شارل الياس شرتوني/مئوية لبنان الكبير، ما بين نهاية الدولة ونهاية الكيان.. لبنان الذي عرفناه انتهى

319

مئوية لبنان الكبير، ما بين نهاية الدولة ونهاية الكيان.. لبنان الذي عرفناه انتهى

شارل الياس شرتوني/03 حزيران/2019

نحن على أبواب مئوية لبنان الكبير ( ١٩٢٠-٢٠٢٠ ) نسأل أنفسنا عما أنتجته هذه التجربة الوطنية، وما آلت اليه بعد انقضاء مئة عام عليها:

أ- لبنان الكبير هو نتيجة للسعي الاستقلالي الماروني غداة انهيار السلطنة العثمانية ونموذجها الامبريالي والإسلامي الناظم لحساب الدولة الوطنية كنموذج مخصص للحداثة السياسية، ومنطلق جديد لتجارب الحكم الذاتي التي نشأت في مرحلة الإمارات المتوالية منذ القرن السادس عشر مع المعنيين وانتهاء بالشهابين في التاسع عشر. عانى الكيان الوطني الناشىء منذ بداياته من ازمات متوالية ناشئة عن الانقسام الاسلامي-المسيحي حول شرعية وجوده وطبيعة كيانه الدولاتي. ان تلاقي الإرادة الاستقلالية المارونية مع الدعم الفرنسي الصريح لهذا التوجه الداخلي، قد سمحا باجتياز الأزمة التكوينية، ونشأة ديناميكية سياسية داخلية كسرت على نحو تدرجي الممانعات في الأوساط الاسلامية، وأدت مع نهاية مرحلة الانتداب الفرنسي الى ميثاق وطني أعطى الحيثية الدولاتية الناشئة الشرعية الإرادية -التي جعل منها ارنيست رونان المستند الأساس للحياة الوطنية المشتركة-، والنخب السياسية الميثاقية التي تلعب دورا أساسياً في احتواء النزاعات التفجيرية، وتأمين التداخل السياسي على تنوع مندرجاته. لم تقو التجربة الاستقلالية على تطويع الازدواجية الناشئة عن الايديولوجيات الوحدوية والولاءات المدنية والسياسية الخاصة بمفهوم الدولة السيدة على أراضيها ( Territorial Statehood )، الامر الذي اثقل الحياة السياسية الداخلية بسياسات نفوذ خارجية أدت الى تفجيرها على مراحل، وربط توازناتها وديناميكياتها بنزاعات إقليمية مفتوحة على كل صراعات المنطقة .

ب- ان ابرز ما ميز هذه التجربة الوطنية وما اكسبها فرادة في ظل نظام إقليمي محكوم بانظمة سلطانية نافية للديموقراطية والليبرالية بمختلف تصريفاتها، هو الطابع الإرادي والوفاقي والائتلافي للحياة السياسية. لقد أنتجت الثقافة السياسية اللبنانية ، المطبوعة بالايتوس السياسي للموارنة والمسيحيين على وجه العموم ( الكلام هو على اتجاهات اكثرية في أوساطهم )، خصائص تمحورت حول ثقافة دولة القانون، والليبرالية السياسية، والتمييز الضنين بين الدولة والمجتمع المدني، والتعددية بتعريفاتها الحضارية، والثقافية، والسياسية والحياتية، ومفاهيم التداخل الوطني القائم على أسس إرادية ووظيفية، خارجا عن إملاءات ايديولوجية، او نماذج توتاليتارية تدعي الحق في صياغة الحياة الاجتماعية والسياسية وفقا لرؤية تسقط على الواقع ( التأثير الفرنسي أساسي في صياغة المبنى الدستوري والسياسي، وأخلاقيات الحياة العامة والخيارات الثقافية ) .لقد تبلورت الديناميكيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتربوية على وقع هذه الخيارات وما أنتجته من حيوية ونزاعات وتسويات طبعت الواقع اللبناني بمجمله. هذه الملاحظات لا تنفي ،على أي نحو، واقع التناظم النزاعي بين بنيات الحداثة والبنيات التقليدية والهجينة من سياسية واجتماعية واقتصادية.

ج- لقد أصيب المرتكز الميثاقي منذ بداياته، وأضحت الحياة السياسية الداخلية اسيرة النزاعات الإقليمية، الى حد جعل لبنان منذ بداياته الاستقلالية في وضعية الدولة الملتبسة غير القادرة على بناء سياسة خارجية كتعبير مباشر عن فقدان الوفاق الداخلي حول الخيارت الاساسية للاجتماع السياسي اللبناني؛ مذاك دخل لبنان بفعل سياسات النفوذ الوحدوية في دائرة الدول ذات السيادة المحدودة او الاستنسابية. شكلت احداث ٨ ١٩٥ ومن ثم احداث ١٩٧٥ الصور الأبرز للأزمات السيادية والكيانية التي عاشها لبنان منذ ١٩٤٣، وما سبقها من ازمات سياسية وثقافية وتربوية واجتماعية قامت على قاعدة الخلافات المبدئية حول مسائل سيادية أساسية طالت السياسات الخارجية والدفاعية، والداخلية والثقافية والتربوية، صحت معها مقولة جورج نقاش ” نفيان لا يصنعان أمة ” ، فكيف بالحري ان تحول النفيان الى محرمات و اغماطات لا مجال لمناقشتها. مع أزمة ١٩٧٥ تحول لبنان بفعل سياسة الانقلاب الارادية التي صاغها اليسار الفاشي مع المنظمات الفلسطينية الى ساحات صراع إقليمية ودولية مفتوحة، دمرت الكيان الوطني والدولاتي، اودت الى محاولة انقلاب مضادة قامت بها القوى السياسية في الأوساط المسيحية من خلال التحالف مع اسرائيل لكسر المعادلات القائمة، مما ادى الى فتح الطريق واسعا امام سياسة النفوذ السورية المتأهبة. أدت سياسة السيطرة السورية ليس فقط الى إلغاء فعلي للسيادة اللبنانية، بل الى تقويض مرتكزات الاجتماع السياسي اللبناني لجهة الثقافة السياسية، ومفهوم دولة القانون، والحريات العامة والخاصة، والخيارات الثقافية ، والى النهب المنهجي لموارد الدولة والمجتمع المدني، بالتكافل مع سياسات النفوذ الشيعية والسنية والدرزية وملحقاتها في الأوساط المسيحية.

د- استعيدت المعادلة السيادية مع التعديلات السياسية الكبيرة التي تلت ٩ أيلول ٢٠٠١، وعودة الحركة الفاعلة الى أوساط المعارضة المسيحية التي كانت وراء اقرار قانون محاسبة سورية واستعادة سيادة لبنان ( ٢٠٠٣ )، والدفع بالقرار الدولي ٥٩ ١٥ ( ٢٠٠٤ ) وإطلاق حراك متزامن بين الانتشار والداخل المسيحيين ، وانطلاق ديناميكية لبنانية شبه اجماعية سنة ٢٠٠٥، اثر اغتيال رفيق الحريري. خروج التيارات السياسية الغالبة في الأوساط الشيعية على الإجماع اللبناني الناشىء، ومصادرة السعودية للقرار السياسي السني، ومحاولة سياسات النفوذ السنية والدرزية وضع اليد على التمثيل السياسي المسيحي قبل وبعد اغتيال رفيق الحريري من خلال اصطناع فاعلين في وسطه، ادوا مجتمعين الى انفراط المد الاستقلالي الناشىء. دفع الانتظام الجديد بحركة سياسية داخلية على خط الصراعات السنية-الشيعية، بقاطراتها السعودية والقطرية والتركية والايرانية، انضمت اليها ، ولأول مرة ، قوى سياسية في الأوساط السياسية المسيحية كملحقات تابعة، وفي ظل فراغ قيادي في الكنيسة المارونية، كرمز ومرجعية ضامنة للنزوع الاستقلالي التاريخي. ضف الى ذلك التعديلات الجيوبوليتكية التي نشأت عن الحرب الاهلية في سوريا، ومداخلات حزب الله والحركات الإرهابية الاسلاموية في الدواخل النزاعية السورية، والنزوح السوري الكثيف وتردداته السكانية والأمنية والسياسية والاستراتيجية الحالية والمحتملة.

ج- يضعنا هذا الواقع امام استحالات متجددة تدور حول التباسات سياسية مديدة حولت الدولة اللبنانية الى وهم قانوني أسس للاقفالات الاوليغارشية، وللتسيب السيادي في كل مندرجاته السياسية والاستراتيجية، وعلى مستوى السياسات العامة. ان واقع الافلاس المالي للدولة اللبنانية ما هو الا الصورة التأليفية لدولة صورية و مركبة على اساس تجمع مقاطعات ومراكز نفوذ لا يجمع بينها سوى مشاريع قضم متبادلة. لا خروج عن هذا الواقع دون حيثيات سيادية ناجزة، واعادة صياغة العقود الاجتماعية على تنوع مستوياتها، وبلورة قواعدالاجتماع السياسي اللبناني، واعادة بناء الدولة على اسس فدرالية متنوعة تعيد الاعتبار لمفهوم دولة القانون. ان الاستنكاف عن هذه المهمة المئوية، يعني ان ذكرى الولادة سوف تكون مناسبة لدفن لبنان الكبير بكل ما جسده من افاق سياسية وانسانية صنعت فرادته في هذه المنطقة البائىسة من العالم. ان أية محاولة للتأقلم مع المفارقات السيادية والتغاضي عن واقع تدمير دولة القانون و النهب المطبع للدولة والبلاد، هو جزء من عملية تفكيك أوصالهما، والتمهيد لبدائل سياسية واستراتيجية أخذت مداها، لبنان الذي عرفناه انتهى.