لقمان سليم/من ‘حزب الله’ إلى رستم غزالة وجبران باسيل: هدايا مُفخَّخة إلى ‘أصدقاء’ حتى إشعار آخر

232

من ‘حزب الله’ إلى رستم غزالة وجبران باسيل: هدايا مُفخَّخة إلى ‘أصدقاء’ حتى إشعار آخر…
لقمان سليم/الحرة/07 أيار/2019

عشيَّة الانسحاب العسكري السوري من لبنان ـ وهو، للتذكير، انسحاب مهَّدت له محطات عدة أبرزها القرار الأممي 1559 (2 أيلول/سبتمبر 2004)، واغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري (14 شباط/فبراير 2005) ـ عشية ذلك الانسحاب الذي كان الشروع فيه يوم 26 نيسان/أبريل 2005، قام العميد الركن رستم غزالة “رئيس جهاز الأمن والاستطلاع” (أي جهاز المخابرات)، في القوات الأسديَّة المنتشرة في لبنان، يرافقه قائد تلك القوات، اللواء فايز الحفار، بـ”جولة وداعيَّة” على عدد من أعيان النظام اللبناني. وممن ذهب الوفد لوداعهم، حسن نصرالله، زعيم ميليشيا “حزب الله”، المتسمية أحيانا، أي عند الحاجة، بـ”المقاومة الإسلامية”.

عرفانا من “حزب الله”/”المقاومة” بما كان للجيش الأسدي وأجهزته الأمنية من جمائل عليهم خلال السنوات المديدة التي شاركهم فيها هذا الجيش احتلال لبنان، وتوكيدا على أن الانسحاب ليس آخر العهد بالرَّحم التي تصل بين التنظيم الإيراني الهوى والإمرة والنظام الأسدي ـ أهدى نصرالله رستم غزالة بندقية زعم السيّد المهدي أن رجاله غنموها من الجيش الإسرائيلي يوم أن كان هذا الجيش يحتل، شأنه شأن الجيش الأسدي، أجزاء من الأراضي اللبنانية.

من حق هذه الهدية أن تُقْرأ كنعي نهائي للبنان
يومذاك، لم يتجاوز رد الفعل اللبناني على مبادرة حسن نصرالله، العتب ـ ولو أن بعض هذا العتب لم يخل من قسوة. ولا عجب في ذلك: فزعم “حزب الله” بأن الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان كان تحريرا، وزعمه أنه صاحب الفضل في إنجاز هذا التحرير كان لا يزال مستوليا على فئات واسعة من اللبنانيين، ومن لم ينطلِ عليهم من اللبنانيين هذا الزعم آثروا في معظمهم مجاملة “حزب الله”، والالتزام بسرديته التحريريَّة، طمعا بأن تـكْسِر هذه المجاملة عيْنَه، مؤملين أن تمهِّد له هذه المجاملة طريق “التلبنن”، أي تقديم المصلحة اللبنانية على أجندته الإقليمية.

إلى دَيْنِ التحرير الذي ألزم به اللبنانيون أنفسهم منذ عام 2000، وهو الدَّيْن الذي يترجم عن نفسه، من إذاك، ارتهانا مُسْتَغْلِظا من طرف الدولة اللبنانية ومسؤوليها لأمر “حزب الله” وحكمه، لا بأس أن يتذكر الواحد منا والواحدة أن اتهام “حزب الله” بالمشاركة في تدبير اغتيال رفيق الحريري، وفي تنفيذه، لم يكن غداة الاغتيال، وقبل أن باشرت لجنة التحقيق الدولية عملها (منتصف حزيران/يونيو 2005)، بالصراحة والوضوح الذين تدرج إليهما شيئا فشيئا، وأن خروج الجيشِ الأسديِّ، في نيسان/أبريل 2005، كان المُقَدَّم، لدى الكثرة الكاثرة من اللبنانيين، على الوقوف على الحقيقة واكتشاف القاتل/القتلة.

مقول القول: مَرَّ إهداء نصرالله “بندقيَّة المقاومة” إلى رستم غزالة على اللبنانيين مرورا خفيفا لم يكلف معه إلا مَنْ رَحِمَ ربي أنفُسَهم مشقة التأمل في المشهد وفي الهدية وفي ما قد يكون لهما من معان ومن دلالات. على أن ما مَرَّ به اللبنانيون سريعا وسِراعا لم يلبث أن نَثَرَ نفسه بنفسه… فما هي إلا سنوات قليلة كان الأوجُ منها مغامرة تموز/يوليو 2006، حتى أخرج حزب الله بنادق المقاومة والتَّحرير المزعومين مِنْ مَسالِحِها، وصوبها في أيار/مايو 2008 جهارا نهارا إلى نحور اللبنانيين المخالفين عليه.

وإذ اتخذ “حزب الله” من “السلاح لحماية السلاح” شعارا لحملته التأديبية التي لا بدّ من الاعتراف لها بأنها أتت أُكُلها بدليل ما تَحوَّله استعلاء “حزب الله”، على مر السنوات الماضية، من “سَطْوَة بَلْطَجَة”، بالمعنى الحرفي للكلمة، إلى وصاية كاملة الأوصاف على الدولة ومؤسساتها تتوسَّل، حسب المقام والمقتضى، بما ترى أنه الأوْصَل لها إلى مبتغاها من وسائل خشنة أو ناعمة.

هذا في لبنان. أما في سوريا، فتتمة القصة مستغنية عن البيان أو تكاد: بعد انسحاب الجيش الأسدي من لبنان، وما خلا إشارات إلى رستم غزالة بوصفه أحد المشاركين في تدبير اغتيال رفيق الحريري، خمل ذكر الرجل رغم تعيينه على رأس الفرع العسكري لمخابرات ريف دمشق.

وأقام الأمر كذلك إلى حين اندلاع الثورة السورية التي يُؤرَّخ لبداياتها، في عداد بدايات أخرى، بما كتبه مراهقو درعا، جارة قرفا، مسقط رأس غزالة، على جدران مدرستهم من شعارات تستلهم لغة الربيع العربي، وتتوعد “الدكتور” (بشار الأسد) بأن دائرة السقوط لن تلبث يوما من أن تدور عليه.

لم يتأخر رستم غزالة في القيام بما يُمليه عليه الولاء لآل الأسد من واجب في قمع الثورة ولم يتقاعس فَعُيِّنَ في تموز/يوليو 2012 رئيسا لجهاز الأمن السياسي وبقي في هذا المنصب إلى تموز/يوليو 2015 حيث قضى في ظروف غامضة تليق بمهنة الأمن التي صنعت مجده، وشُيِّعَ إلى مثواه الأخير بلا مراسم ولا من يحزنون، ما لم يدع للشك مجالا بأن صنائعه في لبنان وسوريا لم تشفع له عند أولياء أمره.

بصرف النظر عن هذه الجزئية من سيرة رستم غزالة، ولو أنها أهل لمزيد تأمل، فالعبرة مما تقدم ليس ما آل إليه الرجل وإنما ما آلت إليه البندقيَّة! بلا تردد يمكن الجزم أن البندقيَّة التي أهداها نصرالله إلى غزالة أطلقت رصاصها على الشعب السوري حتى من قبل أن خرج هذا الشعب مطالبا بالحرية والكرامة، وبهذا المعنى، وبلا تردد أيضا، يمكن الجزم أن اللبنانيين الذين سكتوا في 2005 عن إهداء تلك البندقيَّة إلى أحد رموز إذلالهم، في عقر دارهم، مسؤولون أخلاقيا عمَّن أَطْلَقَتْ عليهم هذه البندقية النار من سوريين وسوريات، (علاوة بالطبع عن مسؤوليتهم السياسية والأخلاقية عن تدخل “حزب الله” في سوريا)، ومسؤولون، اليوم، أخلاقيا قبل أي شيء آخر، عن كل ما يُصيبُهُم وقد يصيبهم من جراء استيلاء “حزب الله”/”المقاومة”، في منأى من أي تمييز مَوْهوم بين هذين المُسَمَّيَين، على الدولة والمؤسسات، بل على مرافق الحياة الوطنية كافة.

أحيا لبنانيون الذكرى الرابعة عشرة على انسحاب الجيش الأسدي من لبنان؛ أما لبنان فلم يحتفل بهذه الذكرى!
في 26 نيسان/أبريل الماضي أحيا لبنانيون، فرادى، وفي الأكثر على وسائل التواصل الاجتماعي، الذكرى الرابعة عشرة على انسحاب الجيش الأسدي من لبنان؛ أما لبنان فلم يحتفل بهذه الذكرى! وواقع الحال أن لا ما يبرر للبنان أصلا أن يحتفل بها.

فالبندقية التي أهداها نصرالله ذات يوم لغزالة، والتي مات عنها غزالة، غير مأسوف بالطبع عليه، هي الوديعة القاتلة التي تفتك اليوم باللبنانيين والسوريين وبكثر آخرين. وليس مناسبة استذكار هذه الوديعة ما مضى هذا العام أيضا من 26 نيسان/أبريل، وإنما هدية “حربية” أخرى ذيَّلها “حزب الله” بتوقيعه وكانت هذه المرة من نصيب وزير الخارجية اللبناني، رئيس “التيار الوطني الحر”، صهر رئيس الجمهورية اللبنانية، جبران باسيل.

ففي الخامس من أيار/مايو الجاري قام المذكور بزيارة إلى منطقة جبيل، ذات الأكثرية المسيحية، زار خلالها، في ما زار، قرية راس أسطا، إحدى القرى/الجيوب الشيعية المبثوثة في أعالي تلك المنطقة. على نهاية الزيارة أهدى مسؤولو “حزب الله” إلى الوزير الزائر بقايا مقذوف حُفِرَتْ عليه عبارة “تقدير ومحبة [إلى] معالي الوزير المقاوم” وكُلِّل رأسه بالعلَمَين الأصفر والبرتقالي ـ علَمي “حزب الله” والتيار الوطني الحر ــ تدليلا على شراكتهما في “المقاومة”. وبما أن لكل مُهْدى مَحلَّه من الإعراب في جملة “حزب الله”، فلقد أرفقت الهدية التي نالها “الأقَلّي المسيحي المشرقي” جبران باسيل بالإشارة إلى أن المقذوف هذا من بقايا الذخائر التي استخدمتها “المقاومة” خلال معركة “تحرير جرود عرسال من الإرهاب” عام 2017.

لم تَفُت الطبيعة الحربية للهدية أهل التحليل السياسي، ولا فاتهم توقيتها؛ فعشية أن تلقى جبران باسيل المقذوف الإلهي من يد الرضى بشخص الشيخ محمد عمرو، كان الأمين العام للأمم المتحدة قد دعا الحكومة اللبنانية مجددا، بمناسبة تقرير دوري، إلى الانكباب على صياغة استراتيجية دفاعية تكفل لها، (للدولة)، التفرد بامتلاك القوة العسكرية دون سواها من أحزاب وميليشيات، مُسميا “حزب الله” بالاسم، ومُنَبِّها إلى خطورة دوام الحال على ما هو عليه، ومستبقا تذرع الحكومة بأن الأولية لمعالجة الشأن الاقتصادي بالتسوية بين هذا الشأن وبين الشأن السيادي وضرورة احترام القرارات الدولية.

بالطبع، من حق هذه الهدية أن تُقْرأ قراءة حَدثيّة بلحاظ ما سبقها وما تلاها، ولكن من حقها أيضا أن تُقْرأ على حرف آخر لا شأن له بالأمين العام للأمم المتحدة وبدعواته المتكررة الرتيبة إلى الحكومة اللبنانية أن تحمل نفسها ومسؤولياتها على محمل الجد ـ أنْ تُقْرأ كنعي نهائي للبنان بوصفه مَحَل تزاحم بين سياستَيْن تنشد إحداهما أن تُحافظ “الدولة” على حد أدنى من المكانة الاعتبارية، وتسعى الأخرى إلى تكريس الأمر الواقع الذي مفاده أن “الدولة” خادم بتصرف “الدويلة” ورهن إشارتها.

البندقية التي أهداها نصرالله ذات يوم لغزالة، هي الوديعة القاتلة التي تفتك اليوم باللبنانيين والسوريين وبكثر آخرين
لم يخطر ببال رستم غزالة، على الأرجح، يوْما، أن جبران باسيل، أو من هو في حكم باسيل، سوف يتلقى، هو أيضا، هدية حربية من “حزب الله” شُكرانا له على مآثره وفي الطليعة منها السمع والطاعة. ولكن جبران باسيل يعرف جيدا أن “حزب الله”، بشخص أمينه العام، أهدى رستم غزالة، ذات يوم، بندقية، ويعرف جيدا أن في سجل هذه البندقيّة العدلي جرائم لا تُعَد ولا تُحصى في لبنان وسوريا وفي سواهما، وأن في سجلها العدلي مفاسِدَ وشرورا وارتكابات لا تُطَفِّف منها، ولا تصفح عنها، ما قد تكون هذه البندقية قد تصدت له من احتلال إسرائيلي.

لا مضاهاةَ ممكنة بين سيرة رستم غزالة وسيرة جبران باسيل، ولا بين الظروف التي تلقى فيها الأول البندقية الغنيمة، والظروف التي تلقى فيها الثاني بقايا المقذوف الذي تريد الرواية أنه أُطلِق ذات يوم في صدر “إرهاب” لا يختلف اثنان على عداوته، غير أن تَعَذُّر المضاهاة في هذين المقامَيْنِ لا يَحْتَجُّ لجبران باسيل بل يُقيم الحُجَّة عليه. فباسيل يعرف جيدا اليَدَ التي أهدته الهدية، ويعرف جيدا مَنْ سبقه إلى تلقي هدية من اليد إياها، ويعرف جيدا ما انتهى إليه خليفته في الهدية من مصير، وما استعملت في سبيله الهدية تلك، ويعرف ويعرف مِمّا لا يَحتاج أن يُذَكَّرَ به، وأما ما يبدو أنه يفوت باسيل، ويفوت آخرين لا تتصدر الهدايا التي يتلقونها الصفحات الأولى، ولا يعمر بها الفضاء الافتراضي، فأن المرءَ مسؤول عَمّا يَعرفه، ويُحاسب عليه بمقدار ما يُحاسب على ما قد يكون جرى على يديه من دم أو فساد!