياتهم. لقد آن الأوان لاستخلاص العبر من هذه الحقبات وتجاوزها على مستوى تسوية سياسية ناجزة تحدّد معالم الاجتماع السياسي اللبناني وتدفع بأداء سياسي متماسك يسمح لنا بتجاوز هذا الانفصام السلوكي الذي يمتاز به اللبنانيون. فإمّا الإنتماء اللبناني يشكل حدّاً فاصلاً في مجال صياغة السياسات الوطنية وإلاّ فنحن بصدد مسارٍ يستهدف هذا الكيان الدولاتي باتجاه خيارات ايديولوجية وجيواستراتيجية تتجاوزه وتلغيه.

علينا أن نعي أن التموضع على تخوم الالتباسات التي يدفع بها الأداء السياسي في لبنان، لم يعد ممكناً، فلبنان هو دولة ولا دولة، لبنان دولة ذات سيادة ولكن تطبيقاتها إنتقائية وظرفية واستنسابية ولا مسؤولة. لبنان يوقع اتفاقية الهدنة في العام ١٩٤٩ ويتنكر لموجباتها عندما تقتضي مصالح منظمة التحرير الفلسطينية وما تبعها من أجرام ومصالح “الحركة الوطنية” في السبعينات وحزب الله في التسعينات؛ لبنان ذات سيادة مستباحة عندما تهاجمه اسرائيل، ولبنان لا سيادة له عندما تستعمل حدوده الجنوبية من أجل استهداف أمن إسرائيل من قبل حركات مسلّحة غير الجيش الوطني.

هذا الأداء هو صورة مؤلمة لثقافة ولأداء غير مسؤولين، أدّيا بشكل متواتر لهذه الدوّامات الدموية التي دمّرت جنوب لبنان ومن خلاله دمّرت لبنان بأسره. لا بدّ من اتخاذ موقف حاسم بشأن استئصال لبنان من دوّامة النزاعات الاقليمية المفتوحة، عبر حسم الأمر بشأن التطبيق الفعلي للسيادة الوطنية على أرض الجنوب وإنهاء واقع السيادة المعلّقة والاستنسابية التي لا تستطيع أن تتحمّلها دولة إسرائيل أو أي دولة سواها في وضعية مشابهة لها. هل اللبنانيون راغبون في تطبيق موجبات السيادة اللبنانية على أرض الجنوب أم لا؟ هل اللبنانيون بصدد الإعداد لحرب طويلة الأمد مع اسرائيل وهم مجمعون على مبدئها وبشأن إعداد وسائلها أم لا؟ لا يستطيع اللبنانيون أن يكونوا في حالة حرب فعلية مع إسرائيل كما هو حاصل وألا يتحمّلوا تبعاتها البشرية والمادّية. إن أجوبة من النوع الذي تفضّل به أحد وزراء حزب الله عندما سئل عن الحكمة من الخوض في نزاع عسكري دون تأمين مستلزماته العسكرية واللوجستية والمدنية والطبية والاقتصادية … فما كان جوابه إلاّ ليزيدنا إرباكاً، أن حزب الله يقوم بعمله دون تنسيق مع الدولة ولا هو في صدد استئذان سواه من اللبنانيين، الذين بحكم هذا المنطق، مدعوون إلى تحمّل نتائج وتبعات أعماله.

فمنطق “شاء اللبنانيون أم أبوا” الذي تفضّل به السيّد حسن نصرالله، هو منطق الخيارات الفئوية المفتوحة والتي لا تأبه لضرورة تخريج إجماع وطني حول مسألة الأمن الوطني كمسألة محورية من مسائل الوفاق الوطني. ماذا لو أخذت الأطراف الأخرى بمنطق الخيارات الفئوية المفتوحة على قاعدة “شاء اللبنانيون أم أبوا”. المؤدّى لهكذا منطق ليس بمفاجئ: الاتجاه المحتوم نحو الحرب الأهلية والانخراط الطوعي في سيناريوات الفوضى الاقليمية التي تدفع بها الحركات الراديكالية.

إن مواقف الأمم المتحدة، والمجموعة الأوروبية والولايات المتحدة كما مواقف الفرنسيين والإيطاليين الثنائية قد أُكدّت على ألسنة كوفي أنان وخافيير سولانا، ولوي ميشال وكوندوليزا رايس وفيليب دوست بلازي وماسيمو داليما أن القرار ١٧٠١، لا هدف له سوى مساعدة لبنان على إقفال التفاعلات النزاعية المديدة على حدود لبنان الجنوبية على نحوٍ نهائي وذلك عبر إيجاد منطقة منزوعة من السلاح وتسليم عملية مراقبة وضبط الامن على الحدود اللبنانية-الإسرائيلية إلى قوة مشتركة مؤلّفة من الجيش اللبناني والقوات المتعدّدة الجنسية. وهذا لن يتمّ ما لم يسلّم اللبنانيون والإسرائيليون طوعاً بوقف إطلاق النار والمباشرة في تمدّد هذه القوات المشتركة.ﺇن مجيء القوات الدولية قد مهّد له بمحادثات بين الدول المشتركة والامم المتحدة وكلّ من سوريا وايران وذلك من أجل ضمان عدم تورّط قوّات حفظ السلام في اشكالات أمنية وسياسية لاتعنيها،أو تفرض عليها من قبل هاتين الدولتين ومن قبل التيارات الجهادية المتنوّعة التي تسعى الى توسيع رقعة الفوضى الاقليمية. لقد أجمعت كل هذه المراجع التي تلعب دوراً في الوساطات القائمة وفي مهمّة حفظ السلام على أنه لا وجود لدولة ديموقراطية تحترم موجبات عضويتها في المجموعة الدولية دون استئثارها الحصري بالقوة المسلّحة.

إذن فلا بدّ من الكفّ عن الالتفاف على إشكالية نزع سلاح حزب الله. هذا يعني بالتالي أنه على اللبنانيين مع اختلاف توجهاتهم مصارحة حزب الله وأنصاره بضرورة اتخاذ قرار حاسم بهذا الشأن. فالقرار يتطلب إجماعاً وتوافقاً داخليين ولا مجال للمماطلة والتذاكي حول راهنية هذا الاستحقاق. لا مجال لكلام من النوع الذي قاله وزير الدفاع الياس المرّ، في” أن ذهاب الجيش إلى الجنوب هو لردع اسرائيل”،لأن مهمّة الجيش في حال الإجماع عليها لبنانياً، تأتي من ضمن المهمّة التي أوكلها القرار ١٧٠١ لقوات حفظ السلام المشتركة والتي تهدف إلى إيجاد منطقة معزولة من السلاح وإنهاء نطاق التفاعلات النزاعية المديدة في جنوب لبنان. لقد تكرّر موقف المرّ بشكل أكثر صراحة مع أمر اليوم الذي أصدره قائد الجيش ميشال سليمان بتاريخ ١٧ آب والذي حدّد طبيعة انتشار الجيش على أنه متوازٍ مع تواجد حزب الله، والذي يصيب في الصميم جوهر القرار ١٧٠١، القاضي بخلق منطقة معزولة من السلاح من أجل فضّ الاشتباك بين الجيش الاسرائيلي وحزب الله. قيادة الجيش ترفض إذن المهمّة الدولية وتضع نفسها على الخط النزاعي الذي ينقضها. يضاف إلى ذلك اللازمة التي يردّدها رئيس الجمهورية إميل لحّود والتي تبرّر واقع السيادة المعلّقة على أرض الجنوب، وتعطيل دور الجيش في الحفاظ على الأمن الوطني لحساب حزب الله. إن المخالفات الدستورية والتصرف غير المسؤول لكل من رئيس الجمهورية ووزير الدفاع وقائد الجيش يستوجب إحالة الاول أمام المجلس الدستوري واقالة الأخرين هذا لو كنّا في نطاق دولة قانون فعلية لا إسمية.

هذا يعني بالتالي أنه على حزب الله حسم موقفه بشأن نهاية دوره العسكري وتغيير طبيعة مداخلته على نحوٍ أساسي. لن يستطيع الحزب تجاهل هذا السؤال لأنه لم يعد من الممكن الالتفاف على قرار الشرعية الدولية القاضي بإنهاء وضعية السيادة المعلّقة في جنوب لبنان ومساعدة الدولة اللبنانية على إعادة بسط سيادتها على أراضيها، وإنهاء واقع التفاعلات النزاعية المفتوحة مع دولة اسرائيل وضمان أمن حدودها الشمالية. إن محاولة حزب الله الالتفاف على طبيعة الحلّ المقترح، وإعادة تعويم حلول من نوعية تفاهم نيسان قد أصبحت من المستحيلات، لأن اسرائيل قد طبّقت القرار ٤٢٥ وانسحبت إلى الحدود الدولية المعترف بها، والقرار ١٧٠١ هو بصدد معالجة فعلية لمشكلة الحدود العالقة بين اسرائيل وسوريا ولبنان والملحقات النزاعية الأخرى العائدة لمسألة الأسرى وخرائط الألغام. إذن فلا داعي لنسف القرار ١٧٠١ والتستّر وراء اعتبارات واهية تضرب السياق السلمي الذي تدفع به الأمم المتّحدة.

إن حزب الله مدعو إلى انعطافة تاريخية في مساره، فهل هو قادر على عملها؟ هذا سؤال كبير لأن الانعطافة ترتبط بقدرته على تخريج إجماع داخلي في أوساط القرار فيه، والكل يعرف أن هذه المسألة ليس بسهلة، لأن الحزب مرتبط عضوياً بالنظام الإيراني ومحاور النفوذ المتنازعة في داخله. هل أن إيران في صدد تسهيل مهمّة أخذ القرار أم أنها بصدد الدفع قدماً بسياسة الممانعة، وهذا يعني بالتالي أن لبنان لم يعد إلاّ بحيّز جيوبوليتيكي مفتوح على صراعات إقليمية تتجاوزه؟ إن سقوط القرار ١٧٠١ الفعلي سوف يؤسّس لحالة نزاعية تتجاوز الحدود اللبنانية، وبالتالي سوف تصبح حرب تموز ٢٠٠٦، الحرب­المقدمة لحروب ونزاعات مفتوحة يتراوح مداها بين حدود طهران وتل أبيب. إن الخيارات التي سوف تأخذها مراجع حزب الله هي مؤشرات أساسية لما سوف تؤول إليه منطقة الشرق الأوسط في المدى القريب؟ إن التواصل مع إيران في هذا المجال كما قلنا هو عضوي، وبالتالي هل إيران بصدد إطلاق ديناميكية نزاعية مفتوحة مع كل تداعياتها أم بصدد ضبط التفاعلات التي تبيّن أنه في حال تماديها سوف تدخل المنطقة في متاهات نزاعية متفلّتة.

إن سياسة الالتباس التي استساغها وألفها حزب الله على مدى عقدين آتية إلى نهاية وآمل ألاّ يتابع في مكابرته فليس فيها حكمة ولا قراءة موضوعية للأمور. لقد انتهت مرحلة سياسة “نحن مغامرون” “وشاء اللبنانيون أم أبوا” التي دعا ﺇليها السيّد نصرالله في بداية حرب تموز. إن الدمار الذي أدّت إليه سياسة التصعيد في السلاح والكلام على مدى ١٥ سنة، لم تأت بفائدة مرجوة تحت السقف اللبناني. لأن ما يعلو السقف اللبناني وهو الأمر الذي لا يزال يشدّ أفئدة وعقول مسؤولي حزب الله، هو من باب المغامرة وتداعياتها المفتوحة. إن إبقاء الدولة اللبنانية على تخوم الدولة واللادولة لم يعد مقبولاً من جزء أساسي من اللبنانيين، وباتت تخشاه معظم الأنظمة العربية، ولن تسلّم به المجموعة الدولية، فهل يصرّ عليه حزب الله وليحدث ما يحدث، كما قال مراراً السيّد حسن نصرالله. إن التموضع ضمن مفارقات دولة التخوم والتسليم بواقع الالتباس وادارته وممارسة سياسة التذاكي قد أسّست لكارثة مرشحة للتفاقم في حال الإصرارعلى التمسمر في تضاعيفها، وهنا مكمن الوهم القاتل الثالث.

الفاعلون والإشكاليات
هذه المرحلة من النقاش تتطلب مراجعة لطبيعة المداخلات التي عرفتها التطوّرات الأخيرة ومفكرّات فاعليها. لا بدّ قبل الشروع في مناقشة أداء الفاعلين من التركيز على سمة أساسية تطبع هذه الأحداث، وهو تكاثف المغالطات والإسقاطات والفرضيات الاعتباطية حول دور هذا الطرف أو ذاك، خاصة عندما يصار إلى نقاش دور الفاعلين الإقليميين والدوليين. لذا لا بدّ من تحديد طبيعة الأدوار والفاعلين والمفكرّات وذلك منعاً لإضافة تعقيد إساءة الفهم والمغالطات الصريحة الى تعقيدات هذه النزاعات المتشابكة في مصادرها وفاعليها ومؤدّياتها.

السياسة الأميركية
لا بدّ من تناول طبيعة الدور الأميركي الذي نسب إليه دور المحرّك للحرب الحاضرة. هذه الفرضية خاطئة لأن أسباب الانفجار تؤشّر الى نهاية زمن التعايش الاسرائيلي مع واقع السيادة المعلّقة في جنوب لبنان وتحميل الدولة اللبنانية مسؤولية عدم ممارستها لمهمّاتها السيادية. إن تفاجأ حزب الله بردّة الفعل الاسرائيلية على اختطاف الجنديين تشير إلى نهاية زمن التسليم بقوّات الأمر الواقع التي يرى فيها الاسرائيليون تهديداً مباشراً لسلامة حدودهم الشمالية. إن سياسة التسّلح التصاعدي التي دفعت بها إيران في جنوب لبنان، كمنطلق لنسف التسوية السلمية في لبنان والأراضي الفلسطينية كامتداد لسياسة نفوذها قد دفعت بأميركا إلى تأكيد تحالفها مع اسرائيل من أجل احتواء سياسة النفوذ الإيرانية عبر إنهاء دور حزب الله العسكري. هنالك تقاطع بين المصالح الأمنية الاسرائيلية والمصالح الاستراتيجية الأميركية التي ترى في السياسة الإيرانية المستحدثة تهديداً مباشراً للسياسة الأميركية في المنطقة، التي تقضي بدفع ديناميكيات التسوية السلمية في كل من العراق واسرائيل والأراضي الفلسطينية وحماية الاستقلالية اللبنانية ونظامها الديموقراطي من استهدافات النظامين السوري والإيراني ومحاولات القاعدة للتمركزّ في تضاعيف التناقضات اللبنانية.

الأميركيون ليسوا برافضين لحزب الله كحركة سياسية ولكنهم على رفض مبرم لمشروعه العسكري، والمعلومات المعلنة وغير المعلنة قد عبّرت بشكل واضح عن حقيقة هذا الموقف الأميركي الذي دعا حزب الله إلى التخلي عن سلاحه لصالح الدولة اللبنانية مقابل تطبيع وضعيته ومداخلته الداخلية والإقليمية. والأميركيون ليسوا في حال صدام مبدئي مع الشيعة، فلولاهم لكان شيعة العراق حتى الساعة يكابدون من ديكتاتورية أذاقتهم المرّ بكل أشكاله على مدى أربعين سنة. لكن لسوء الحظ، سعت ديكتاتورية الملالي إلى ضرب التسوية العراقية عبر تفعيلها – على غرار البعثيين المتهاوين والجهاديين المستوردين- كل أشكال العنف التي قضت وتقضي على إمكانية أية تسوية سياسية فاعلة في العراق. أميركا ساعدت العراقيين على التحرّر من ديكتاتورية دموية وإعادة تكوين دولتهم على أسس دستورية ووفاقية وإصلاحية وعلى الرغم من كل الأخطاء والتراجعات التي أصابت الدور الأميركي في العراق. المشكلة تكمن في إساءة الأميركيين تخمين قدرة هذه المجتمعات، التي تعاني من تفكّكات بنيوية مديدة وعميقة، على التجاوب مع المدّ الإصلاحي وفرص إعادة البناء الوطنية التي دفع بها سقوط صدّام حسين.

أما الأراضي الفلسطينية، فقد عاودت الوقوع في أمراضها المستعصية، وهي عدم قدرة قياداتها من الارتفاع إلى مستوى العمل الحكومي المسؤول الذي يساعد على تجاوز مرحلة المراهقة السياسية التي جعلت الشعب الفلسطيني يتسمّر في سياسات الرفض العقيمة لأية تسوية سياسية مع دولة اسرائيل. لقد برهنت حركتا حماس والجهاد الإسلامي عن عدم أهليتهما السياسية عندما رفضوا الاعتراف بالاتفاقيات السابقة من مدريد إلى أوسلو، مروراً بكامب دايفد ووصولاً إلى خارطة الطريق، وآثروا متابعة العمل الإرهابي وسياسة التضحية بالمدنيين كأفضل سبيل لبلورة حقوقهم الوطنية.

إن العودة إلى هذه المراحل البدائية للعمل الوطني الفلسطيني قد أعادت المسألة الفلسطينية إلى مرحلة ما قبل السلطة الوطنية التي امتازت بتحويل الفلسطينيين إلى أدوات لسياسات النفوذ العربية والإسلامية. وها أن حركتا حماس والجهاد الإسلامي يتحولان لأداة لسياسة النفوذ الإيرانية التي شجعتهم على نسف المكتسبات السياسية للانسحاب من غزّة والاستغراق في العمل الإرهابي الذي يرخي بظلاله الثقيلة على إمكانية الانسحاب من الضفة الغربية. لقد قضت السياسة الإيرانية على الطبيعة الدولاتية للعمل الفلسطيني الراهن وأعادته إلى العمل الإرهابي العبثي الذي يدمّر فرص إيجاد الدولة الفلسطينية، ويحوّل الفلسطينيين إلى ضحايا مستمرّة للاستثمار من قبل الحركات الإسلامية الراديكالية. ليس من الصدفة أن تقوم عمليات الخطف في غزّة والجنوب في خلق مضاعفات تستهدف الحركة الاستقلالية والديموقراطية التي ترعى إعادة بناء الدولة في لبنان، وفي نسف فرص بناء الدولة الفلسطينية التي تؤمنها سياسات الانسحاب الاسرائيلي من غزّة والضفة. هنا أيضاً سنشهد تقاطعاً بين المصلحة الاسرائيلية والأميركية، فاسرائيل باتت تخشى على أمنها من خلال الانسحابات التي أجرتها من جنوب لبنان وغزّة، وأميركا باتت تخشى على مستقبل التسوية السّلمية في النزاع العربي­الاسرائيلي، ومستقبل الكيان اللبناني الديموقراطي، وإمكانية التسوية العقلانية في العراق.

عناوين الدخول الإيراني على الساحة السياسية الشرق أدنوية ليست بالأمر المشجّع، فمن تفعيل النزاعات الدموية في العراق ودفع العمل الإرهابي في الأراضي الفلسطينية وتفكيك مقوّمات السيادة اللبنانية، ودعم سياسة التخريب المنهجي للسلام الإقليمي التي يتّبعها النظام السوري، خير دليل إلى أن المنطقة سائرة على نحوٍ حثيث باتجاه تعميم حمّامات الدمّ العراقية. وهنا نفهم سبب المداخلة الأميركية ودعمها لاسرائيل في حربها ضد سياسة النفوذ الإيراني التي أطاحت بكل قواعد العمل الإقليمي البنّاء.

هذا مع العلم، أنه على الرغم من الخلاف المستحكم بين الإدارات الأميركية المتعاقبة منذ زمن بدايات الثورة الإسلامية، لم تتردّد الديبلوماسية الأميركية من القبول بمبدأ المفاوضات غير المباشرة مع النظام الإيراني وذلك من أجل احتواء سياسة التسّلح النووي مقابل بدائل اقتصادية مهمّة تساعد على معالجة الأزمات الاقتصادية المديدة للنظام الإيراني. إن سياسة النفوذ الإيرانية المدّمرة في كل اتجاه، ترتبط بشكل عضوي بأزمة نظام الملالي الذين يسعون من خلال تعميم الفوضى الإقليمية، إلى الهروب من الاستحقاقات الإصلاحية الضاغطة في الداخل. فسياسات النفوذ المدّمرة على الصعيد الإقليمي هي البديل الوظيفي (Equivalent Fonctionnel) لسياسات الإصلاح في الداخل؛ إن أفضل سبيل لاحتواء المدّ الإصلاحي هو إيهام الإيرانيين أن الملالي هم بصدد بناء سياسة أمبريالية سوف تعيد إلى إيران أمجاد امبراطوريتها الساسانية، فلذا عليهم بالتضحية بكل شيء وعلى رأسه الإصلاح من أجل إمداد سياستهم بالشرعية والمعصومية اللازمتين.

إن مشروع حزب الله هو التحقق الأول لسياسة النفوذ الإمبريالي التي يدفع بها نظام الملالي، مدغماً بشرعية دينية تصوّرها على أنها التمهيد لعودة المهدي كما لا يكفّ عن إعلانه أحمدي نجاد. إن هلوسة نجاد الدينية وظيفية لأنها تدفع قدماً بحالة الانقطاع النفسي والتماهي التي تمكّن الديكتاتوريات من التصرّف بجماهيرها وتشريع العنف العبثي.راجع 1933 Wilhelm Reich Die Massenpsychologie des Faschismus,.

إن اليوتوﭙيا الدينية التوتاليتارية التي أوجدها حزب الله عبر تعميم منعزلاته الجغرافية والذهنية والحياتية، وطقوسه الجماعية، والتأكيد على عصمة رموزه الدينية، وسياساته الاقتصادية والاجتماعية والتربوية المموّلة من الملالي، تؤسّس لديكتاتورية دينية لم تعد مستترة. إن إضفاء صفات إطلاقية على السيّد حسن نصرالله، وعملية التماهي المطلق مع شخصه، وتعميم مفاهيم من نوعية “النصر الإلهي” والاستحضار الدائم للنص الديني الذي يضفي على السياسات النسبية طابعاً مطلقاً هي من أبرز خصائص “ألباتوس” التوتاليتاري. إن اعتبار أي مناقشة لسياسات حزب الله مروقاً وخيانة وتآمراً على حزب الله، هو من الأمور التي لا بدّ من التنبيه الى خطورتها وتهديدها لما تبقّى من المناخات الديموقراطية في البلاد. فالخيارات السياسية تبقى مهما كبرت أو صغرت نسبية الطابع وقابلة للانتقاد والمراجعة والنقد من قبل أي مواطن كبر شأنه أم صَغُرَ. وخاصة قرارات الحرب والسلم التي لا تُفرض من شخص أو من جماعة على المجموعة الوطنية اذا ما سلمنا ببقاء شيء من المؤسّسات الديموقراطية في بلادنا. إن فرص التسوية السلمية التي تسعى الإدارة الأميركية والديموقراطيات الغربية إلى دفعها، ومشاريع الإصلاح التي تعمل على تصديرها العمل السياسي والعام في هذه المنطقة من العالم، وسياسات نزع التسّلح الكلاسيكية والكيمائية والنووية وإبدالها بسياسات إنمائية فاعلة، تشكل البدائل الوظيفية التي ينبغي اعتمادها اذا ما شئنا الخروج على دوّامات العنف القاتلة.

السياسة الأوروبية إن المداخلة الأوروبية على مستوياتها الاتحادّية والثنائية، هي من أفضل المداخل من أجل تفكيك الآليات النزاعية. فالاتحاد الأوروبي ودوله منخرطون منذ عقد في مفاوضات مع إيران من أجل إقناعها باعتماد بدائل وظيفية لسياسات التسّلح التصاعدي التي تعتمدها. والاتحاد الأوروبي منخرط في العمل الإنساني والتوسّط النزاعي بين اسرائيل وحزب الله منذ أكثر من عقد وذلك من أجل إطلاق الأسرى وتبادل رفات القتلى عند الجانبين، وحلّ أزمات الخطف. إن العمل الديبلوماسي الحثيث للاتحاد الأوروبي ودوله وعلى رأسها فرنسا من أجل تخريج قرار دولي يعطّل الدوّامات النزاعية المديدة في جنوب لبنان، هو من الفرص التي ينبغي عدم إضاعتها، اذا ما أردنا أن نوفّر على أنفسنا وعلى بلادنا ويلات الحرب التي تعود إلينا بشكل ووتيرة تدميريين لم نعهدهما في السابق. فالوساطة الأوروبية بنّاءة وعلينا بالتعاطي معها على هذا الأساس وعدم تصويرها على غير حقيقتها، إمعاناً في استغراقنا في الهلوسة الايديولوجية التي تعيق تعاطينا الموضوعي مع مشاكلنا الداخلية ومشاكل المنطقة. إن القوة الدولية المزمع انتشارها سوف تتشكل من نواتها الأساسية من فرق مرسلة من جيوش أوروبية مطعّمة بقوات تركية وماليزية وتونسية… وذلك من أجل إعطائها التوازن المطلوب الذي يسمح بتجاوز الممانعة في أوساط حزب الله وعند الأسرائيليين الذين يشترطون نشر قوات من دول لها علاقات دبلوماسية معها. لكن الشرط المسبق لانتشار هذه القوات يبقى إعلان حزب الله عن نيّته في نزع سلاحه لحساب الجيش اللبناني. إن التباس موقف حزب الله وسياسة المماطلة التي يلجأ إليها سوف تؤدي إلى نسف إمكانية إعادة بناء الدولة الميثاقية التي تمكنت من تجاوز أكثر النزاعات حدّة طوال الحرب اللبنانية. هذا يعني بالتالي أن حزب الله بصدد الخوض في عملية انقلابية تتجاوز حدود الكيان اللبناني الحاضر وصيغته السياسية القائمة.

السياسات العربية
أما الموقف العربي كما عبّرت عنه مواقف السعودية ومصر والأردن وجامعة الدول العربية على وجه الإجمال، فينطلق من التوجّس الشديد من تداعيات الوضع اللبناني سواء لجهة دخول إيران الى قلب النزاع العربي- الإسرائيلي وعملها الحثيث على نسف مبادرات التسوية القائمة، وتثبيت نفوذها كحكم وفاعل أساسي في السياسات العربية والشرق أدنوية، واستقطاب الحركات الراديكالية السّنية وتوظيفها ضمن سياسة نفوذها وتحريك المناخات النزاعية بين السنة والشيعة. إن سرعة المبادرة العربية باتجاه الأمم المتحدة، تعبّر بشكل واضح عن إحساس شديد بالمخاطر التي سوف تتأتّى عن تفلّت النزاع في جنوب لبنان وعن ضرورة حسمه على مستوى الأمم المتحدة كأفضل سبيل لاحتوائه. لقد شهدنا لأول مرّة أداءً عربياً غير راغب في توظيف تناقضات الساحة اللبنانية لحساب سياسات النفوذ العربية المتضاربة، هذا ما أردنا استثناء سوريا التي ما زالت كما أشرنا سابقاً حريصة على ضرب مرتكزات الوفاق اللبناني، وتفعيل النزاعات على تنوّعها على أرض لبنان. يبدو أن هذه السياسة ليست بوارد التبدّل كما أكّده بشكل مبتذل بشار الأسد في خطابه الأخير.

السياسة التركية
تهدف إلى تعزيز دور تركيا في تحكيم وفضّ النزاعات الإقليمية وإعادة التموضع داخل الساحة الشرق أدنوية وتظهير أهمية مداخلتها في تثبيت الأمن المتوسطي تعزيزاً لموقعها التفاوضيّ مع الإتحاد الأوروبي. ضف إلى ذلك، أن المبادرة العسكرية الإسرائيلية لتعطيل قدرة حزب الله العسكرية، سوف تشجّع الأترك للمضيّ قُدُماً في تدخلهم العسكري المتواتر على الحدود التركية-العراقية لردع الأعمال العسكرية التي يقوم بها الحزب الكردستاني التابع لعبدالله أوجلان.

السياسة الاسرائيلية
لا بدّ في هذا السياق من تناول تحديد واضح لطبيعة الإشكالات الاسرائيلية ضمن المواجهة الحاضرة. إسرائيل في الحرب التي أعلنتها في ١٢ تموز ٢٠٠٦، عبّرت عن مشاغل استراتيجية علينا تظهيرها، ١) لقد أكّدت أنها لن تقبل بعد اليوم بالسياسة اللامسؤولة التي تنتهجها الدولة اللبنانية والتي تقوم على التسليم بمبدأ السيادة المعلّقة في الجنوب وما يفضي إليه من أخطار على أمنها، والتمسّك الحادّ بالسيادة عندما تبادر اسرائيل عسكرياً لإفهام لبنان بأن التطبيق الاستنسابي للسيادة، ليس بالوسيلة الفضلى لإدارة النزاع المربوط على الحدود الجنوبية.

إن التدخّلات الجوّية الدائمة لإسرائيل، وقساوة الردّ الاسرائيلي وتوزّعه على كل الأراضي اللبنانية الذي شهدناه في الشهر المنصرم، هي بمثابة رسائل واضحة إلى لبنان، إلى أن ثقافة عدم تحمّل التبعات قد انتهت، وسوف يتحمّل كل لبنان نتائج سياسة التسيّب الإرادي والعجز الذي تتلطّى وراءه الحكومات اللبنانية المتعاقبة.

٢) إن الردّ الاسرائيلي الرادع والقاسي، هو رسالة واضحة لكل الراديكاليين الإسلاميين في الأراضي الفلسطينية ولبنان وفي مختلف الدوائر غير الدولاتية التي يتحرّكون من ضمنها، إلى أن اسرائيل لن تسمح بتعريض أمنها وأمن مواطنيها، وأن المواجهة لن تتورّع عن الأخذ بكل الوسائل العسكرية والأمنية المطلوبة لردع المستهدفين وتقويض إمكانياتهم البشرية واللوجستية. كما أن طبيعة الردّ الاسرائيلي تُظهرُ أن التدرّع بالأوساط المدنية التي تُستعمل طوعاً أم جبراً لن يعفيها من تحمّل تبعات التكافل والتغطية والاستباحة غير الإرادية. ان استراتيجية التحصن بالحيز المدني قد أثبتت عدم جدواها على الصعيد العسكري وتعريضها المدنيين لأخطار قصوى وغير مبررة.

٣) إن الانسحاب من جنوب لبنان وغزّة وإعلان الانسحاب الذي لم يُنفّذ بعد من الضفة الغربية، وما قابله من الجانب الفلسطيني وحزب الله من استباحة معنوية وعسكرية لأمن الاسرائيليين، سواءً بتصعيد التهديد أم بالمجابهات الخفيفة الوتيرة أو العمل العسكري والإرهابي المباشر، قد دفعوا بالحكومة الاسرائيلية والمجتمع الاسرائيلي على وجه أعمّ، إلى التساؤل عن فائدة الانسحاب الآحادي ونتائجه على أمن اسرائيل. هذا يعني بالتالي القضاء شبه الناجز على المناخات التفاوضية من أجل السلام التي نشأت منذ إعلانات مدريد وأوسلو وصولاً إلى خارطة الطريق. هذا الاستهداف المباشر لمنطق التسوية السلمية الذي يقوده نظام الملالي لم يعد بالصدام المضبوط، بل أضحى سياسة انقلابية صريحة مع كل تداعياتها.

٤) إن التصريح الذي أدلى به رئيس الوزراء الاسرائيلي ايهود أولمرت منذ حوالي الشهرين والذي يقول فيه أن الاسرائيليين قد “سئموا من حالة الجهوزية العسكرية الدائمة، والانتصار على الذين يستهدفونهم”، ما هو إلاّ مؤشّر خطير عن تراجع المناخات والمبادرات والديناميكيات السلمية التي طبعت التسعينات من القرن الماضي. لقد عادت مجدّداً المخاوف الوجودية وتراجع الرجاء في إمكانية إيجاد تسوية عادلة ترضي الطرفين وتضع حدّاً لاستشراء منطق المواجهات المفتوحة والعداوة المطلقة. إن الأصوليات الجهادية قد أعادت مناخات العداوة المطلقة، عبر تصعيد خطاب الكره الأعمى، والعمل الإرهابي العدمي، الأمر الذي أحيا الإقفالات الذهنية والسياسة التي حالت حتى اليوم دون تبلور تسوية عقلانية وعملية للنزاع العربي­الاسرائيلي.

لا يفهم الدور الإيراني إلاّ من خلال إعادة إحياء المدخل الجهادي، الذي يحاول توظيف قدراته ومناخاته من ضمن استراتيجية النفوذ التي وضعها في محاولة لفرض نفسه فاعلاً أساسياً في الدائرة الشرق أدنوية. لا تُفهم حدّة المواجهة التي أرادتها اسرائيل مع حزب الله إلاّ من خلال فهم الارتباط العضوي القائم بين سياسة التصعيد التي يعتمدها حزب الله وسياسة التموضع الاستراتيجي لنظام الملالي.

السياسة الإيرانية
لقد تبيّن في سياق مقاربتنا أهمية الدور الإيراني في التأسيس والدفع بالنزاع الحاضر. لولا حجم المداخلة الإيرانية على الأصعدة الايديولوجية والمالية والعسكرية والاستراتيجية لما اكتسب حزب الله هذا الدور الأساسي في إعادة تفعيل النزاع العربي­ الاسرائيلي ونسف مكتسبات العملية السلمية منذ مدريد وأوسلو. لم يعد هنالك من شك في أن مداخلة حزب الله الحالية لا تندرج فقط ضمن سياق سياسات التمكين التي يعيشها الشيعة اللبنانيون منذ زمن الإمام موسى الصدر، بل أيضاً ضمن سياسة التموضع الاستراتيجي لإيران في قلب المعادلات الاستراتيجية في منطقة الشرق الأدنى. لقد تأسّست هذه السياسة على تقاطع المفاصل التالية:

أ) تحويل جنوب لبنان إلى قاعدة متقدمة لسياسة النفوذ الإيراني في منطقة الشرق الأدنى وذلك عبر إيجاد حزب الله كتنظيم عسكري يتولى مسألة الصدام المبرمج مع الاسرائيليين تحقيقاً لأهداف متنوّعة من شأنها ١) أن تزيد من رصيد إيران في العالم الإسلامي لأن المواجهة مع اسرائيل هي مدخل أساسي في مجالات تثبيت مواقع النفوذ فيه؛ ٢) إيجاد منطقة نفوذ ثابتة للنفوذ الإيراني يتوسّلها منطلقاً أساسياً من أجل توسيع دائرة نفوذه الإقليمية وكمثل يُحتذى لسواه من الأقليات الشيعية في الدول السّنية؛ ٣) إيجاد منعزل ديني وحياتي موازٍ للمنعزلات الذهنية والحياتية التي فرضها نظام الملالي على المجتمع الإيراني.

ب) إن الاستراتيجية الانقلابية التي اعتمدها الإيرانيون منذ طرد الإصلاحيين من الحكم وإحكام الإقفالات السياسية والدينية على ممانعتهم ونفوذهم المضطرد في الحياة الإيرانية، تهدف إلى تعطيل الحركة الإصلاحية في الداخل وإلهاء الإيرانيين عن همومهم الحياتية، بسياسة نيو إمبريالية تنسيهم ضغوطاتهم الحياتية، والمفاعيل المدمّرة للموجة الإمبريالية الأولى التي دفع بها الخميني ( ١،٠٠٠،٠٠٠ قتيل في الحرب الإيرانية – العراقية ).

ج) إن سياسة التسّلح النووي تعاني من ضغوطات سياسية وديبلوماسية تنبغي إزاحتها. فإيران لا تريد أن تدخل في أية مفاوضات حاسمة بشأن إنهاء برنامج التسّلح النووي والتعويض عنه ببدائل وظيفية في المجال الإنمائي والاقتصادي. السياسة الإمبريالية في الديكتاتوريات لها الأولوية على الشأن الإصلاحي الداخلي، خاصة وأن البترودولار هو المزخم لها. لقد انتخب أحمدي نجاد على أساس برنامج إصلاحي داخلي لمحاربة فساد طبقة الملالي النهّابين، لكن سرعان ما تيقّن الإيرانيون أن غوغائيته الشعبوية المتستّرة بالقناع الاجتماعي، لم تكن إلاّ برقعاً لتغطية النزعة النيوإمبريالية في العمر الثالث للثورة الإيرانية.

تنبئنا هذه الاستعادة السريعة لمواقف الفاعلين الأساسيين في السياق النزاعي الحاضر، إن المعالجة الفاعلة لمجرياته تتطلب فهماً لأبعادها المتعدّدة وتشابكها، وتفهمنا أيضاً أنه لا سبيل لاحتوائه ما لم تكن هناك مداخلات دولية متنوّعة تساعد أقطابه على الخروج من مواقفهم الآسرة ومطبّاتهم القاتلة وإقفالات خطابات الكره والعداوة ونفي إنسانية ومعقولية المتخاصمين. إن المبادرة الدولية التي خرّجت قرار مجلس الأمن ١٧٠١، هي مناسبة تاريخية لإنهاء نزاعات مفتوحة ومدمّرة وذات مفاعيل حارقة على غير مستوى وخارج حدودها.

ا بدّ من الأخذ بها من أجل تثبيت منطقة عازلة من السلاح تضع حدّاً للنزاعات المفتوحة، ومن أجل إنهاء واقع السلاح غير الشرعي عبر نزع سلاح حزب الله، ومن ثم الانخراط في سياق تفاوضي شامل وثنائي من أجل إنهاء الإشكاليات اللبنانية والإقيليمية على نحوٍ عقلاني ومسالم وعادل. إن رفض قضية نزع السلاح من قبل حزب الله وتجاوب الدولة اللبنانية المتسكّعة مع هذا المنطق، ينفيان جوهر القرار الدولي؛ هذا يعني بالتالي أننا أمام استراتيجية إيرانية انقلابية ينفذّها حزب الله. إن التقاء إرادات لبنانية وعربية واسرائيلية ودولية حول ضرورة تخريج قرار جديد يعيد للدولة اللبنانية قرارها الذاتي ويمكّنها من إنقاذ سيادتها على أرضها، هو إطار علاجي جدّي وفاعل لمشكلة مزمنة ومدمّرة في نتائجها. أنا أخشى أن يصرّ حزب الله في ممانعته مدفوعاً من قبل سياسة إيرانية رعناء، تسعى إلى إشاعة الفوضى في منطقتنا دونما تقدير لعواقبها؛ وفي ذلك يكمن الوهم القاتل الرابع الذي يعتقد بأن تكسير خطوط الاحتواء والتوسّط والتحكيم الدولية يمكن ان تأتي بنتائج إيجابية. إن الأوهام الإيديولوجية هي أسوأ السموم القاتلة.

مزّقوا الحجاب وأعملوا للسلام
تملي علينا المقاربة التحليلية لمجريات حرب تموز ٢٠٠٦، بعض الخلاصات المنهجية والعملية التي ينبغي اعتمادها في أية مقاربة لتسوية النزاعات. هذه الخلاصات هي قيمية وأدواتية في الوقت عينه، وتفترض تلازماً بين البعدين إذا ما أردنا نتائج عملية لمشاكل معقدة في تكوينها ومديدة في تجذرها. سوف أتناول هذه الخلاصات كالتالي:

١) إن نهاية التفاعلات النزاعية تفترض مواقف مبدئية يتّخذها الشيعة وحزب الله أولاً ومن ثمّ اللبنانيون. على الشيعة أن يبتّوا في مسألة علاقتهم مع حزب الله. فاذا كنا في واقع تماه فهذا أمر، وان كنا في واقع تمايزي فهذا أمرآخر. نأمل أن لا نكون في واقع التماهي، لأن في ذلك خيراً للشيعة وللبنان ولحزب الله إذا شاء أن يكون واقعياً وعلى شيء من الديموقراطية.

من غير المعقول أن تبقى طائفة أسيرة خيارات سياسية تقوم بها جماعة في داخلها، وخاصة أن طبيعة هذه الخيارات تتعلّق بالحرب والسلم وما يتأتّى عنهما. لقد تبيّن أن خيارات حزب الله آحادية السياق وليس في ذلك عجب، فهي انعكاس لخياراته الايديولوجية التي لا ترى في السياقات النزاعية إلاّ سيناريوات القاتل والمقتول، الرابح والخاسر (Zero Sum Game) ولا ترى إمكاناً لتخريج حلول من نوع التفاوض العقلاني من نوع رابح­رابح ( Win-Win Game). لا بدّ من نقاش حرّ داخل الطائفة الشيعية خاصة بعد الكارثة التي حلّت بها أولاً وبلبنان بشراً وعمراناً. لا بدّ من العودة عن هذه المواقف البدائية التي تدعو إلى الاصطفاف الأعمى الذي أعمى بصيرة الألمان في الحرب العالمية الثانية عندما رفعوا شعار “مع القائد حتى النصر” ( Mit dem Führer Bis Zum Sieg)، الذي بقي مكتوباً على جدران برلين المتهاوية عشية سقوط النازية.ولنا على ذلك عشرات الأمثلة خلال الحروب المديدة على أرضنا التي أنبتت نماذج عديدة لشعبويات غوغائية ومدمّرة حرّكها “قادة ملهمون “.

إن الالتحاق بسياسا ت أحمدي نجاد ونظام ألملالي يشبه إلى حدّ بعيد التماهي الذي عمله الألمان مع النازيين عندما أوهموهم قبل الحرب أنهم بصدد استرجاع كرامتهم ومكانتهم بعد أذلال الحرب الأولى. فكان ما كان من ويلات. كان هنالك ألمان واعون لأخطار النازية ومستعدون للمواجهة على مخاطرها، ولكنهم كانوا قلّة تعاظمت عندما سبح الألمان بدمائهم ودماء سواهم وهزموا في أكبر مجزرة عرفتها تاريخ البشرية.

لا أريد أن أتوسّع في المقارنة فطبيعة النزاع أصغر وقابلة للفكفكة، كما هي قابلة للتمدّد والتعقّد إن شاء أطراف النزاع ذلك. هنالك سبيل لاحتواء تفاعلات هذا النزاع الخطرة على لبنان والمنطقة، عبر إنفاذ قرار مجلس الأمن ١٧٠١ دون التفاف وتذاكي. وهذا يكفي لينشأ نقاش داخل الطائفة الشيعية حول ضرورة نزع السلاح كجزء من عملية تفكيك قواعد المواجهة المتكرّرة مع الجيش الاسرائيلي. فبعد انسحاب اسرائيل وراء حدودها الدولية المعترف بها، لم يبق للشيعة وللبنان من مشكلة مباشرة مع اسرائيل، ولا من إشكالات تمسّ مصالح حيوية لدى الفريقين.

أمّا ورقتا شبعا والأسرى فقابلة للحلحلة من ضمن آلية القرار ١٧٠١ الذي يلحظ تحكيماً مباشراً للأمم المتحدة في هذا الشأن. هذا الطرح يبقى صالحاً ومقنعاً اذا ما كانت مفكرّة حزب الله تقف عند حدود المصالح الاستراتيجية اللبنانية، أمّا اذا تعدّتها لمصالح “الأمّة الاستراتيجية” فهذا شأن آخر؛ على الشيعة واللبنانيين أن يعوا تداعياتها المدمّرة. لم يكن هنالك قبل ١٢ تموز من مسوّغ لما جرى بعده داخل حدود لبنان. إن حالة المكابرة التي حفّزتها سياسة التسّلح التصاعدي وما رافقها من سياسة تعبوية قائمة على تفعيل صور العداوة المطلقة هي وراء هذا السياق التصعيدي الذي اتخذه النزاع على الحدود الجنوبية ( Ascension aux Extrêmes). على الشيعة أن يقنعوا حزب الله بأن المنحى التصاعدي ليس بضروري خاصة وأن الاسرائيليين قد أعلنوا بصراحة لا تقبل المواربة وجهاراً أن لا رغبة لديهم للبقاء في لبنان وأنهم مستعدون للانسحاب مجدّداً إلى حدودهم الدولية، اذا ما طُبِّقت القرارات الدولية ١٧٠١ و ١٥٥٩ و١٦٨٠ واذا ما التزمت الدولة اللبنانية بواجباتها السيادية التي تملي عليها تسلّم مسؤوليات الأمن على أراضيها واحترام موجبات اتفاقية هدنة ١٩٤٩ معها. عليهم أن يقنعوا حزب الله أيضاً أن تسليم السلاح هو للدولة اللبنانية التي يشترك في حكومتها ومجلسها النيابي وإداراتها وجيشها، وأن هذا العمل لن ينتقص لا من قدرهم ولا من نضالهم ولا من كرامتهم، لا بل سيساهم في إعادة بناء الدولة الميثاقية والجامعة وتحصين البلاد تجاه المحيط الإقليمي المتفجّر دوماً على أرضنا وعلى حسابنا. على الشيعة أن يقنعوا حزب الله أن أحوال الازدهار في أوساطهم وفي الجنوب خاصة لم تكن بحاجة إلى مغامرات التهبيط والتعمير، والموت المجاني المسمّى استشهاداً وبطولة. كما أن مفكرّة أحمدي نجاد الاستراتيجية لا تستحق موت الشيعة في العراق وجبل عامل، ولا عودة المهدي تتطلب ذبائح وقرابين.

أمّا موقف اللبنانيين فهو يتطلب نقلاتٍ نوعية في التعاطي مع النزاع المفتوح على أرض الجنوب؛ لم يفصح اللبنانيون على وجه الإجمال ولا هذه الطبقة السياسية عن نضج سياسي للأسباب التالية:

أ) لقد آن الآوان لأن تتعاطى برشد مع النزاع العربي–الاسرائيلي ونتحمّل تبعات أدائنا في هذا المجال. لا مجال بعد اليوم للإبقاء على مبدأ السيادة الاستنسابية والمجتزاءة. لا نستطيع بعد اليوم أن نترك قرار الحرب والسلم بيد فريق مسلّح غير شرعي يعمل لحساب سياسات نفوذ إقليمية محدّدة: إيرانية، سورية، حركات جهادية… ويدعو لتدمير دولة اسرائيل، وأن نتفاجأ بردود فعلها. فإذا ما أردنا الحرب فلنتحمّل تبعاتها واذا ما أردنا تجميد النزاع ريثما يحلّ في بعده الأشمل، فما علينا إلا بالتزام اتفاقية الهدنة وتحمّل مسؤوليتنا السيادية في مجال إنفاذ موجباتها. لعبة الدولة – الضحية، لعبة مبتذلة إن دلّت على شيء فعلى مستوى لاعبيها وقدر الدولة التي تصدر عنها. إن لعبة الالتباس والتهرّب من التبعات السيادية في الداخل والخا رج لم يعد بمقبول اذا ما أردنا البقاء دولة سيّدة لها كيانها، ودورها واعتبارها. إن سياسة الهرب من المسؤولية وتحمّل التبعات قد انتهت ولكن ما لم نجب عليه حتى الآن هو هل نحن راغبين في ولوج الرشد السياسي وتحمّل المسؤولية أم لا؟

ب) لقد تبيّن أننا كلبنانيين لا نزال على خلاف بيّن حول مفاهيم أساسية في الثقافة الوطنية والسياسية: ماذا يعني أن نكون دولة مستقلة، ماذا يعني أن نمارس السيادة على أرضنا، ماذا يعني أن نحترم موقعنا داخل المجموعة الدولية، ماذا يعني أن نحترم مواثيقها واتفاقياتها، ماذا يعني أن تدير نزاعاً مجمّداً، ماذا تعني المواطنية، ما هي مدلولات النزاع بين الدول وما هي حدودها؟ هنالك خلاف أساسي حول قواعد الثقافة الوطنية والسياسية وآثارها بالغة الأهمية على سلوك المواطنين وأداء الفاعلين في الحياة العامة. هذه الخلافات ليست فقط بنظرية، بل تعكس معالم حياة سياسية نزاعية وبدائية في قواعدها. فكل خلاف سياسي يتحوّل عداوة وتنافياً، وكل اختلاف يتحوّل مشروع حرب محتملة حتى يستوي الجميع على قاعدة يضعها الأوقح والأشرس والذي لا قيم لديه. لا مفهوم للحقوق الوطنية والإنسانية والسياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية الجامعة، كل العلاقات تقوم على قاعدة علاقات القوى.

فعلاقتنا مع الآخر في الداخل أو في الخارج، في زمن السلم أم في زمن الحرب، تقوم على قاعدة من يسيطر على من؟ من يلغي من؟ ومن يفني من ومتى؟ فهذا هو مقياس التعامل السوي كما تقول به أعراف عشائر العرب (العاربة منها والمستعربة). إن منطق التعامل مع إشكاليات النزاع العربي–الإسرائيلي متفلّتة من كل الضوابط القيمية، فهذا النزاع يُترجم فقط بلغة العداوة المطلقة (اسرائيل شرّ مطلق) والاسرائيليون كائنات ساقطة من انسانيتها ( Déshumanisation) والحلّ النهائي ( Solution Finale) يقضي بتدمير دولة اسرائيل. وكلنا يعرف طبيعة الايحاءات التي يودي إليها هكذا منطق عند الاسرائيليين واليهود. فقد سمعوا هذا الخطاب عشية المحرقة في ثلاثينات القرن الماضي.

على حزب الله ومن ينحو نحوه في التفكير- لأسباب إيديولوجية دينية أو سياسية أو اجتماعية تقول بالتمييز ضد اليهود ومعاداتهم (Judéophobie)-،أن يعوا أن خطاب الكره والعداوة ليس بمقبول من الناحية الأخلاقية الطبيعية (Morale Naturelle) ولا من وجهة نظر مسيحية تعنيني شخصياً. هنالك لبنانيون غير قابلين بتبنّي خطاب الكراهية مهما كانت أسبابه والاستقامة الاخلاقية والمواطنية المسؤولة لا تقبل في هذا الشأن مسايرةً أو تقيةً أو ذمّية. إن مقولات حزب الله النزاعية تخصّه ولا يحق له أن يفرضها على غيره باسم عصمة قضيته وأوليائه ومرجعيته الدينية. هذا لا يعني أنه ليس هنالك من نزاع بين العرب واسرائيل وله أسبابه الموضوعية وإشكالياته وآلياته. المشكلة تكمن في كيفية التعاطي مع هذا النزاع ومنطلقات هذا التعاطي، أنريده عقلانياً يحترم معقولية الآخر المتنازع معه، وإنسانياً يحترم بشرية الاسرائيلي، وعادلاً يأخذ بعين الاعتبار حيثيات وحقوق ومصالح المتنازعين ويحاول تخريج حلّ سويّ وواقعي بينهما؛ أم نريده انفعالياً لا يحركه إلا الكره الأعمى، وعنيفاً نبرّر من خلاله موتنا فنسمّيه شهادة وموت الآخرين فنسمّيه حلالاً وفي عربدة الدمِّ هذه يتجرأ البعض ليقول أن الله في حمّام الدمّ هذا “يعرف خاصّته”.

عندئذٍ فليسمح لنا أن نقول أن الاعتبارات الأخلاقية والإنسانية تعلو على كل الاعتبارات، فليس هنالك من دين أو وطن أو قضية مهما كانت، لها من القدر والقيمة التي تسمو إلى مرتبة كرامة الحياة البشرية وقيمتها المتسامية وكرامة الحياة في النبات والحيوان وقيمتها الذاتية. إن تدمير البشر والطبيعة والحيوان هو إدانة للمتحاربين وللحرب ولمنطق الحرب، ولبشريتنا الساقطة؛فلا مقولة نتوسّلها بعد اليوم لتبرير السقوط الإنساني، فالسقوط من آدميتنا لا يحتاج إلى تأويلات، لأن أثاره مرسومة على وجوه الناس وعلى جثث الضحايا، والأرض المحروقة والمياه المسمومة. لقد آن الآوان لأن نتجاوز بدائية العنف، فالعنف يدمّر القاتل والضحية، ويدمّر صورة الإنسان ويفقد معنى كل دين، “فأهل الظلم دين واحد” يقول كتاب المسلمين.

هل حزب الله بصدد مراجعة جذرية تطال طبيعة أدائه، لتقييم المؤدّى الكارثي الذي تأتّى عن أخذه باستراتيجية المواجهة القصوى مع اسرائيل، أم بصدد تثمير ما يسمّيه “انتصاراً” ومتابعة العمل على قاعدة النهج الذي اعتمده حتى اليوم؟ السؤال يتطلب أجوبة صريحة، وقد أخذنا بداية لجواب بتنا نتوجّس من عواقبه في الأسابيع القادمة. القرار ١٧٠١ هو باب الخلاص للجميع، فهو إن طُبّق بأمانة قادر على إنهاء القاعدة النزاعية في جنوب لبنان، وإن جرى تفخيخه عبر التلاعب بأداء الجيش من خلال مكوّناته الشيعية ومن خلال الضغط على أعضائه الذين يتأثرون بسياسة النفوذ السورية، أو تبهيته من خلال صيغ على طريقة أمر قيادة الجيش في يوم 17 آب ٢٠٠٦ حيث مواقف من نوع “انتشار الجيش إلى جانب المقاومة” “وصعود الجيش إلى الجنوب للتصدّي للعدّو الاسرائيلي”، تنبئ عن مستوى الأداء في الدولة، فهؤلاء المسؤولون نسوا أن مهمّة الجيش تندرج ضمن مهمّة دولية راعية وضامنة للقرار الذي وضع من أجل تثبيت آلية هدنة وسلم فعلية في الجنوب، وليس متابعة لعمل حزب الله بأشكال أخرى.

السؤال هل تحترم الدولة اللبنانية ذاتها عند توقيعها على التزامات دولية أم لا؟ فعندما يجيز مسؤولون لأنفسهم هكذا تصرّفات، فلا عجب من اداء مريدي الخراب لهذه البلاد.السؤال كما هو مطروح على حزب الله هو التالي، أتريد السلام الذي يعرضه القرار ١٧٠١ وبالتالي العمل بموجباته لجهة تثبيت وقف إطلاق النار، وإيجاد منطقة مجرّدة فعلية من السلاح، ونزع السلاح لحساب الدولة التي تشارك فيها كلاعب أساسي وكطائفة أساسية أم لا؟

الجواب لا يحتمل التأويل، فإمّا نعم، وبالتالي عليه وضع الآلية مع أجهزة الدولة لتأمين التطبيق الفعلي للقرار، وإمّا لا وهذا يعني بأن السقف اللبناني مفخوت والشيعة واللبنانيون أناس مستباحون في حياتهم وسلامهم وعمرانهم. على حزب الله أن يقول ما هو الأبدى والأهمّ، حياة الللبنانيين أم مصالح أحمدي نجاد ونظام الملالي الاستراتيجية؟ إسرائيل أعطت جوابها، وهي أنها ملتزمة بالقرار ١٧٠١ برمّته ولا رغبة لها في ملازمة لبنان. فما الذي يمنع من إمداد الدولة اللبنانية بتنازلات تعيد لها حيثيتها في شأن الأمن الوطني. إن سياسة التعايش بين سلاح الجيش والسلاح غير الشرعي هو مبدأ خاطئ دمّر الدولة بالسابق وهو من شأنه تدميرها اليوم.

إن الصيغ الملغومة وإرسال الجيش كتمويه لاستمرارية أداء حزب الله، من شأنه أن ينسف إمكانية إرسال قوات دولية ويحفّز تنصّل إسرائيل من القرار ١٧٠١. لقدأعلنت الدول الراغبة في المشاركة تحفّظها وتوجّسها من الأداء الملتبس للدولة اللبنانية التي تظهر ضعفها وانقسامها وتبعيتها لمحاور النفوذ، كما أكّدت إسرائيل أن إسقاط بند نزع السلاح من تطبيقات القرار سوف يضع مصير القرار برمّته موضع المساءلة. السؤال الآخر المطروح هو إمكانية دخول الحزب في عملية مراجعة لرؤيته وطروحاته. إن المتتبع لطروحات الحزب من خلال المكتوب والمرئي والمسموع يصعق بهذا الهوس العدائي لإسرائيل. تشاهد المنار، تقرأ مداخلات مسؤوليه، تقرأ الشراع، فلا موضوع إلاّ موضوع القتال مع إسرائيل، وتوصيف طبيعة المواجهة مع إسرائيل بأبعادها الدينية والسياسية.

إن محاولة فرض قراءته لمسار النزاع العربي– الإسرائيلي قد بلغت حدّاً غير مقبول، فمفهوم العداوة المطلقة والمشرّعة دينياً وما يرافقها من عملية تسطيح للوقائع والإشكاليات، هي من الأمور المعيقة بشكل أساسي لإي عملية سلام. ما يدعو للإستهجان هو عدم ورود في أي من هذه الطروحات، أيّ ذكر لإمكانية تسوية سلمية لهذا النزاع؛ هذا مع العلم أن تصاعد نفوذ حزب الله في التسعينات قد تزامن مع أول مفاوضات علنية جرت بين إسرائيل والدول العربية والفلسطينيين من أجل إيجاد تسوية سلمية له. لقد بدت هذه الممانعة وكأنها استهداف مباشر لكل منطق التسوية. إن إضفاء صفة الإطلاقية على هذا النزاع، وتوظيف المقولات الدينية والشرعية يجعلنا نتساءل حول مؤدّيات هذا النزاع. إن تبلور معالم ديكتاتورية دينية على نحو إيراني قد أصبح واضحاً.

إن الأجواء التي رافقت الانقلاب الذي أتى بأحمدي نجاد قد أدخلت تراجعات على مسار الثورة الإيرانية، التي شهدت مع وصول خاتمي وخلال عهديه تصاعد تيارات ليبرالية في سائر المجالات الدينية والسياسية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية وحتى فيما يخصّ موقف إيران من حلّ النزاع العربي–الاسرائيلي. فقد أعلن مرشد الثورة الإسلامية السيّد علي خامنئي خلال المؤتمر الاسلامي في طهران السنة ١٩٩٧، “أن ايران توافق على السلم مع اسرائيل إن تراجعت عن سياستها العدوانية”. فهكذا موقف يحمل في طيّاته نقلة نوعية كنا نأمل في أن تسهم في تطوير موقف سلمي شامل في العالمين العربي والاسلامي، تتغذّى منه الوساطات والمبادرات في ذلك الوقت. أمّا اليوم فنحن أمام مشهد تراجعي أعاد عملية السلام الى أسوأ من مرحلة ما قبل المفاوضات العلنية والتسويات الكبرى كما جرى مع كامب دايفيد رقم واحد. نحن أمام سيناريوات العداوة المطلقة والمواجهات القصوى والمفتوحة.

أن تصوير هذا النزاع عبر استعمال مقولات دينية وتوظيف الله في تبرير النزاعات وتسييرها ساعد في تشويه صورة الله والانسان معاً، فهذا الإله العنيف الذي يحمل تقاسيم البشر الساقطة، والذي ينخرط في نزاعات البشر الدّموية، يصبح على صورة الإنسان ومثاله، في حين أن العكس هو المطلوب، أن يصبح الإنسان على صورة الله ومثاله، والله كما تقول البيبليا حنّان ومحبّ والقرآن رحمن رحيم. صدقية إيماننا بالله مرتبطة بمعاملتنا لأخينا الإنسان مهما تشوّهت صورته بفعل الشرّ الإنساني. إن هذا الخطاب الذي يحضّ للعنف باسم الله مرفوض، لأن القتل بإسم إرادة الشرّ الإنسانية أو القتل بإسم الله هما سيّان وكلاهما يُسمّى قتلاً. العدمية الإنسانية المصدر توازي العدمية باسم الله، وهذا أخطر ما تمتاز به الأصوليات الإسلامية القاتلة. لا أعتقد بحسب معرفتي ببعض مسؤولي حزب الله وبآرائهم بأداء من يسمّونهم “بالتكفيريين”، أنهم راغبون في أن يصنفّوا ضمن النموذج البن لادني.

على حزب الله اللبناني أن يقوم بدور الممانعة داخل إيران لإجراء انعطافات أساسية في مجال التسوية العقلانية للمسألة النووية، والمساعدة في مجال تسوية سياسية عادلة وعقلانية للنزاع العربي–الاسرائيلي، وأنا أعرف قناعات بعضهم في هذا المجال، وهم يعرفون أيضاً أنه بإمكانهم الاتّكال على سواهم من اللبنانيين من أجل تطوير مبادرات توسّطية وتحكيمية لمعالجة هذه المسائل الصعبة. عليهم أن يخرجوا من واقع التبعّية لسياسات إيران إلى واقع المشاركة في صياغة مسارات جديدة تنهي دوّامات العنف القاتلة. لعلّ هذه المأساة التي نعيشها تفعل فعلها الصاعق من أجل إطلاق مقاربة جديدة لإحلال السلم الإقليمي. إن المداخلة الدولية الصلبة التي أظهرت تعاطفاً صادقاً وإرادة سلم بيّنة، هي مدخلنا لواقع جديد، فهل سوف يتعاطى معها حزب الله على هذا الأساس؟ إن التشدّق بانتصار فارغ وعدم النظر في مؤدّيات هذه الحرب الكارثية، هي علامة مقلقة. إن عدم الدخول في مرحلة مساءلة جدّية والاكتفاء بتهنئة الذات على نحوٍ مُفَرقِع لم يعد أمرا” مقبولا” .

إن التندّر حول دخول الاسرائيليين في عملية مراجعة نقدية لأدائهم في الحرب على غير مستوى، هو علامة سيئة لمجتمع غير قادر على مواجهة ذاته ومحاسبة أداء مسؤوليه.

٣) إن نجاح القرار ١٧٠١ في تجميد التفاعلات النزاعية في جنوب لبنان، سوف يفتح آفاقاً جديدة لمشروع التسوية السلمية في المنطقة. هل سوف يدخل الاسرائيليون من هذا الباب الضيّق من أجل إحياء خارطة الطريق والخوض في مسائل استكمال إنشاء الدولة الفلسطينية، وإنهاء المسائل العالقة في الجولان وجنوب لبنان؟ إن الموقف الفلسطيني أساسي في كسر الإقفالات الحالية. إن الاجتماع بين الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس ورئيس الحكومة الفلسطينية اسماعيل هنيّة من أجل البحث في تشكيل حكومة فلسطينية مشتركة تعيد التواصل الداخلي وتستعيد المفاوضات مع الاسرائيليين على قاعدة الاتفاقات السابقة وآخرها خارطة الطريق. لذا فالمداخلتان الأميركية والأوروبية أساسيتان في مجال إنجاح القرار ١٧٠١ ودفع الفلسطينيين باتجاه سياق إئتلافي يحيي الديناميكية السلمية ويساعد الفلسطينيين على استعادة قرارهم الذاتي المستّقل عن محاور النفوذ الإيرانية والسورية والراديكالية الإسلامية التي نجحت حتى الساعة في إعاقة خطّ التسوية السلمية. إن الدور العربي على المستوى الثنائي وعلى مستوى جامعة الدول العربية أساسي في تحصين هذه الاتجاهات والمناعات تجاه النزعات التي تعمل على بثّ سيناريوات فوضوية تماثل ما يجري في العراق. لا بدّ من إحساس الفاعلين اللبنانيين والفلسطينيين أن مصيرهم يعني كل من المجموعتين الإقليمية والدولية وأن نجاح المبادرات الإقليمية والدولية مرتهن بدرجة تجاوب الفاعلين الداخليين.

لا بدّ من تجاوز اللبنانيين المناخات المضلّلة التي حاولت تصوير المداخلة الأميركية–الأوروبية على أنها تستهدف الاستقرار والحقوق اللبنانية. في حين أن هذه المداخلة لا تبغي سوى مساعدة الدولة اللبنانية على استعادة دورها الفعلي على قاعدة وفاقية. أخيراً لا آخراً، لعلّ المواجهة-البديلة في لبنان، أقنعت نظام الملالي بأنه من الأفضل الخوض في مفاوضات بنّاءة لإيجاد بدائل وظيفية لسياسة التسّلح النووي بدل العمل على الخوض في سياسة النسف المتتالية للتسويات الديموقراطية في كل من العراق والأراضي الفلسطينية ولبنان، لأن مؤدّى هذه السياسة لن يرتّد بالسلبيات فقط على إسرائيل وأميركا، بل على إيران.

إن العبثية التي تطبع الأداء الإيراني والتي يأمل من خلالها نظام الملالي تثبيت مرجعيته في منطقة الشرق الأدنى، سوف تفتح المنطقة على تداعيات متفلتّة. إن محاولة استيعاب الجهادية البن لادنية هو من الاوهام التي أوحت بها حرب لبنان. فالجواب على هذا الوهم هي أوضاع العراق، حيث تصادم الأصوليات السّنية والشيعية وسياسات النفوذ الشيعية والسّنية من خمينية ووهّابية في صيغتيها السعودية والبن لادنية، حوّلت العراق إلى حمّام دم مفتوح. إن سياسة الممانعة الأميركية قد حالت حتى الآن دون استفراد السياسة الإيرانية بالواقع الإقليمي ودون تركزّ التّيارات الإرهابية. المطلوب الاستمرار في سياسة الممانعة في لبنان والأراضي الفلسطينية والعراق حتى تتمكّن التيّارات الديموقراطية والقوى المعتدلة من تركيز تسويات إئتلافية تحول دون تمادي السياقات الفوضوية التي تعمل عليها بشكل حثيث إيران والتيّارات الإرهابية.

٤) إن دور النخب السياسية أساسي في تفعيل حوارات في كل اتجاه من أجل إقناع حزب الله بضرورة العودة إلى أولوية الشأن اللبناني في مفكرّته على حساب أولويات سياسة النفوذ الإيراني. لن تنجح الوساطة اللبنانية، ما لم يعبّر اللبنانيون بشكل عملي عن حرصهم على إعطاء هذه الوساطة إمكانيات نجاحها. على الشيعة أن يخرجوا حزب الله من دائرة همومه الحصرية وتوسيعها لتشمل مصلحة الشيعة، وعلى سائر اللبنانيين أن يقنعوا الشيعة بأن حماية مصالحهم الحقيقية تفترض تداخلها مع مصالح الدولة الميثاقية. عليهم أن يقنعوهم أن الدخول في لعبة النفوذ الإقليمية والدولية مدمّر، فالصغار الذين يريدون اللعب في ملاعب الكبار سوف ينتهون في محرقاتهم. القليل من التواضع أيّها السادة، القليل من الاحترام لمعاناة هذا الشعب المذبوح دورياً على مائدة سياسات النفوذ الإقليمية الغبيّة والمؤذية. وأمّا اللبنانيون فرجاؤنا هوألاّ يفقدوا قدرتهم على الممانعة بوجه السياسات التي تسعى إلى استعمالهم وقوداً لنارها.

إن أهمية ما جرى في سنة الاستقلال الحقيقي في العام ٢٠٠٥ الذي عنونته وتصدّرته تظاهرة ١٤ آذار البهيّة، هو المعين الذي يجب أن نغبّ منه في زمن الجفاف الذي نعيشه اليوم. ما جرى، هو خروج المجتمع المدني اللبناني الحرّ، الخلاّق، الجريء، ليستعيد حرّياته الوجودية والسياسية من النظام السوري الذي لم يحاول فقط سلبه استقلاله وحرّياته، وحقوقه وموارد أهله، بل حاول سلبه ماهيّته وسبب وجوده، الحرّية الكيانية والروحية التي هي مصدر كل خير. إن المعاناة التي نعيشها اليوم يجب ألاّ تثنينا عن إعادة تأكيد تمسّكنا بأسباب وجودنا وبالمواثيق الأخلاقية والسياسية والحقوقية التي جعلت منّا التجربة الديموقراطية الوحيدة في المنطقة العربية. علينا التمسّك بكل ما أكسبتنا إيّاه الحداثة من حقوق وحرّيات ومؤسّسات ديموقراطية ومؤسّسات مهنية وعلمية ومناخات فكرية متحرّرة.

لا نريد هذه العودة المفاجئة إلى مناخات الحرب المُطبِقَة أن تجعلنا نستسلم لعبثيتها وإقفالاتها. إن قرار مجلس الأمن ١٧٠١ هو فرصة لحماية هذه المكتسبات التاريخية ولحماية لبنان من سياسة المداخلات الخارجية التي دمّرته غير مرّة. هل هنالك من وعي لأهمية هذا المدخل، أم سوف نبقى على عتبة هذه الفرصة التاريخية ودون الاستفادة من الإمكانيات التي تمدّنا بها. لبنان الديموقراطي يحتاج للمؤسّسات الدولية لحماية وجوده وخصائصه، وهو الآن يتعرض لأهم تحدٍّ لمستقبله ككيان ودولة مستقلّين. فإمّا أن نستفيد من هذه الفرصة وإمّا أن نذهب طعماً لنار الصراعات الإقليمية التي خبرناها على عقود واكتوينا بها.

*شارل شرتوني
أستاذ في معهد العلوم الاجتماعية،۲، الجامعة اللبنانية. باحث في دائرة الحكم والسياسة التابع لمعهد الخدمة الخارجية في جامعة جورجتاون.
صدر له حديثاً عن دار النهار كتاب عنوانه” لبنان من النزاعات المديدة الى دولة القانون.

*الدراسة في اعلى كانت نشرت في جريجة النهار بتاريخ 11 أيلول/2006