حنا صالح:على حافة الهاوية/سليمان جودة: حساب الحقل والبيدر في إيران

60

حساب الحقل والبيدر في إيران
سليمان جودة/الشرق الأوسط/30 أيار/2019

على حافة الهاوية
حنا صالح/الشرق الأوسط/30 أيار/2019
حدثان قلبا المشهد في الخليج والمنطقة؛ الأول التقاط صور من الجو لبدء الحرس الثوري تجهيز القوارب السريعة بالصواريخ، والثاني التقاط صور أرضية لمنصات صاروخية ضخمة في محيط مدينة البصرة موجهة نحو المعسكرات الأميركية. ويقول إياد علاوي، رئيس الوزراء العراقي الأسبق، إنها تستهدف أيضاً دول الخليج. تزامن ذلك مع الاعتداء الذي ألحق أضراراً بـ4 ناقلات نفط في بحر عُمان، وتالياً استهداف محطتي ضخ النفط في السعودية، ما شكّل تحدياً بتهديد الممرات المائية الدولية وشرايين الاقتصاد العالمي!
مايك بومبيو حمل صور منصات الصواريخ إلى بغداد، وكشف عن كيفية نقل الصواريخ الإيرانية بصهاريج المياه، وأضاء على الدور الموكل من «الحرس الثوري» إلى فصائل «الحشد»، وحذّر القادة العراقيين من مغبة تحول العراق منصة عدوان على القوات الأميركية، مؤكداً أن المعتدي سيعاقب. وأعلنت واشنطن اعتزامها محاسبة القيادة الإيرانية على أي عدوان. كان لافتاً حجم التحرك الأميركي للردع، ولا شك أنه فاجأ قادة إيران، ووضعهم أمام حتمية وقف تهديد دول الجوار، ووقف اختراق الحدود، وتغيير السلوك، لأنه اشتمل على تحريك قوة بحرية كبرى وقاذفات استراتيجية، وإعادة انتشار عسكري في الخليج ودول المنطقة.
حتى اللحظة، تعلن واشنطن أنها لا تريد الحرب، وباب التفاوض مفتوح، وتشجع الوساطات، لكن العقوبات مستمرة وستتسع. ويقول الرئيس ترمب إن أميركا لا تسعى للتفاوض، و«إذا أرادت طهران، عليها القيام بالخطوة الأولى»، أما «إذا أرادت خوض حرب، فستكون بمثابة إعلان النهاية لنظامها». بالمقابل، فإن طهران التي تأكدت بصماتها في الاعتداء على الناقلات وأنابيب النفط، تعلن أنها لا تريد الحرب، ولا المفاوضات في ظلِّ العقوبات. ولخص الرئيس روحاني الموقف بقوله إنها «حرب غير مسبوقة في تاريخ ثورتنا الإسلامية»، وتبعاً للحالة الراهنة فإن «الظروف الحالية غير مواتية للتفاوض، بل للمقاومة والصمود»!
لم يقتنع حكام طهران بوجود منحى جديد في السياسة الأميركية.. منحى التعامل مع النظام الإيراني بوصفه من أبرز رعاة الإرهاب والتطرف وتهديد الأمن الدولي، بعدما كان الملالي حتى الأمس القريب قد استندوا في نهجهم للهيمنة إلى تحالف غير معلن مع أميركا، بدأ مع قرار حل الجيش العراقي، ما سهّل لهم ملء الفراغ. وتطور بين العامين 2008 و2016، فاستفادوا من مليارات الدولارات في ظل إدارة الرئيس أوباما، ما مكنهم من تطوير برنامجهم الباليستي من جهة، ومن جهة ثانية استثمروا الأموال في الميليشيات التابعة لهم، مثل «الحشد الشعبي» و«الحوثي» و«حزب الله» وغيرها، ليكرسوا جيوشاً رديفة مستندة إلى متغيرات مجتمعية، ما سهل مهمة تجويف هذه الدول، وتحويل سلطاتها إلى مجموعات تتناحر على الغنائم! بهذا الإطار، ترفض طهران طروحات «تغيير السلوك»، لأنها تعتقد أن الوقت في مصلحتها، وأن لديها بنكاً لا ينضب من الأهداف الأميركية، ومن القوى الحليفة للولايات المتحدة، كما حدث في تخريب الناقلات في مرفأ الفجيرة، وفي استهداف خطوط الخام السعودي، والرهان كبير في طهران على أن تنظيم مثل هذه الاعتداءات قد يدفع الإدارة الأميركية إلى التراجع، فتعلن إيران الانتصار! لكن ما لم يكن في حساب طهران هو تشدد واشنطن في العقوبات، وما ينجم عنها من انهيارات، معطوفاً على جهوزية للردع العسكري لوضع حدٍ للاستفزازات. وقد أظهرت المناقشات مع مجلسي النواب والشيوخ تبلور معالم استراتيجية ردع للنظام الإيراني، وسرعان ما تقرر إرسال قوات إضافية، في رسالة مدوية تفهمها جيداً طهران.
في خِضمِّ الصراع الكبير على المنطقة العربية، تواصل طهران سياسة مزدوجة، منطلقة من خلفية مفادها أن شراء الوقت يصب في خدمة مخططاتها، بانتظار الانتخابات الرئاسية في أميركا في عام 2020. يعلن رئيس لجنة الأمن القومي أن إيران «تحت أي ظرف، لن تدخل حرباً ضد أميركا»، ويعلن قائد «الحرس الثوري» أن بلاده لا تسعى للحرب. وشكلت الدعوة عبر الإعلام لمعاهدة عدم اعتداء مع دول الجوار آخر نكتة سمجة للتغطية على جوهر الموقف، وإن تزامن ذلك مع معلومات عن تراجع جزئي، مثل تفكيك الصواريخ عن متن القوارب السريعة، وإبداء الاهتمام بزيارة يوسف بن علوي، الوزير المسؤول عن الشؤون الخارجية العماني، الذي نقل رسالة مفادها أن واشنطن جادة في اتخاذ إجراءات صارمة تجاه أنشطة إيران الإرهابية. وبالتزامن أيضاً، يستوقف المتابعين ما تم التعبير عنه من بيروت، عندما طلبت السلطات اللبنانية و«حزب الله»، جهة فاعلة في القرار اللبناني، وساطة واشنطن لترسيم الحدود مع إسرائيل، ليتمكن لبنان من استثمار ثرواته. ومقابل كل ذلك، يستمر نقل الصواريخ إلى منصات مطلة على الخليج، بعد التمركز في محيط البصرة، وتتكثف شحنات الصواريخ إلى سوريا ولبنان، وتكشف واشنطن عن اعتراض اتصالات من طهران توجه «الحشد» و«حزب الله» لضرب المصالح الأميركية، الأمر الذي يعني استمرار الاستثمار في الإرهاب، والتجهيز للحرب دفاعاً عن مشروع التوسع والهيمنة!
لعب النظام الإيراني دائماً على حافة الهاوية، ودوره المزعزع لبلدان المنطقة تجسد عبر خراب سوريا والعراق واليمن، والهيمنة على القرار اللبناني. لكن على مدى نحو عقدين، وتحديداً منذ أحداث 11 سبتمبر (أيلول) في نيويورك حتى عام 2017، كانت إيران في موقع القبول الأميركي، والتعاون الأوروبي، والدعم الروسي والصيني. هذا الوضع تغير، وكل الأنظار مشدودة إلى الأفعال الإيرانية، إنْ في استئناف تخصيب اليورانيوم، وما يحمله من تحدٍ للعالم، أو في بصمات الإرهاب، مثل استهداف الناقلات وخطوط النفط. ولعل المواقف التي أدلى بها الرئيس الروسي بوتين خير تعبير عن عزلة النظام الإيراني، بقوله: «لن تكون روسيا قادرة على لعب دور فريق الإطفاء بشكلٍ مستمر… ولا تستطيع الدول الأوروبية فعل شيء لتعويض إيران خسائرها». ويضيف: «الأفضل لطهران عدم الانسحاب من الاتفاق النووي مهما كانت الظروف»، فهل يتعظ نظام خامنئي؟
اليوم، بعد الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي، بات التضخم في إيران 52 في المائة، وارتفعت الأسعار 82 في المائة، والانهيار النقدي مريع، وواشنطن التي اتخذت خطوات للردع غير مهددة لكي توجه الآن ضربات عسكرية، فالعقوبات تفعل فعلها، وكل يوم يمر يزداد شلل إيران وأذرعتها، لكن الانزلاق إلى الحرب وويلاتها أمر وارد. من هنا، أهمية مبادرة الملك سلمان بالدعوة لقمتين طارئتين، خليجية وعربية، للتأكيد على أن العرب ليسوا على منصة المتفرجين، وأنه لا بديل عن موقف حازم من تهور النظام الإيراني لمنعه من الاستمرار في نشر الدمار والفوضى، وإلاّ البديل جاهز، وهو الشرب من كأس السم التي شرب منها الخميني أواخر الثمانينات.

حساب الحقل والبيدر في إيران
سليمان جودة/الشرق الأوسط/30 أيار/2019
القصة تروي أن إقطاعياً حاز أرضاً واسعة، وأنه جاء عليه يوم قرر فيه منح أوسع مساحة من أرضه، لمن يستطيع من الفرسان قطع المساحة إلى أبعد مسافة فيها!
وكان للإقطاعي شرط وحيد، وكان يضعه أمام كل فارس يقبل التحدي، وكان الشرط أن ينطلق الفارس في الأرض على ظهر حصان ثم يعود إلى نقطة البدء، وكان المطلوب منه أن يعود قبل غروب الشمس، فهذا هو الشرط الواضح الصريح الذي لا فصال فيه، فإن تأخر في طريق عودته عن لحظة الغروب ثانية واحدة، خسر الرهان بغير نقاش، ليتقدم فارس آخر ويجرب حظه بين الفرسان! وكان الفرسان جميعاً يجربون حظوظهم، وكانوا يخسرون واحداً تلو الآخر، وكانت مشكلة كل واحد فيهم أنه لم يكن يضع حسابات العودة في الاعتبار، وكان كل فارس ينطلق راغباً في الوصول إلى آخر الأرض، وكان يلهب ظهر حصانه في سبيل الوصول إلى هذه الغاية، وكان في غمرة الرغبة التي كانت تتملكه، ينسى أن التحدي الحقيقي الذي ينتظره، ليس الوصول إلى آخر مدى عند الأفق الممتد بلا نهاية، ولكن التحدي هو العودة إلى حيث بدأ، ولم تكن العودة المطلوبة منه مجرد عودة والسلام، ولكنها كانت مشروطة بأن تكون قبل مغرب الشمس، لا بعده، فإن خانه التوقيت عاد بلا شيء في يده!
ولم يكن أحد منهم ينتبه إلى أن عليه أن يحسب خطوات العودة، قبل أن يتحدى خطوات الذهاب ويقفز فوقها، ولا كان أحد منهم يلتفت إلى أن إغراءات طريق الذهاب يجب – مهما لمعت أمام عينيه – ألا تنسيه أن وراءه مشواراً سوف يكون عليه أن يقطعه في طريق الإياب، وأن عليه أن يفعل ذلك في موعد لا يقبل المساومة، وأن العبرة ليست في بلوغ الهدف، بقدر ما هي في الاحتفاظ به عند المحطة الأخيرة!
شيء من هذا تراه في سلوك حكومة الملالي في إيران، وهي تذهب متوسعة في محيط إقليمها من حولها، فتصل إلى لبنان تارة، وتلعب في داخل سوريا تارة ثانية، وتعبث على أرض العراق تارة ثالثة، وتمارس الجنون في اليمن تارة رابعة، وربما تفكر في عواصم أخرى، ثم تتناسى أن القضية أمامها ليست الوصول إلى هذه الدول، ولا التمدد في عواصمها، ولا التباهي بالقدرة على التحكم في سياساتها، لا ليست هذه هي القضية، ولكن القضية هي في القدرة على العودة الآمنة، إذا حانت لحظة الرجوع من هذه الدول كلها إلى طهران؛ حيث حدود الدولة الإيرانية الطبيعية، وحيث معالم خريطتها، وحيث ملامح تضاريسها، وحيث خطوط عرضها وطولها، التي لا بديل عن أن تكون هي فلك حركة الحكومة ومدارها في نطاقها!
ولا عودة آمنة إلا إذا أيقنت حكومة المرشد خامنئي، أن عليها أن تطوي صفحة الثورة في ذكرى مرور أربعين سنة على قيامها في فبراير (شباط) من هذا العام، وأن عليها أن تبدأ صفحة مغايرة هي صفحة الدولة، وأن الانتقال من صفحة الثورة إلى صفحة الدولة، لا يكون بالهرب من المأزق الذي تجد نفسها فيه حالياً، عبر أفكار هي وليدة ضغوط اللحظة عليها، ولكنه يكون بمراجعة مسيرة دامت أربعين عاماً، فلم تجلب سوى التوتر على مستوى الإقليم، ولم تثمر سوى المتاعب في حياة كل إيراني، ولم تكن إلا سنوات محذوفة من عمر المنطقة في سلامها، وفي أمنها، وفي قدرتها على توظيف مواردها لصالح أبنائها!
لقد أرسلت الخارجية الإيرانية مساعد وزيرها في جولة يزور خلالها ثلاث دول من دول الخليج، وفي كل محطة من المحطات الثلاث كان يبدو داعياً إلى التهدئة، وكان يظهر مروجاً للفكرة التي ألقاها وزير الخارجية محمد جواد ظريف، وقت أن كان في العراق قبل أيام!
كان ظريف قد عرض استعداد بلاده لتوقيع معاهدة عدم اعتداء مع دول الخليج، وكانت هذه هي ربما المرة الأولى التي يعرض فيها فكرة كهذه، ولا أحد يعرف ما إذا كان قد عرضها تحت وطأة الضغط الهائل الذي تمارسه الولايات المتحدة هذه الأيام على صانع السياسة الإيرانية، أم أنه يعرضها عن قناعة بها، وعن رغبة حقيقية في أن تكون علاقة إيران بجيرانها علاقة سوية، تقوم على الإقرار بسيادة كل دولة جارة على أرضها، واحترام حقائق الجغرافيا التي لم تكن لدولة يد فيها؟!
لا أحد يعرف؛ لأن ظريف لم يشأ أن يعطي تفاصيل أكثر حول فكرته، ولم يذهب في اتجاه شرحها لأبعد من مجرد طرحها كعنوان لا يزال معلقاً في الهواء، دون أن يقف على أرضية صلبة تحمله، واللافت أنه لم يخرج شيء عن أي مستوى رسمي إيراني أعلى، يكشف بعضاً من غموض يكتنف هذه المعاهدة المقترحة، أو يضيء أبعادها، أو يتولى بالشرح حقيقة مراميها، باستثناء مستوى الخارجية طبعاً التي ربما ألقتها لتكون بالون اختبار، لا أكثر، أو لتكون نوعاً من السعي إلى تخفيف الضغوط الأميركية المتلاحقة، وبالذات ضغوط النفط والاقتصاد، التي يبدو أنها أرهقت الخزانة العامة الإيرانية كما لم ترهقها ضغوط من قبل!
والحقيقة أن الحديث عن رغبة في توقيع معاهدة بهذا المعنى، يتبدى وكأن الهدف من ورائه هو مجرد العبور فوق الأجواء الغاضبة التي تحاصر الجمهورية الإسلامية، منذ أن أرسلت إدارة الرئيس ترمب حاملة طائراتها الأشهر إلى الخليج، ثم أتبعتها بصواريخ «الباتريوت» وطائرات «الشبح»، وراحت تعبئ العالم ضد سياسة إيرانية منحرفة، لا تعبأ بأمن دول في الجوار، ولا تبالي بسلام منطقة بأسرها!
فالمسألة في حقيقتها ليست في توقيع معاهدة عدم اعتداء، يمكن أن تظل حبراً على ورق، شأن معاهدات كثيرة من هذا النوع، ولكنها في تعديل سلوك إيراني معتمد في محيط إيران العربي، منذ قامت ثورتها قبل أربعة عقود، والمسألة هي كذلك في مراجعة أداء سياسي إيراني، ثبت بالتجربة على الأرض أنه لن يقود في النهاية إلى شيء، إلا إلى إشاعة أجواء من عدم الاستقرار، تتمدد في كل الاتجاهات في كل صباح، وإلا إلى شيوع الغيوم في سماوات عربية لم تكن على هذا القدر من التجهم قبل ثورة الملالي! كم تحدثت حكومة في طهران من قبل عن رغبة في حوار مع الجيران، وخصوصاً مع الرياض، وكم تكلمت عن استعداد لمد جسور من التعاون، وكم لمحت إلى أنها ترغب في أن تبني طريقاً من الثقة بينها وبين الدول الجارة على الشاطئ الآخر من الخليج، وكم كنا نصدق وننتظر البرهان والدليل، فكنا نكتشف أن لسانها يجري بمثل هذه الوعود، وأن يدها تبدد كل أثر للوعود نفسها في صنعاء، وفي دمشق، وفي بيروت، وفي بغداد، وربما في المنامة أيضاً! هذه عواصم عربية، وسوف تبقى كذلك، وإيران دولة جارة لبعض هذه العواصم، وسوف تظل، وهي تعرف أنه ليس في إمكانها تغيير حدودها، ولا تبديل موقعها على الخريطة، ولكن في مقدورها أن تعيد حساباتها بجد، مدفوعة بحقائق الواقع، وأن تراجع مسيرة العقود الأربعة بصدق، في لحظة تجد نفسها فيها واقعة عند عين العاصفة، فحساب الحقل لديها، والحال على ما تراه ونراه، ليس على حساب البيدر، كما يقول الإخوة في أرض الشام!