الياس الزغبي (من أرشيف عام 2016): إنّه زمن لا وجَل ولا خجَل … ولأنّ اللاخجل بلغ هذا الحدّ، وصل لبنان إلى المفترق الوجودي: يبقى دولة ووطناً أو يزول

94

لا وجَل ولا خجَل

إنّه زمن لا وجَل ولا خجَل … ولأنّ اللاخجل بلغ هذا الحدّ، وصل لبنان إلى المفترق الوجودي: يبقى دولة ووطناً أو يزول
الياس الزغبي/09 نيسان/16

وماذا بعد الحضيض؟
في واقع الأُمم والدول، هناك عيوب وسقطات وحالات انحطاط وفساد، تُصيب قطاعاً ما، أو منحى معيّناً في السياسة أو الاقتصاد أو الأمن أو الثقافة أو الأخلاق، وفي فترة ما. لكن، أن يكون الانحطاط شاملاً والتخلّف عاماً والفساد معمَّماً في المكان والزمان، فهذا “امتياز” لبناني لا منافس فيه، حتّى في “جمهوريّات” المافيا والموز. كنّا نأسف ونبكي على انهيار المستوى السياسي وضياع السيادة والاستقلال، منذ عقود ثلاثة على الأقلّ، وها نحن اليوم نبكي على انهيار الأخلاق والحسّ الوطني، واستباحة المحرّمات في المجتمع والدولة، وفلتان الضوابط في كل المجالات والمرافق والإدارات والمرجعيّات.

فهل هذا كلّه مجرّد إنذارات من السقوط، أم هو السقوط نفسه؟ كمن يسيرون في نفق وأعينهم مفتوحة على العتمة. ومن لا يزال يرى بصيصاً من بينهم لا حول له ولا طَول. أصحاب العيون الرائية باتوا عجزة وأشبه بشهود زور، بمن فيهم ناشطون مدنيّون وقادة رأي ومثقّفون وكتّاب وحاملو مصباح ديوجين.

جميعنا نشهد بساديّة غريبة على سقوط لبنان، هذا الـ”بزرجمهر” المحكوم بالإعدام أمام شهود جبناء، وحسناء ما كانت لترفع سترها “لو أنّ في هذي الجموع رجالا”! ما يحصل في هذه الجمهوريّة المنكوبة بسادتها وزعاماتها يندى له الجبين: دولة بلا رأس ويطمر مسؤولوها رؤوسهم في القمامة، حكومة بلا بوصلة ويتخبّط ركّابها في الشؤون الصغيرة وحصص السلطة، مافيات على مدّ النظر ومرجعيّات المحاسبة متورّطة فيها على قاعدة “حاميها حراميها”، غرق في السمّ المذهبي حتّى النخاع، وتشاتم من فوق صنوبر بيروت وسطوح العفن الطائفي، ومزرعة سائبة لنهب الزرع والضرع.

ويذهبون إلى حصصهم البلديّة تحت راية الانتخابات، ويزايدون في التوافق، أو التسويات بحجّة الاعتبارات المحليّة والعائليّة وتشتّت الحزبيّات. فلماذا يسموّنها انتخابات إذاً، وهم يحوّلونها إلى محاصصات مفتوحة؟

وطالما أنّهم يصرّون على توصيفها بالانتخابات، فلماذا هم قادرون على الانتخاب من تحت وعاجزون عنه من فوق؟ ففي بعض البلدات والمدن حيث لا يحصل توافق الحصص لا بدّ من انتخابات ومعركة. أليست رئاسة الجمهوريّة كبرى المدن، بل مدينة مدائن لبنان؟ فليفعلوا في الرئاسة ما يفعلون في بعض مدنهم وبلداتهم. هنا انتخابات ديمقراطيّة لتعذّر التوافق، وهناك، في الرئاسة، يصحّ الأمر نفسه. لم يتوافقوا على مرشّحَي “8 آذار”، فليذهبوا إلى جلسة انتخاب ديمقراطيّة، تماماً كما في البلديّات. أم تُراهم يرضخون، طوعاً أو قسراً، لما يفرضه السلاح، وبعضهم يضحك في سرّه لبقاء الكرسي الأُولى شاغرة، كي تستكمل الذئاب نهش القطيع في غياب الراعي والحرّاس. ولكنّ هذه الصورة السوداء لا تشبه معنى لبنان وفرادته ورسالته وتاريخه، وقد أظهر قادة العالم حرصاً عليه أكثر من معظم قادته. إنّه حاجة لمحيطه والعالم، وبعض أهله لا يحتاجون إليه، لأنّ وطنهم الحقيقي في حقائبهم السياسيّة والماليّة، وفي ارتباطهم بمشاريع الآخرين.

ولأنّ اللاخجل بلغ هذا الحدّ، وصل لبنان إلى المفترق الوجودي: يبقى دولة ووطناً أو يزول. بعض زعمائه لا يرون أبعد من مصلحة ذاتيّة، تبدأ في عضو اختياري أو بلدي، وموظّف هنا أو هناك، وتصل إلى كرسي الرئاسة. وآخر همّهم مصير لبنان في الترسيمات والصياغات الجديدة للمنطقة. وبعد موت حمارهم لا حاجة للحشيش. ويترحّم اللبنانيّون على كبارهم في زمن العقل والحكمة والرؤية والرأي، ويؤسفهم أن يخلف هؤلاء الكبار من ليس أهلاً لفكّ رباط نعالهم.هكذا ابتُليت أُمم وشعوب في مرحلة انحطاطها.
إنّه زمن “لا وجَل ولا خجَل”.