حنا صالح:عن موازنة في بلد منهوب مسلوب القرار

50

عن موازنة في بلد منهوب مسلوب القرار
حنا صالح/الشرق الأوسط/23 أيار/2019

منذ أسابيع تناقش الحكومة اللبنانية مشروع موازنة عام 2019 الذي انصرم ثلثه، ويعلن كبار المسؤولين أن محور البحث يهدف إلى تلبية الشروط الإصلاحية التي تم التعهد بها أمام مؤتمر «سيدر» والمؤسسات المالية الدولية. وبيّنت المناقشات، رغم محاولات البعض إسباغ الجدية على مواقفهم، أن كل المطروح هو موازنة محاصصة لا تحمل حلولاً ولا تفتح أي أفق، بل تعبّر عن إفلاس سياسي وغياب للرؤية، والأهم انعدام المسؤولية.

يقول وزير المال إن البلد ينفق 26 ألف مليار ليرة والواردات 16 ألف مليار، وإن العجز الذي سيفاقم المديونية هو 10 آلاف مليار ليرة. الأرقام بهذا الشكل تعني أن الوضع كارثي مخيف ما يدبُّ الذعر بين الناس من أن الانهيار يقرع الأبواب والإفلاس هو المصير المحتوم. طبعاً الوضع صعب والديْن العام تجاوز الـ100 مليار دولار، لكن وراء اجتزاء الطرح رغبات بإملاءات تعكس عقلية تحالف المحاصصة الطائفية الحاكم الذي يريد شراء الوقت ليس لتحمل المسؤولية عن نتائج سياساته بقدر ما يريد فرض المقايضة التالية: على القطاع المصرفي أن يتحمل جزءاً من المسؤولية (رفع الضريبة على أرباح الودائع من 7 إلى 10 في المائة) ويقابله مزيد من الضرائب على القطاع العام وسطو على مخصصات التقاعد لتحميل الفئات الأضعف الجزء الأكبر من تبعات هذه السياسات الخطيرة، وإلاّ…لا رواتب وانهيار وإفلاس إلى آخر المعزوفة!

أبرز التحالف الحاكم حرصه على عدم مس السياسات المرسومة لمصلحة الأقوياء والأثرياء، ورفض أي إشارة إلى مكامن النهب المعلن وسرقة أموال البلد المسلوب القرار والمستتبع لمحور الممانعة، وقرر بوعي تحميل الفئات الفقيرة والمتوسطة كلفة العجز والهدر الناجمين عن السطو المعلن على المال العام، ولو أدى ذلك إلى دفع لبنان إلى الهاوية. يرتكز هذا التحالف على بندقية «حزب الله» ودويلته، ويضم مجموعة أمراء الحرب والمال والمجموعة المصرفية الكبرى.

ولمن لا يعرف، فإن هذه المجموعة ولا سيما فئة «ألفا» التي تضم 12 مصرفاً رئيسياً بلغت أرباحها الصافية في عام 2018 أكثر من 2200 مليون دولار بعدما كانت 1120 مليون في عام 2011، والمفارقة أن تضخم أرباح هذه الجهة التي تستأثر بأكثر من 90 في المائة من الودائع التي تفوق 180 مليار دولار، تجاوزت الـ7 في المائة سنوياً رغم سنوات القحط والعجز وتراجع النمو إلى ما دون الصفر على ما تشير إليه الأرقام الرسمية!

سجّل الناتج العام نحو 55 مليار دولار في عام 2018، ومن هذا الرقم ينطلق المسؤولون ليعلنوا أن ليس باليد أفضل مما كان، وبقصد ذر الرماد في العيون يتحدثون عن الأملاك البحرية، والتهرب الجمركي ويتخذ مجلس الوزراء قراراً إعلامياً بإقفال المعابر غير الشرعية، ويتردد أن عددها 146 معبراً تُستخدم للتهريب، ويكتفون بأحاديث عامة لا ترتب أي مسؤولية لأنهم يتعمدون تغطية الاقتصاد الأسود الذي يدمر البلد عندما تحرم الخزينة من جزء كبير من المال العام الذي يصب بداية في مالية الدويلة، وتالياً في حسابات القوى الطائفية، كلٌ حسب حجمها وأصالة دورها في هذا الاقتصاد!

وفق الاقتصادي روي بدارو يقارب الاقتصاد الأسود نحو 50 في المائة من الناتج العام، وإذا جرى وضع عمليات الفساد المعروفة جانباً، والمقصود الصفقات بالتراضي التي تتم خارج المناقصات القانونية، والمحاصصة الطائفية والمحسوبيات والرشوة على أنواعها والأرقام بمئات ملايين الدولارات، هناك إجماع على أن محميات الاقتصاد الأسود تتركز في التهرب الجمركي، حيث تتجاوز 2.5 مليار دولار، ومثله التهرب الضريبي، والتهرب في الأملاك البحرية والعامة أكثر من ملياري دولار، وتبعاً لما أورده الاقتصادي الدكتور أنطوان حداد تتجاوز الـ8 مليارات دولار أرقام الهدر في الكسارات والمقالع والمولدات الكهربائية والعمالة غير النظامية والمخدرات والاتجار بالبشر، ويقدر البنك الدولي كلفة النظام الزبائني بنحو 4.5 مليار دولار.

في مثل هذا الوضع وحكومة «إلى العمل» التي أنهت الـ100 يوم الأولى دون أي إنجاز يُعتد به، من الوهم الرهان على إجراءات إنقاذية، فأمام عموم اللبنانيين انهارت المحاولة المتواضعة لخفض العجز نتيجة اصطدام التحالف الطائفي بتراكم «الامتيازات» التي أوجدتها الزبائنية السياسية… انفجرت إضرابات «المحظوظين» دفاعاً عن هذه «الامتيازات»، وشهد البلد نزاعات شعبوية لرفع الضغط كي يتفاوضوا على شروط أنسب بين أهل المحاصصة، فترنحت محاولة إيجاد مقاربة موحدة لسقف الرواتب في الوظيفة العامة. هنا نفتح مزدوجين للإشارة إلى أن المسؤولية تقع على عاتق السلطة لأنها هي الجهة التي شرعت الفساد بالقانون؛ ما أتاح لفئات من الموظفين أن يتقاضوا رواتب سنوية عن 16 شهراً أو 14 شهراً وصولاً إلى تقاضي البعض رواتب عدة، أو كما في السلك العسكري، حيث يتم تقاضي تعويض إضافة للتقاعد!

يعلم المواطنون أن الخلل المالي ما هو إلا نتيجة تواطؤ رسمي بين كل أطراف لجنة الحكم، ويعرفون أين هي مزاريب الهدر والفساد ومن يشرف على البوابات غير الشرعية في المرفأ والمطار والمعابر البرية، ويعرفون كيف يتم إدخال المنتجات المختلفة من دون رسوم، ويعرفون بدقة أين تقوم المحميات المستقلة عن الدولة ومفهومها… ولأن مرجعيات الحكم الطائفية هي وراء تغلغل شرايين الفساد في أوصال الدولة؛ ما رسّخ النظام الطائفي والزبائنية المرتبطة به، سيكون من المحال توقع أي إصلاح لأن المستأثرين بكعكة الحكم هم من يتحمل المسؤولية عن استمرار لبنان بلداً منهوباً مسلوب القرار، في حين أن الحد الأدنى من الخطوات الجدية بمواجهة الاقتصاد الأسود والفساد القانوني يتيح توازن الموازنة وبدء مسيرة إطفاء الديْن.

ويبقى أن اللبنانيين استمعوا لتسريب صوتي لأحد مسؤولي صندوق النقد الدولي، أشار فيه إلى أنه لو طبقت الدولة القوانين مع إصلاحات بسيطة ومن دون ضرائب، بوسعها الحصول على إيرادات إضافية سنوياً بين 6 و8 مليارات دولار، لكن أولوية أصحاب القرار حماية اقتصادهم الأسود ولو أدى ذلك إلى انفجار اجتماعي!